ولكنه من معنى ما يحب على بعد ما بينه وبين المستحيل؛ ابتلاه الله بالجريمة، ثم ابتلاه بالقصاص، ثم تمم عليهما بمصيبة في مقدار عذابهما معا، وهي رؤية أهله جميعا في حالة لا يملك فيها قدرة، ولا صبرا!
إنما يمسك الإنسان قوتان: قدرة يمضي بها؛ فيدرك فيطمئن، أو صبر يقعد به فيعجز فيطمئن؛ ولكنه متى امتحن بشيء لا يقدر عليه، وهو مع ذلك لا يصبر عنه، فقد وضعه الله من ثمة في حالة لا إنسانية، ولا وحشية، ولا دونهما، ولا فوقهما؛ إذ يسلط عليه كل القوى التي في داخله تدفعه بأشد العنف إلى القوى المحيطة به، ويغري المحيطة به ترميه إلى التي في داخله؛ فما إن يزال مرتطما بين هذه وتلك، وكأنه لشدة وقعهما يحطم تحطيما بين مطرقتين!
وهذه البلية من العذاب لا تتفق إلا في أشد ما يكره الإنسان حين لا يجد الإنسان منه مفرا، ولا يطيق عليه مقرا، وفي أشد ما يحب حين لا يقدر إلى حد اليأس، ولا يصبر إلى حد الجنون، وأحسب ما في الأرض منتحر قط أزهق روحه - إن لم يكن مجنونا - إلا وهو في إحدى هاتين الحالتين؛ فإن وجدت من يثبته الله على حالة منهما وجدته كالبقية من الحريق: إن لم تكن احترقت وذهبت، فقد احترقت وبقيت! •••
أجرم السجين فأخذ بذنبه، فما ذنوب هؤلاء جميعا؟ أهي إحدى الحقائق العليا الغامضة التي من أجل غموضها، واستبهام حكمتها يقول الحائرون: «كل شيء هو كل شيء!» ويقول المنكرون: «لا شيء في كل شيء!» ويقول المؤمنون: «كل شيء فيه شيء»؟
أم هي الحقيقة السهلة الواضحة من كل جهاتها، وإن أصبح الناس لا يفهمونها؛ إذ لا تحتاج إلى فهم، وإنما هم موكلون بما خفي ودق، كدأب هؤلاء العلماء والفلاسفة الذين يقطعون العمر في دقيق المباحث، وعويص التراكيب، ثم لا ينتهون من نتائجها إلا إلى النواميس المكشوفة انكشاف النور لكل ذي عين تبصر!
أهي الحقيقة السهلة التي تجزأت من أجلها آية الله، فيقول المنكرون: «لا علم!» ويقول الحائرون: «لا علم لنا!» ويقول المؤمنون: «لا علم لنا إلا ما علمتنا!»
15
ألا أيها القلب الإنساني المعجز؛ إن أيامك كلها مضي في سبيل الموت الأول، كما هي مضي في سبيل الحياة الأخرى؛ فأنت تسير في طريقين معا، وهذه هي معجزتك التي لا تفهم!
16
ونحن من ظلام الدنيا، ومن بحثنا عن الحكمة الإلهية الصريحة بوسائلنا الإنسانية العاجزة، كالذي يبغي أن تطلع عليه الشمس في ليله، ويبقى له مع ذلك ظلام الليل! يريد مستحيلين لا مستحيلا واحدا، وهذا هو عقلنا الذي لا يعقل!
Page inconnue