وها هنا انفتح أمام عيني هذا الأفق المخيف الرهيب! أيكون هذا صحيحا في عالم البشر كما هو صحيح في أرقام الحساب؟! أصحيح في عالم البشر أن الإنسان يستحيل أن يعظم ويضخم - بعد حد معلوم - إلا على حساب غيره من «أصفار» الإنسانية الذين لا يساوون في دنيا العيش شيئا؟ أمن أجل هذا إذن قاربت اللغة بين لفظتي العدم والعدم؛ لتدل على أن ما كتب عليه أن يكون صفرا - أي عدما - لا بد له كذلك أن يعيش في عدم وإملاق، ولا عبرة بالحقيقة الواقعة الرهيبة المخيفة، وهي أن هذه الأصفار البشرية هي التي خلقت «عشرات» الرجال و«مئاتهم» و«آلافهم»؟
إي والله إنه الحق! فقد يستطيع الرجل مثلا أن يزرع أرضه بيديه، وعندئذ لك أن تعده واحدا أو تسعة حسب انفساح الرقعة التي يملك، لكنه إذا ما اتسعت رقعته فوق ما يستطيع زرعه بيديه، اضطر أن ينتقل خطوة في علم الحساب، فيجعل نفسه في خانة العشرات، بأن يضع «إلى يمينه» صفرا أو صفرين أو أكثر حسب ما يقتضيه اتساع ملكه. وعلى هذه الأصفار أن تظل قائمة إلى يمينه، تمده بقيمته الحقيقية، وإلا اندك بناؤه وانهار!
ثم ماذا؟
تم مضيت في التشبيه إلى آخره، فوجدت الأمر ينتهي إلى خاتمة اطمأنت لها نفسي بعد ضيق، وانبسط لها جبيني بعد عبوس؛ إذ وجدت أن إدراك قيمة الصفر - في علم الحساب - كان دليلا على الرقي في مدنية الإنسان. كان دليلا على الرقي بمعنيين: بمعنى أن هذا الإدراك قد جاء آخرا، وبمعنى أنه كان أداة وسعت الآفاق أمام علم الحساب.
أفيكون الأمر كذلك - يا رباه - في أصفار البشر؟ الجواب: كان ولم يكن، أعني أنه قد تم منه شيء وبقي شيء نرجو له التمام؛ فقد أخذ العالم منذ قريب يعرف للطبقات العاملة - وقد كانت أصفار البشر - قيمتها الحقيقية، أخذ العالم منذ قريب يدرك أنه على الرغم من أن هذه الأصفار البشرية محدودة في قوة شرائها؛ فإنها هي التي تهيئ الأسباب لأصحاب هذه القوة، وأنه إن أراد «الواحد» الذي ارتقى إلى «خانة العشرات» أن يحتفظ بمكانته العددية؛ فلا بد له من المحافظة كذلك على الصفر الذي يقف إلى جانبه مؤيدا ومعضدا، لكن ما قد تم من الأمر حتى اليوم لا يكفي؛ لأنه إن غير في إدراك القيمة العددية لهؤلاء الأصفار؛ فهو لم يغير بعد في إدراكنا لقيمتهم «النفسية» ... ولا مدنية بغير هذا.
لا مدنية بغير إدراكك أن للصفر البشري قيمة شعورية، وإن أعوزته القيمة في سوق البيع والشراء، وكيف أنسى ما رأيته أمس في غرفة الطعام من الفندق الذي أقيم فيه؟
جاء ضابط طيار، وجلس إلى مائدة قريبة مني يتناول غداءه. فلما قدم له الخادم طبق الفاكهة، ازور عنه الضابط لعطب رآه - فيما أظن - فوجه إلى الخادم لوما حادا عنيفا (وقد لا يكون في ذلك ما يعاب؛ إذ ربما جاز هذا «للواحد» على «صفره»، الذي جعله عشرة موقرة محترمة) لكن الصفر البشري المسكين هم بالجواب، فثارت ثائرة الضابط الطيار؛ لأن خادما أراد الجواب، وأمره أن ينادي «الخواجة»؛ لأنه لم يتعود أن يجادل الخدم.
وددت أن يعلم القارئ عن هذا الخادم ما أعلمه؛ فوالله ما وقعت عيني عليه مرة إلا وتذكرت قصيدة «جراي» الخالدة التي وقف فيها وسط قبور الفقراء في فناء الكنيسة يسائلهم: ترى كم منكم من كان يعدل فحول الشعراء وجبابرة القادة والعلماء لو أسعفته الظروف؟!
إن المسكين «صفر» في سوق البيع والشراء، ولسوء حظه أن الضابط الطيار لم يبلغه أن الإنسانية منذ قرون طويلة قد فرغت من الكشف عن قيمة الصفر في علم الحساب؛ فرأته أكثر الأرقام العددية حضارة، وأهمها منزلة وقيمة ... وإنه لم يبق إلا أن تعترف الإنسانية كذلك بما للأصفار البشرية من خطر وقيمة.
وفرغت من غدائي، وصعدت إلى غرفتي، فإذا بي ألمح الخادم مقرفصا في ركن معتم يجهش بالبكاء.
Page inconnue