وهي لغة الماضي التي تحمل ما حملت عليها؛ لأنها صافية كالحق، منزهة عن الريب كالواقع؛ فإذا وصفت بها الخير كانت كالمرآة المجلوة، أشرق فيها وجه جميل؛ فملأ صفاءها جمالا وفتنة. وإذا صورت بها الشر كانت كالمرآة، ووجه الزنجي؛ يملؤها سوادا، ولكنه لا يطمس على شعاعها، وتضيف إلى سواده لمعان نورها ما دام فيها! •••
كتبته بلغة الأحلام؛ والأحلام هذه إنما هي بعض ما مات منا، أو ما مات لنا؛ فإن استحال رجوعنا في هذا العمر عودا على الماضي؛ فهي رجوع الماضي إلينا؛ ومن ثم كان في لغتها شيء ظاهر من روعة الخلق، وكانت لها معان كأنها راجعة من سفر بعيد إلى شوق طال به الصبر.
كتبت كتابة قال الغافلون: إني أتكلف لها خيالا ورواية؛ وقال العاشقون: إنها كلام قلوبهم، وقال الذين يفهمون الكلام: إنه هو في كلامه!
ولقد كنت من نفسي يومئذ كمن لو ضربه الحب بقشة لجرحه جرحا يدمى،
2
وكنت أكتب عن ساحرة تبسم حتى لتظن أنها لم توت وجها تعبس به، ثم تكون مع ذلك شر ما هي كائنة من حيث لا تظن أنت بها إلا الذي هو خير وأهدى!
وكنت في ذلك الكتاب شاعرا، وحب الشاعر لا يخلو من الوزن ...؛ وكنت متفلسفا؛ وهيهات إن أصبت الحب أيها الفيلسوف إلا في امرأة معقدة، يؤلفها الله تأليفا من العسر بين فهمك ومعانيها؛ فلا جرم كان الكتاب في نوع من الحب المتألم لا يكون مثله إلا بين اثنين مسح الله يده على وجهه أحدهما، ثم مسح يده على قلب الآخر، ثم تراءيا بعد؛ فما لبث أن أشرق الأثر الإلهي على الأثر، ووقع القضاء في الحب على القدر!
ألا إن كل باب يفتح ويغلق بمفتاح واحد هو يغلقه وهو يفتحه، إلا باب القلب الإنساني؛ فقد جعل الله له مفتاحين: أحدهما يغلقه، ثم لا يغلقه سواه، وهو مفتاح اللذات؛ والآخر يفتحه، ثم لا يفتحه غيره، وهو الألم! •••
كنت أستوحي «الرسائل» من تلك النفس التي طارت بي طيرتها البطيء وقوعها؛ فإني لأستعر بها فكرا،
3
Page inconnue