ولأنا قد انتقل بنا الكلام فى التخيل إلى أمر الرؤيا فلا بأس أن ندل يسيرا على المبدأ الذى تقع عنه الإنذارات فى المنام بأمور نضعها وضعا، وإنما تتبين لنا فى الصناعة التى هى الفلسفة الأولى، فنقول إن معانى جميع الأمور الكائنة فى العالم مما سلف ومما حضر ومما يريد أن يكون موجودة فى علم البارى والملائكة العقلية من جهة وموجودة فى أنفس الملائكة السماوية من جهة، وسيتضح لك الجهتان فى موضع آخر، وإن الأنفس البشرية أشد مناسبة لتلك الجواهر الملكية منها للأجسام المحسوسة، وليس هناك احتجاب ولا بخل، إنما الحجاب للقوابل إما لانغمارها فى الأجسام وإما لتدنسها بالأمور الجاذبة إلى الجنبة السافلة، وإذا وقع لها أدنى فراغ من هذه الأفعال حصل لها مطالعة لما ثم، فيكون أولى ما تستثبته ما يتصل بذلك الإنسان أو بذويه أو ببلده أو بإقليمه، ولذلك أكثر الأحلام التى تذكر تختص بالإنسان الذى حلم بها وبمن يليه، ومن كانت همته المعقولات لاحت له ومن كانت همته مصالح الناس رآها واهتدى إليها، وكذلك على هذا القياس، وليست الأحلام كلها صادقة وبحيث يجب أن يشتغل بها، فإن القوة المتخيلة ليس كل محاكاتها إنما تكون لما يفيض على النفس من الملكوت، بل أكثر ما يكون منها ذلك إنما يكون إذا كانت هذه القوة قد سكنت عن محاكاة أمور هى أقرب إليها، والأمور التى هى أقرب إليها منها طبيعية ومنها إرادية، فالطبيعية هى التى تكون من ممازجة قوى الأخلاط للروح التى تمتطيها القوة المصورة والمتخيلة، فإنها أول شىء إنما تحكيها وتشتغل بها، وقد تحكى أيضا آلاما تكون فى البدن وأعراضا فيه مثل ما يكون عندما تتحرك القوة الدافعة للمنى إلى الدفع فإن المتخيلة حينئذ تحاكى صورا من شأن النفس أن تميل إلى مجامعتها، ومن كان به جوع حكى له مأكولات، ومن كان به حاجة إلى دفع فضل حكى له موضع ذلك، ومن عرض لعضو منه أن سخن أو برد بسبب حر أو برد حكى له أن ذلك العضو منه موضوع فى نار أو فى ماء بارد، ومن العجائب أنه كما يعرض من حركة الطبيعة لدفع المنى تخيل ما كذلك ربما عرض تخيل ما لصورة مشتهاة لسبب من الأسباب، فتنبعث الطبيعة إلى جمع المنى وإرسال الريح الناشرة لآلة الجماع، وربما قذفت المنى، وقد يكون هذا فى النوم واليقظة جميعا وإن لم يكن هناك أيضا هيجان وشبق، وأما الإرادية فأن يكون فى همة النفس وقت اليقظة شىء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام أخذت المتخيلة تحكى ذلك الشىء وما هو من جنس ذلك الشىء، وهذا هو من بقايا الفكر التى تكون فى اليقظة، وهذه كلها أضغاث أحلام، وقد تكون أيضا من تأثيرات الأجرام السماوية فإنها قد توقع بحسب مناسباتها ومناسبات نفوسها صورا فى التخيل بحسب الاستعداد ليست عن تمثل شىء من عالم الغيب والإنذار،
Page 180