وقد يكون تعليل هذه الظاهرة في أدبنا، هو أن أديبنا قصير النفس، إذا قيس إلى الأديب الأوربي صاحب النفس الطويل، ثم قد يكون هذا النفس القصير فطرة فينا، ورثناها عن آبائنا مع سمرة اللون وسواد الشعر وكثافة الشفاه؛ فالأديب العربي منذ أقدم عصوره - فيما يقال - معروف بالتركيز والإيجاز؛ فتكفيه الحكمة الواحدة أو الفصل القصير، حين لا يكتفي الأديب الأوربي بأقل من قصة طويلة عريضة، قد تجاوز صفحاتها الألف؛ ليحلل فكرة واحدة، ويخلق لها الأشخاص خلقا ليلبسوها ويمثلوها في أفعال وأقوال.
أو قد يكون هذا النفس القصير عند أديبنا، نتيجة لضعف ثقافته وضيق أفقه، فليس لديه ما يقوله عن الفكرة أكثر من ثلاث صفحات أو أربع، في الوقت الذي يتمكن فيه الأديب الغربي بحكم ثقافته الواسعة العريضة أن يكتب الكتاب الضخم لتحليل الفكرة الواحدة، فيبرز ظلالها وأضواءها، ويجعلها كائنا حيا يسعى على قدميه؟!
ثم جاءت الصحافة عاملا آخر، قضى على الأدب العربي قضاءه الأخير، وبات معه حتما مقضيا على هذا الأدب أن يظل على صورته الممسوخة الشائهة البتراء، التي لا تسمح للأديب أن يستقر على أثره الأدبي حينا من الدهر يكفي لتسويته كائنا كامل الأعضاء، كما يفعل أدباء الغرب بما ينتجون من آثار.
جاء عامل الصحافة، فقضى على أديبنا أن يكون صحفيا في إنتاجه لا خالقا متأنيا مبدعا؛ ذاك أن الصحافة استعانت بالأدباء، فكان لها الفضل على الأدب مرة واحدة، لكنها كانت جناية على الأدب ألف مرة. أما فضلها فهو أنها أتاحت لكثير من الأدباء فرصة العيش المتواضع حينا، والمعتدل حينا. وأما جنايتها الكبرى فهي أنها صبت الأدباء في القالب الذي تريد، فإذا الأدباء في يدها مأجورون لا يكادون يسطرون من أجل الفن الخالص سطرا واحدا، إنما يكتب أديبنا ما يصلح للصحف وما يقبله منه رئيس تحرير الصحيفة. وللصحف ورؤساء تحريرها أساس يحكمون به أبعد ما يكون عن الأساس الذي يرضاه الفن الرفيع، وإذن فقد بات أدباؤنا في واد، ومقاييس الفن الرفيع في واد آخر.
كيف يكتب الأديب المصري اليوم؟ وماذا يكتب؟ هنالك صحف يومية أو أسبوعية أو شهرية، تركزت في أيديها قوة الشراء، بحيث أصبح محالا أو قريبا من المحال أن ينافسها منافس تواضعت موارده المالية. وهذه الصحف القوية بمالها هي أيضا واسعة الانتشار؛ لأن الأمر ها هنا كالحلقة المفرغة: قوة مالها توسع من انتشارها، وسعة انتشارها تزيد من مالها ... والأمر عند رؤساء التحرير في تلك الصحف، هو الأمر في كل بيع أو شراء؛ فهم كباعة الفاكهة والخضر يريدون أن يعرضوا على وجه الصندوق أو على سطح المقطف برتقالتين كبيرتين تخفي وراءهما البرتقال الصغير، أو «كرنبة» ضخمة تستوقف الأنظار، فيدق رئيس التحرير التليفون إلى فلان الأديب الكبير صاحب الاسم اللامع، ويطلب منه مقالا لعدد هذا الأسبوع أو هذا الشهر، والأجر الكبير المعروض كفيل خير كفيل للأديب الكبير أن يضعف فيكتب، ولا عليه حرج؛ لأنه بشر كسائر البشر يريد أن يعيش.
فماذا يكتب الأديب عندئذ؟ إنه لا يكتب ما يمليه عليه فنه، أو ما كان ينبغي أن يمليه عليه الفن الرفيع، بل يدير في رأسه نوع المجلة التي طلب إليه أن يكتب مقالة فيها، فيكتب شيئا يلائمها ويلائم قراءها، وإذا لم يفعل؛ فقد يقبل منه رئيس التحرير هذه المرة حياء، لكنه لن يعود إليه مرة أخرى.
يقول الأديب لنفسه إذا ما هم بالكتابة: إن قراء هذه الصحيفة هم أوساط المثقفين الذين لا يطلبون إنشاء رزينا رصينا، ولا يقوون على خلق أدبي رائع ممتاز. إنهم طراز من البشر يشتري المجلة لتسليته في الترام أو عند الحلاق، فلا بد من مراعاة ذلك في اختيار الموضوع ومعالجته معا، فينبغي للموضوع أن يكون خفيفا لطيفا، وأن يعالج على نحو مسل ظريف، وعلى هذا الأساس يكتب الأديب، فليس هو حرا كل الحرية في اختيار ما يكتبه، ولا في الطريقة التي يعالج بها موضوعه، بل ليس هو حرا كل الحرية في طول ما يكتبه؛ لأنه يكتب ليملأ فراغا طوله كذا سطرا وعرضه كذا نهرا. إن رئيس التحرير يأمره بما يريد، وهو يصدع بالأمر راضيا أو كارها، فإذا عرفنا أي الدوافع يحدو رئيس التحرير في نوع ما يطلبه؛ عرفنا من هو الآمر الحقيقي الآن الذي يستبد بأرباب القلم! إنهم أنصاف المثقفين وأرباعهم.
ولا تقل إنها الديمقراطية في الأدب، وإنه لا عيب في الديمقراطية بكل صورها، سياسيها وأدبيها، لا تقل: ماذا تريد؟ أتريد للأديب أن يكون مترفعا يخاطب الطبقة الأرستقراطية في مالها وثقافتها؟ لا تقل ذلك؛ لأنني ما أردت شيئا منه، لأن الديمقراطية في الأدب كما فهمت في الغرب لم تكن قط شيئا كهذه الأمساخ التي يضطر أدباؤنا إلى صناعتها والاشتغال بها دون ما قد يستطيعون من آثار خالدة باقية.
كان أهم معنى للديمقراطية في الأدب عند الغرب - فيما أعلم - هو اختيار الأديب أشخاصا من سواد الشعب يصورهم بأدبه، فلم يعد شرطا أن يجعل أشخاصه ملوكا وأمراء، بل أصبحت الخادم الساذجة تصلح أن تكون بطلة لقصة، يهتم الأديب بتحليلها وتشريحها، وبهذا جعل عنايته ملاحظة أوساط الناس كيف يعيشون وكيف يشعرون ويفكرون، لا ليكتب ذلك على النحو الذي ترتضيه الصحافة الأسبوعية أو الشهرية، بل على الصورة التي يرضاها الفن المتمهل المتأني الذي يسوي خلقه تسوية كاملة في كتاب كامل يقصر حينا ويطول حينا، حسب ما تقتضيه أوضاع الفن، لا حسب ما يأمر به رؤساء التحرير.
إنه من حسن حظنا - أبناء هذا الجيل - أن أدباءنا قد وجدوا بعض الفراغ فيما مضى، لم تشغل الصحف عندئذ كل وقتهم؛ لأنها لم تكن - فيما يظهر - قد تنبهت إلى شراء هذه السلعة الرابحة، من حسن حظنا أن أدباءنا قد وجدوا في ماضيهم فراغا أنتجوا لنا فيه قطعا أدبية نعتز بها، وإن تكن من النوع الذي لا يرتضيه رؤساء التحرير. وإني لأتساءل جادا: ماذا عسى أن يئول إليه الأمر بعد عشرة أعوام أو عشرين؟ اذكر لي أديبا واحدا اليوم لم «تستخدمه» الصحافة استخداما يعود عليها بمئات الجنيهات وألوفها، ويعود على الأدب الرفيع بالفقر، وكدت أكتب: بالخزي والعار؟! إنه بعد عشرة أعوام أو عشرين، لن تجد مقالا واحدا يكتب من أجل الفن الرفيع؛ لأن «أشلاء» المجلات الأدبية الباقية في طريقها إلى الزوال والباقيات الفاسدات، لأن العبرة في الباقيات هي سعة الانتشار وقوة المال. ولم يعد الأديب الكبير يرضى أن يضيع وقته فيما لا يعود عليه بالكسب، والكسب مرهون بطاعة رؤساء التحرير ... إن الذي يعمل الآن في تسيير الأدب المصري هو قانون تنازع البقاء وبقاء الأفسد؛ لا لأن أدباءنا غير قادرين على إنتاج الصالح؛ بل لأن الصالح ليس هو ما يأمر به رؤساء تحرير الصحف القوية الغنية، وأدباؤنا قد باتوا اليوم في حكم المحررين في تلك الصحف، وقل على جودة الإنتاج ألف عفاء.
Page inconnue