فقد أخبرنا أن هذا التعريف بحسب اللفظ، ليس بحسب معنى جامع، وضع عاما ثم ألحق به فصول؛ وإذا كان بحسب اللفظ وتفصيله، وعلى نحو ما أخبرنا به،لم يبعد أن يلتفت فى ذلك إلى الاستعمال الجمهوري لا على اصطلاحات، حصلت بعد تعارف الجمهور، التى يمكن أن تقع عند الإمعان فى العلوم فليس يمكن أن تدرك لذلك غاية. فإن إيقاع الاسم على الأشياء أو الاشتباه ليس مما يضبط أو يحد، إنما يضبط أو يحد مايرام فيه مراعاة المعنى أما بالتواطؤ أو التشكيك الذى ذكرناه. وكأن المادة والصورة، إذا كانتا بالصفة المذكورة لهما، لم يطلق الجمهور اللفظ بأن إحدهما فى الأخرى، بل مع الأخرى، وخصوصا المادة فى الصورة.
فإن أراد مريد أن يزول هذا الاشتباه الواقع الآن مع وجود الاصطلاحات التى تجددت بعد الاصطلاح المشهور، فيجب أن يزاد الموجود فى الشئ جاعلا إياه بصفة ونعت؛ فإن هذا ليس أشد تشكيكا بل اتفاقا من لفظ الموجود فى شئ؛ فتكون المادة لاتجعل الصورة بصفة ونعت، أعنى المادة التى فيها الشك، بل الصورة هى التى تنعتها وتصفها.
فإن قال قائل: إن الفرق هو أن المادة فى طباعها تستبدل صورة تقوم بها كهذه الصورة لكن الصورة ليست تزول عنها، فيكون ذلك قسرا عرض لها من هذه الصورة؛ وأما العرض ففى طباعه ما هو متقوم بالموضوع، وليس فى طباعه الانتقال عنه، لم يقبل منه هذا القول. فإن المادة التى فيها الشك محصل من أمرها فى العلوم أنها لاتقوم بلا صورة، وأنها ليس فى طباعها أن تقبل صورة أخرى، فيكون طباعها موقوفا على هذه الصورة.
على أنا ضمنا عبارتنا عن هذه التفرقة جهة لاتبعد عن إصابة موقع فى الفرق؛ وهو أنا قلنا: إن المادة، لكونها مادة، لايلزمها أن تكون متعلقة مقارنة لصورة بعينها، بل ربما وجب لها ذلك لنوعية أو طبيعة، كيف كانت، بعد كونها مادة. وأما العرض، فتعلقه بالموضوع لأعم معانيه، وهو كونه عرضا، وهذا أيضا مقنع.
ومما يتشكك به أيضا أمر الأعراض التى لاتفارق ولايوجد الجوهر قائما دونها؛ لكنها ليست إنما لاتفارق لأن الجوهر يتقوم بالكون فيها، حتى لايصح قوامه دونها؛ بل ذلك أمر لازم له؛ وهو يقومها. وأما العرض، فإن معنى أنه لايفارق أنه لايصح قوامه بنفسه مفارقا؛ بل قوامه مستفاد مما لايفارق.
وأما التفريق الذى يفعله الوهم فليس فيه فرق بين الجوهر وبين العرض؛ فإن العرض قد يفرقه الوهم عن الجوهر.
ومما يتشكك على هذا الرسم هو أن من الأعراض مايفارق الجوهر ببطلانه؛ وقد قلتم: إن العرض لايفارق الجوهر، فيقال: إنا نعنى بهذا أنه لايفارق قائما دونه وأما أنه يفارقه بأن يبقى الجوهر ويبطل العرض فذلك مما لا ننكره، ألا ترى أنا قلنا: ولا يصح أن يكون له قوام دون ماهو فيه؟ ومما يتشكك به على هذا أن يقال: إن الرائحة عندكم عرض، فيجب ألا تقوم مفارقة للتفاحة، ونرى الرائحة تقوم مفارقة للتفاحة فى موضوع آخر؛ فيقال فى ذلك: إن الرائحة ليست إذا وجدت فى الهواء عن التفاح فقد انتقلت عن التفاح وتركت التفاح؛ ولا الحرارة إذا وجدت فى الهواء عن النار فقد اتنقلت عن النار وتركت النار؛ بل ذلك إما على سبيل حدوث حرارة أخرى ورائحة أخرى فى الهواء؛ وإما على سبيل انبثاث أجزاء متحللة منها فى الهواء.
والعلم الطبيعى يصحح الحق فى ذلك. فلو كان صحيحا أن الهواء إذا أروح وإذا سخن يكون حينئذ النار والتفاح لازالت عنهما كيفيتهما، فوجدنا بلا لتك الكيفية؛ وكان صحيحا مع ذلك أن الكيفيتين لم تعدما من النار والتفاح عدما بلا انتقال؛ وما وجدنا فى الهواء ابتداء؛ بل الذى كان فى النار والتفاح قد انتقل بعينه، من غير عدمه ولا حدوث مثله؛ لكان هذا حقا. لكن العلم الطبيعى يبين أن الأمر ليس على هذه الصورة. فإذا لم تكن هذه المقدمة مسلمة، لم تلزم هذه المناقضة. وقصارى أمر المنطقى أن يعرف أن هذا لايلزم. وأما أن هذا كيف يكون، فاشتغال المنطقى بشرحه وبيانه، على ماجرت به العادة، خروج عن صناعته من غير وفاء يمكن أن يقع منه مايرومه.
الفصل الخامس فصل (ه) في مزاجات تقع بين " قول على " و " وجود في " وأنها إلى أى شئ تتأدى
Page 57