وكما أن للخطابة على الاطلاق أجزاء، مثل الصدر والاقتصاص والتصديق والخاتمة — كذلك كان للقول الشعرى عندهم أجزاء. وأجزاء الطراغوذيا بالتامة عندهم ستة: الأقوال الشعرية والخرافية والمعانى التى جرت العادة بالحث عليها، والوزن، والحكم، والرأى بالدعاء إليه، والبحث والنظر، ثم اللحن. فأما الوزن، والخرافة، واللحن: فهى ثلاثة بها تقع المحاكاة. وأما العبارة والاعتقاد، والنظر فهو الذى يقصد محاكاته. فيكون الجزآن الأولان له: أحدهما ما يحاكى، والثانى ما يحاكى. ثم كل واحد منهما ثلاثة أقسام؛ ويكون المحاكى أحد هذه الثلاثة، والمحاكى به أحدتلك الثلاثة. والمحاليات: أما العادة الجميلة والرأى الصواب فأمر لابد منه. وأما النظر فهو كالاحتجاج والابانة لصواب كل واحد من العادة والخراقة؛ ويؤدى بالوزن واللحن، وكذلك الابانة لصواب الاعتقاد: تؤدى بالوزن واللحن.
وأعظم الأمور التى بها تتقوم طراغوذيا هذه. فان طراغوذيا ليس هو محاكاة للناس أنفسهم، بل لعاداتهم وأفعالهم وجهة حياتهم وسعادتهم. والكلام فيه فى الأفعال أكثر من الكلام فيه فى الأخلاق. وإذا ذكروا الأخلاق ذكروها للأفعال، فلذلك لم يذكروا الأخلاق فى الأقسام، بل ذكروا العادات التى تشتمل على الأفعال والأخلاق اشتمالا على ظاهر النظر. لأنه لو قيل: «الأخلاق»، لكان ذلك لا يتناول الأفعال. وذكر الأفعال ضرورى فى طراغوذياتهم؛ وذكر الأخلاق غير ضرورى فيه. فكثير من طراغوذيات كانت لهم يتداولها الصبيان فيما بينهم يذكر فيه الأفعال، ولا يفطن معها لأمر الأخلاق. وليص كل إنسان يشعر بأن الفضيلة هى الخلق، بل يظن أن الفضيلة هى الأفعال. وكثير من المصنفن فى الفضائل والشاعرين فيها لم يتعرضوا للأخلاق، بل إنما يتعرضون لما قلنا.
وإن كان التعرض للخرافات والعادات والمعاملات وغيرها وجمعها فى الطراغوذيات مما فد سبق إليه أولوهم وقصر عنه من تخلف ووقع فى زمان المعلم الأول، فكأن المتأخرين لم يكونوا يعملون بالحقيقة طراغوذيا، بل تركيبا ما من هذه الأشياء لا يؤدى إلى الهيئة الكاملة لطراغوذيا، فان المعمول فديما كانت فيها خرافات واقعة وكان ساثر ما تقوم به الطراغوذيا موجودا فيه، وكان يؤثر أثرا قويا فى النفس حتى كان يعزى المصابين ويسلى المغمومين.
Page 178