أما الطائفة الأولى؛ فهي أولئك الذين ينطوون على أنفسهم، ولا يريدون أن يكونوا بين الناس موضع نظر ولا موقع انتباه؛ فالسيجار الضخم في أفواههم لا يوافق انطواءهم؛ لأنه سيلقي ضوءا على وجودهم وهم يريدون الخفاء، وسيجعلهم محط الأنظار وهم ينشدون التستر ... والأمر بعد أمر تربية ونشأة؛ فإذا أراد لك الحظ أن يأخذ أبوك على نفسه أن يغرز فيك معنى الطفولة إزاءه والانقياد الأعمى لأمره، فستظل مدى حياتك طفلا، وإن طالت قامتك ونمت لحيتك وكبرت سنك. إن كنت واحدا من هؤلاء؛ فلن تجرؤ على تدخين «السيجار» الغليظ الضخم على ملأ من الناس، تدخينا يبدو طبيعيا فيك ملائما لشخصك؛ لأن الموقف - على تفاهته - يتطلب «رجلا» معتدا بشخصيته ورجولته. ونستطيع أن نتوسع في هذا المعنى فنقول: إن من لا يقوى على تدخين السيجار في جمع من الناس؛ بحيث لا يتعثر ولا يتلعثم ولا يتكلف؛ هو نفسه الذي لم تهيئه تربيته للشعور بعظمة نفسه. وهو نفسه الذي لا يصلح لمناصب الحكم والقيادة التي تتطلب من أصحابها أن يأمروا لا أن يطيعوا. ولعل ذلك نفسه هو ما جعل تنافرا بين المرأة والسيجار؛ فلا أظن أن امرأة واحدة في الدنيا كلها قد حدثتها نفسها حتى اليوم أن تدخن سيجارا في جمع من الناس؛ لأن السيجار كما قلت، إنما يلائم الرجولة القوية التي أعدتها عوامل نشأتها للشعور بعظمة نفسها.
وليس يشترط في الرجل من «اللاسيجاريين» الانطوائيين المنكمشين في قواقعهم، أن يكون متواضعا في آماله، بل قد يكون طامحا طامعا، يتمنى أن تدوي جنبات الأرض بذكره، على شرط ألا تقع عليه أعين الناس وهو في موضع بارز! فهذا الذي تخونه قواه إذا ما وضع في فمه سيجارا على مرأى من الناس، قد يريد لنفسه أن يقود الإنسانية كلها - لو استطاع - بآرائه وأفكاره، ما دامت هذه القيادة لا تخرجه من مخابئه ومكامنه. ولست أرى غرابة فيما يقال عن «هربرت سبنسر»، وهو من قادة الفكر في العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر، ما يقال من رفضه أن يقابل أحدا من المعجبين الكثيرين الذين كانوا يقصدون إلى رؤيته من أرجاء العالم كله (وإن يكن قد استقبل الشيخ محمد عبده عند زيارة الشيخ لإنجلترا). فهذا الذي كان في مستطاعه أن يهز العالم بالكتاب في إثر الكتاب، لم يكن في مستطاعه أن يواجه الناس عينا لعين، فضلا عن أن يدخن أمامهم السيجار!
والطائفة الثانية من الناس، هي التي تدخن السيجار فتزيد هيبة السيجار من هيبة وجوههم، على نقيض الطائفة الثالثة التي تنزل من قدر السيجار بدل أن تستمد منه الوجاهة والعظمة. هاتان طائفتان كثيرا ما تصادفانك في شتى أوجه الحياة؛ فقد تجد المنصب الواحد يتولاه رجلان، فيزداد أحدهما قدرا بحكم منصبه، بينما ينزل الثاني من قيمة ذلك المنصب نفسه. وقد يلبس الرجلان نوعا واحدا من الثياب، فيستمد أحدهما الوجاهة من وجاهة ثيابه، بينما يخلع الثاني هزال شخصيته على ثوبه.
وكلتا الطائفتين مرذولة على كل حال، وإن تكن الأولى أفضل من الثانية. وخير منهما أن تفيض عظمة شخصك على الأشياء من حولك، فإذا هي عظيمة بعظمتك أنت.
هذا سر عجيب أودعه الله في عباده! سر الشخصية العظيمة التي تطبع الأشياء بطابعها العظيم، ولا تعظم بشيء إلا بنفسها! هذه هي الطائفة الرابعة من مدخني السيجار، الذين يلبسون العظمة فتلبسهم في غير مشقة ولا تكلف، ومن هذا القبيل مستر تشرشل الذي يوافق السيجار كما وافق شن طبقة!
لو لبس غير غاندي مثل ما لبس غاندي: ثوبا ساذجا لا بهرجة فيه، ولو عاش غير غاندي كما عاش غاندي؛ عيشة متواضعة فقيرا؛ لهوت هذه الظروف الخارجية الوضيعة بقيمة شخصه في أعين الناس، لكنه أفاض من عظمة نفسه على الوضيع فارتفع. وتلك درجة قصوى من منازل الطائفة الرابعة؛ لأنها لا تقف عند حد الملاءمة بين عظمة الداخل وعظمة الخارج، بل تجاوز ذلك إلى مرحلة أبعد، تفيض فيها من عظمة الداخل على وضاعة الخارج فيعظم ...
قالت صديقتي: هذا هو الفرق الأساسي بينك وبين زميلك هذا الذي حدثتني عنه؛ فقد طافت فكرة السيجار في رأسه، فاشتراه ودخنه، واستمتع وضحك وأضحك. أما أنت فنصيبك من الفكرة - من كل فكرة - التحليل النظري والكلام الذي لا يغير من مواضع الأشياء فتيلا.
9 شارع الكرداسي
بمناسبة انتقال لجنة التأليف والترجمة والنشر إلى دارها الجديدة، 12 شارع سعد زغلول. ***
منذ سبعة عشر عاما،
Page inconnue