لقد أخلصت الحديث لهذا الصديق العابر، وأوشكت ألا أبقي في صدري شيئا دفينا. كأنما كان الرجل قسيسا، وكأنما كنت آثما أراد أن يزيح عن صدره عبء إثمه بالاعتراف به في حضرة ذلك القسيس. ولو كان هذا الصديق العابر صديقا من أصدقائي الملازمين الدائمين؛ لقلت مما بنفسي شيئا وأخفيت شيئا.
فالصديق العابر في مثل هذا التنفيس والترويح خير من الصديق الأصيل الدائم؛ لأنه لا يعرف عنك إلا أنك إنسان يبادله الحديث. فلا شأن له بماضيك ولا حاضرك، لا شأن له بأصلك وفصلك وآمالك وآلامك ومطامحك ومطامعك ودخائل نفسك. فلا ترى وأنت تنفض إليه جملة حالك ما يبرر لك أن تكتم عنه من سرك شيئا ... إن موقفه منك كموقفك من الممثل، تراه على المسرح أو على الشاشة البيضاء؛ فلا تدري من أمره إلا ما يقوله في هذا الدور المعين من هذه الرواية المعينة، ولا شأن لك به بعد ذلك.
إن الصداقة الدائمة مهما بلغت من الشدة والعمق والإخلاص؛ فلا تخلو من تنافس بين الصديقين. بل ماذا أقول؟ أأقول في غير تحفظ إن التنافس لا يشتد إلا بين الصديقين؟ إن روح التسابق تكاد تنعدم وأنت غريب بين غرباء، ولا يكون تسابق وتنافس وتنازع إلا وأنت في دنياك الاجتماعية الخاصة. وما دنياك هذه إلا جماعة معارفك وأصدقائك؛ فلا غرابة - إذن - أن تجد من نفسك حافزا يحفزك على كتمان شيء من نفسك على أصدقائك الخلص؛ لأنهم - على شدة إخلاصهم لك وإخلاصك لهم - هم منافسوك. وليس من صالحك أن تطلع منافسك على كل سرك. أما الصديق العابر الذي لن يلازمك إلا ساعة أو ساعتين في قطار، أو يوما أو يومين في فندق؛ فلا يكون بينك وبينه سباق على شيء ولا تنافس في سبيل شيء. إنها ساعة أو ساعتان أو يوم أو يومان، ثم ينصرف كل منكما بعد ذلك إلى سبيله. فهو إذن خير متنفس للمكروب المغموم، وأفضل من يبثه الإنسان همومه وأحزانه.
عجيبة هذه الصداقة العابرة في سرعة نموها وسرعة ازدهارها. فكأنها شجرة وضعت في ظروف صناعية لتثمر فاكهتها قبل أوانها المعهود. كأنها شجرة لم تترك للعوامل المناخية الطبيعية تتولاها فتعينها على النمو مرة وتعوقها مرة، ولا تسمح لها على كل حال بطرح الثمر إلا بعد شهور معلومة، بل وضعت في بيت من زجاج ، نفخت فيه تيارات هوائية بدرجة الحرارة المطلوبة؛ فلم تجد الشجرة إلا العوامل المواتية المساعدة دون المعاكسة المعرقلة، فأسرعت نموا وإيراقا وازدهارا وإثمارا. نعم، إن هذه الصداقة العابرة عجيبة في سرعة نموها؛ فقد تبلغ بعد ساعات قليلة من الشدة وحرارة العاطفة ما لا تبلغه الصداقة في الظروف الطبيعية في أشهر وأعوام، وكأنما هي تعوض عن قصر أمدها بعمق شعورها، تعوض عن قلة اتساع السطح بزيادة العمق وبعد الغور.
وتدنو هذه الصداقة العابرة من نهايتها مسرعة؛ فيتولاك شعور فريد في نوعه، شعور افتراق لا لقاء بعده. هو شعورنا إزاء الموت، لكنه بدرجة أخف وألطف وأبعث للنفس على الخصب والفاعلية. تنظر إلى صديقك هذا الذي عرفته منذ حين قصير، والذي توثقت بينك وبينه الصلة على نحو أتاح لك فرصة تفرغ فيها كل ما يثقل نفسك من شواغل الهموم التي لا تجيز لنفسك أن تبوح بها لأحد من أهلك وأصدقائك. تنظر إليه بعين المتحسر على هذا اللقاء الجميل الذي لم يكد ينشأ حتى كان ختامه، تنظر إليه وصوت في نفسك يهمس متعجبا: هذا صديق لن أراه إلى الأبد.
لقد أمسكت عن الكتابة هاهنا لحظة؛ فأخدت تنساب في رأسي صور متلاحقة لأشخاص التقيت بهم هنا وهنا وهناك، ودامت الصلة بيني وبينهم ساعات أو أياما. اشتدت فيها العلاقة بيننا حتى امتزجت نفوسنا امتزاجا، واندمجت قلوبنا اندماجا، ثم تفرقت بنا سبل الحياة؛ حيث لا لقاء بعد ذلك إلى الأبد!
قابلت «م»، في قطار «السهم الذهبي» بين لندن وباريس، ولم نكد نبدأ الحديث حتى خيل إلينا أننا أصدقاء منذ أمد بعيد. جعلت أخبرها وجعلت تخبرني. كان حبل الحياة متصلا بيننا، ثم بلغ بها القطار غايته، ولعلي كنت أحس بهذه الخاتمة القريبة، ولعلها كانت تحس، فأخذت صداقتنا تتكثف وتغزر لحظة بعد لحظة، كأنما عز علينا أن يتبدد هذا اللقاء، فتشبثنا ممسكين بقبضتين قويتين على هذا الود الوليد، لعله يدوم. لكن القطار بلغ بها غايته وافترقنا إلى الأبد.
وقابلت غير «م» كثيرين وكثيرات هنا وهنا وهناك، وتوثقت بيني وبينهم أسباب الصداقة الحقة والود الصحيح. وها هي ذي ذكرياتهم تنساب الآن في رأسي متلاحمة، هذه أذكرها بابتسامتها، وهذا بعبارات معينة تحدث بها إلي، وتلك بنبرة صوتها ... كل هؤلاء قد ضربت الأيام بيني وبينهم إلى الأبد.
أليست هذه الصداقة العابرة - بكل ما تترك في نفس الإنسان من أثر يدوم عميقا مع الأيام - جديرة من الكاتب بالتحليل والتسجيل؟
قميص السعادة
Page inconnue