وجاء صخر، شاهق هو إلى السماء، عريض الكتفين ضخم رائع التكوين عظيم البنيان. - كما شهدت من حروب، وإن عملي فيها بسيط، فإنني أتولى القيادة دائما وما هي إلا أن أجيل السيف جولة أو جولتين حتى يدرك الأعداء بلا أمل لهم وما هي إلا إغماضة عين أو انتباهتها حتى تكون الحرب قد انتهت، في يوم من الأيام نشبت الحرب بين قبيلة بهنس وفزارة، وكان البهانسة أصدقائي فأرسلوا إلي رسولا ...
وقص غضبان وقص، وكنت أحس مع كل قصة من غضبان نوعا من الأمن والطمأنينة يشيع في نفوس القبيلة فتشرق به وجوههم، وسأل شيخ القبيلة: ما أجرك؟ - ما نوع الحرب؟ - يريدون أن ينتقموا من يوم هزمناهم فيه. - فهي شر أنواع الحرب. - فلتكن ما تكون، ما أجرك؟ - اجمعوا لي خمسين ناقة سليمة لا عيب فيها ولا أود. - وبعد؟ - أرسل النياق إلى أهل بيتي ثم أقيم معكم حتى يوم الكريهة. - أتأخذ النياق قبل الحرب؟ - هكذا تعودت. - ليكن لك ما أردت. - وإني أحب أن أشرب الصبوح والغبوق. - وخمر أيضا؟ - لا أعيش بغيرها. - ولك ذلك. - أما إفطاري فقعب من اللبن، وإناء من السمن، وعشرة أرغفة وغدائي شاة وعشائي ... - وعشاء أيضا؟! - إن لم آكل فكيف أحارب؟ - وعشاؤك؟ - لا أحب أن أثقل في العشاء حتى يحسن نومي. نصف شاة تكفي. - لك ما أردت. - والنصر مؤكد لكم.
وأقام غضبان بيننا يروي عن أعماله، وانصرفت القبيلة جميعا إلى أعمالها؛ فقد آمنوا أن الحرب لن تنال منهم شيئا ما دام معهم غضبان، ولم يعد حديث الحرب يدور بينهم إلا إذا جلسوا حول غضبان يسمرون ويستمعون إلى أحاديثه عن حروبه التي لا تنتهي، وكنت جالسا إلى جانب سليمان حين التفت إلي فجأة. - لقد شاع الأمن في النفوس.
نظرت إليه ثم قلبت نظري في وجوه القبيلة، نعم لقد شاع الأمن. - نعم لقد شاع الأمن. - لقد صدق قولك، لا أحد يعرف متى يشيع الأمن. - نعم، لا أحد يعرف. - لقد شاع الأمن مع أن الحرب لم تنته. - تستطيع اليوم أن تتقدم إلى عمك. •••
كان الفرح عظيما، واجتمع الحبيبان بعد طول انتظار، وفرحت القبيلة باجتماعهما؛ فقد طالت بهم فترة القلق والخوف، وكانت النفوس منهم تهفو إلى فرح، أي فرح أكان فرح بنت شيخ القبيلة، ومرت شهور طويلة على العروسين، وبشرت العروس بمقدم طفل يحبو في أثباج الغيب، ورفرفت السعادة على القبيلة لا يذكرهم بالحرب إلا وجود غضبان بينهم يروي عن بطولاته، ويتناول مأكله الدسم وإن كان هذا المأكل لم يصبح له وحده وإنما كان يشاركه فيه كثيرون من أبناء القبيلة؛ فقد اتضح منذ اليوم الأول أنه ليس أكولا نهما كما أحب أن يصور نفسه لأبناء القبيلة. وإن كان في شرب الصبوح والغبوق يكثر ولكن إكثاره ما يلبث أن يتحول إلى أحاديث يمتع بها مستمعيه من أبناء القبيلة، ولعلهم من أجل هذا كانوا يلحون عليه أن يستمر في الشراب كلما أحب أن يكتفي.
لقد نشأ بين غضبان وأبناء القبيلة جميعا نوع من الألفة والحب والإكبار من جانبهم، والإيناس من جانبه. •••
حتى كان يوم فوجئنا فيه بنعمان أحد تجار القبيلة يدخل إلى أفناء الخيام يركض فرسه كالسهم النافذ، وقبل أن يوقف فرسه صاح: لقد جاء اليوم.
وما هي إلا لمحة من بصر حتى كانت القبيلة جميعها حوله. - كنت في السوق فرأيت جماعة كبيرة من الناس وسمعتهم يذكرون اسم قبيلتنا، فلم أشتر شيئا وجئت أسابق الريح. - متى تظنهم يصلون؟ - قبل أن تغرب الشمس.
وصاح شيخ القبيلة: يومك يا غضبان.
ونظر الجميع إلى غضبان، لم يكن غضبان هذا الذي نرى، لقد امتقع وجهه فهو أبيض ناصع البياض، وزاغت عيناه فهي هاربة في حفائرها كأنما تريد أن تغور داخل رأسه، بل جسمه الشاهق الضخم أصابته الضآلة فهو بعض من جسم.
Page inconnue