وأما الذى يتوهم من أن النفس إذا كانت تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن وعند الشيخوخة فذلك لها بسبب أن فعلها لا يتم إلا بالبدن فظن غير ضرورى ولا حق، وذلك أنه قد يمكن أن يجتمع الأمران جميعا، فتكون النفس لها فعل بذاتها إذا لم يعق عائق ولم يصرفها عنه صارف وأنها أيضا قد تترك فعلها الخاص مع حال يعرض للبدن فلا تفعل حينئذ فعلها وتصرف عنه، ويستمر القولان من غير تناقض، وإذا كان كذلك لم يكن إلى هذا الاعتراض التفات، ولكنا نقول إن جوهر النفس له فعلان فعل له بالقياس إلى البدن، وهو السياسة، وفعل له بالقياس إلى ذاته وإلى مباديه وهو الإدراك بالعقل، وهما متعاندان متمانعان، فإنه إذا اشتغل بأحدهما انصرف عن الآخر، ويصعب عليه الجمع بين الأمرين، وشواغله من جهة البدن هى الإحساس والتخيل والشهوات والغضب والخوف والغم والوجع، وأنت تعلم هذا بأنك إذا أخذت تفكر فى معقول تعطل عليك كل شىء من هذه إلا أن تغلب هى النفس وتقسرها رادة إياها إلى جهتها، وأنت تعلم أن الحس يمنع النفس عن التعقل، فإن النفس إذا أكبت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاته آفة بوجه، وتعلم أن السبب فى ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل، فكذلك الحال والسبب إذا عرض أن تعطلت أفعال العقل عند المرض، ولو كانت الملكة العقلية المكتسبة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من رأس، وليس الأمر كذلك، فإنه قد تعود النفس إلى ملكتها وهيئتها عاقلة لجميع ما عقلته بحالها إذا عاد البدن إلى سلامته، فقد كان إذأ ما كسبته موجودا معها بنوع ما إلا أنها كانت مشغولة عنه، وليس اختلاف جهتى فعل النفس فقط يوجب فى أفعالها التمانع، بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب ذلك بعينه، فإن الخوف يغفل عن الوجع، والشهوة تسد عن الغضب، والغضب يصرف عن الخوف، والسبب فى جميع ذلك واحد، وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد، فبين من هذا أنه ليس يجب إذا لم يفعل شىء فعله عند اشتغاله بشىء أن لا يكون فاعلا فعله إلا عند وجود ذلك الشىء المشتغل به، ولنا أن نتوسع فى بيان هذا الباب إلا أن الإمعان فى المطلوب بعد بلوغ الكفاية منسوب إلى التكلف لما لا يحتاج إليه، فقد ظهر من أصولنا التى قررنا أن النفس ليست منطبعة فى البدن ولا قائمة به، فيجب أن يكون اختصاصها به على سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية جاذبة إلى الاشتغال بسياسة البدن الجزئى لعناية ذاتية مختصة به صارت النفس عليها كما وجدت مع وجود بدنها الخاص بهيئته ومزاجه،
فصل 3 (يشتمل على مسئلتين إحداهما كيفية انتفاع النفس الإنسانية بالحواس والثانية إثبات حدوثها)
Page 221