ثم الطفلان والرضيع أولاده، وقد جاءوا يودعونه، ويستودعونه؛ وحسبوا أن ليس بين رجلهم وبين الموت إلا هذا القاضي الذي مثل ببابه، فطرح الموت ظل فكره على وجوههم، وأخذ الرعب مأخذه فيهم؛ فما كانوا إلا كما يجتمع أهل الميت حول الميت.
رأيت أمه المفجوعة جالسة لا تحملها رجلاها، وعلى صدرها ذلك الرضيع تضمه كأنه قطعة من قلبها رجعت إليه، وتشد عليه بيديها شدة الجزع والحنان كما لو كانت تحسبه صلة بينها وبين ابنها، تنقل هذه الشدة بعينها إليه كما تنقل الكهرباء حركة المتحرك، وقد انطلقت دموعها، وفي كل نظرة إلى نكبة وحيدها مادة جديدة للبكاء!
وهي تنحني على قلبها حتى يداني وجهها الأرض، كأنها شعرت به ينكسر؛ فمالت ليلتئم صدع منه على صدع، ثم تعود فتعتدل؛ فيكاد ينشق قلبها فتضغطه بانحناءة أخرى؛ وهي في كل ذلك مرسلة عينيها تمطر مطرا، وكانت حين تنكف دمعها،
10
وتنحيه عن خديها، يتساقط من فروج أصابعها كأنه عدد أيام شقائها!
وحسب الرضيع أن هذه الحركة هدهدة
11
من أمه لينام، فنام هنيئا على صدرها، وأدفأه غليان هذا الصدر فضاعف لذة أحلامه! وإنما هو طفل سماوي لا يزال مس يد الله على جلده الرطب، فلو زفرت حوله جهنم فأحرقته لكفنته نسمة من نسمات الجنة؛ ويا سعادة من يستطيع بطبيعته أن ينقطع من وسائل نفسه إلى وسائل الله!
12
وأما زوجة الرجل - وهي شابة جزلة الخلق، ناضرة الصبا، تركها الحزن كالمرأة المهملة: تدل أنوار بريقها على مواضع الصدأ منها؛ فكانت واقفة تحمل على رأسها برمة أعدت فيها ما تعرف أن سيدها يشتهيه من طعامه، كأنها تريد أن تجعل من هذا الطعام الذي يحبه رسالة من الحب بين نفسها ونفسه ترسلها إليه في سجنه! ولما استقرت عينه عليها، أرسلت كل عواطفها في مجاري دمعها، وقد أيقنت أنه قطع بها دون عمادها، وزوجها، ووالد ابنها، وكنزها الذهبي الذي لا تملك غيره؛ فكانت تبكي لكل معنى من هذه المعاني بكاء بعينه، وتبكي على قدر وفائها الذي لا حد له، وحبها الذي لا صبر معه، ومصيبتها التي لا سبب فيها من أسباب العزاء؛ وكل نظراتها كانت تقول لزوجها: لك ما أبكي.
Page inconnue