132

وأما مقولة الجدة، فلم يتفق لى إلى هذه الغاية فهمها، ولا أحد الأمور التى تجعل كالأنواع لها أنواعا لها، بل يقال عليها باشتراك من الاسم أو تشابه، وكما يقال الشىء من الشىء، والشىء فى الشىء، والشىء على الشىء، والشىء مع الشىء. ولا أعلم شيئا يوجب أن تكون مقولة الجدة جنسا لتلك الجزئيات، لا يوجب مثله فى هذه المذكورة،ويشبه أن يكون غيرى يعلم ذلك، فليتأمل هنالك من كتبهم. ثم إن زيف بعضها من أن يكون أنواعا وجعل تواطؤ هذه المقولة بالقياس إلى بعضها دون بعض، وجعل الاشتراك فى اسمها بالقياس إلى الجملة أو الآخرين، وعنى به أنه نسبة إلى ملاصق ينتقل بانتقال ما هو منسوب إليه، فليكن كالتسلح والتنعل والتزين ولبس القميص؛ وليكن منه جزئى ومنه كلى ومنه ذاتى، كحال الهرة عند إهابها؛ ومنه عرضى، كحال الإنسان عند قميصه ولنفصل هذا المهم من المقولات العشر إلى ما أوثر أن نفصل إليه، ففيه مجال. وأما مقولة " أن يفعل " و " أن ينفعل " ، فيتوهم فى تصورها هيئة توجد فى الشىء لا يكون الشىء قبلها ولا بعدها البتة فى الحد الذى يكون معها من الكيف أو الكم أو الأين أو الوضع، بل لا يزال يفارق على اتصاله بها الشىء أشياء، ويتوجه إلى شىء ما دامت موجودة، كالتسود مادام الشىء يتسود، والتبيض مادام الشىء يتبيض، والحركة من مكان إلى مكان. فالشىء الذى فيه هذه الهيئة على اتصالها، فهو منفعل وينفعل، وحاله هى أن ينفعل، والشىء الذى منه هذه الهيئة على اتصالها، فهو من حيث هو، منسوب إليها، فحاله هى أن يفعل. فأما أن هذا يكون فى الكيف وحده أو فى سائر هذه، فأمر نستقصيه، وأحواله وأقسامه فى الكلام الطبيعى. فإن الناس قد اختلفوا، فبعضهم خصص هذه المقولة بأنها يجب أن تكون تغيرا فى الكيفية فقط، وأما العام لها ولغيرها، فمن الأمور التى تقع فى مقولات كثيرة. وبعضهم يجوز أن تكون جامعة للأنواع كلها بمعنى واحد، وتحقيق هذا لك فى الطبيعيات.

واعلم أنه إنما قيل " أن ينفعل " و " أن يفعل " ، ولم يقل انفعال وفعل، لأن الانفعال قد يقال أيضا للحاصل الذى قد انقطعت الحركة إليه، فإنه يقال: فى هذا الثوب احتراق، إذا كان حصل واستقر، ويقال: انفعال، إذا كان الشىء بعد فى الحركة، وكذلك القطع، الذى هو الفعل، قد يقال عند استكماله، وقد يقال حين ما يقطع.

وأما لفظة، " أنه ينفعل " ، " وأنه يفعل " ، فمخصوص بالحالة التى فيها التوجه إلى الغاية، وكذلك القيام، الذى هو النهوض والجلوس الذى هو المصير إلى الأمر الذى يستقر، فيسمى أيضا جلوسا، هما اللذان إما أن يكونا من هذه المقولة، أو يناسبا هذه المقولة.

وأما هيئة القيام المستقرة، وهيئة القعود، فهما من الوضع. كما أن هيئة الاحتراق من الكيف، وهيئة تمام النشء، هو من الكم، وهيئة الاستقرار فى المكان، هو من الأين. إنما هذه المقولة، وما يناسبها، هى ما كان توجها إلى إحدى هذه الغايات، غير مستقر من حيث هو كذلك.

وهذه المقولة تقبل التضاد، فإن التوجه من ضد إلى ضد، يخالف بالحد التوجه من ذلك إليه، وموضوعهما واحد وبينهما أبعد الخلاف، وذلك كابيضاض الأسود، واسوداد الأبيض؛ وكصعود السافل ونزول العالى. وأيضا فإنها قد تقبل الأشد والأضعف، لا من جهة القرب إلى الطرف الذى هو السواد، فإن القرب من ذلك، وهو حد، مبلوغ إليه من السواد، بالقياس إلى الاسوداد الذى هو سكون فى السواد. وفرق بين الاسوداد، أعنى الحاصل القار، وبين السواد. فإن الاسوداد يعقل على أنه غاية حركة، وأما السواد فلا يحتاج فى تعقله سوادا إلى أن يعقل حركة إليه. واعلم أن تسودا يكون أشد من تسود، إذا كان أقرب من الاسوداد الذى هو الطرف، والسواد أشد من السواد إذا كان أقرب من السواد الذى هو الطرف. وأيضا فإن الاسوداد قد يكون أشد من جهة السرعة، إذا كان أسرع اسودادا، وهذا أيضا يتم بنسبته إلى الاسوداد، فإن الأسرع يوصل إليه قبل الأبطأ، فيكون أسرع لأنه أقرب زمانا من الاسوداد. لكن الفرق بين الاعتبار الأول، وهذا الاعتبار، أن الاعتبار الأول يجعل حركتين، متساويتىالسرعة فى ظاهر الأمر، لكن إحداهما مبتدئة من حد أقرب إلى البياض، والأخرى من حد أبعد منه، واستمرارهما على نمط واحد بسرعة متشابهة؛ لكن أحدهما، لأنه أقرب فقط، يقال: هو ذا يسود أشد من الآخر، كمن يتحرك حركة مساوية لحركة أخرى وكلاهما تصعدان، لكن أحدهما ابتدأ من أعلى، والآخر من أسفل، فيكون ذلك يصعد أشد من هذا الآخر، بهذا الوجه.

وإن كان البحث المستقصى لأمثال هذه الأشياء فى العلم الطبيعى، يمنع من هذا، وإنما تجوز هذه المناسبة إذا كان المقطوع واحدا بعينه واختلف الزمان، فأقصرهما زمانا هو الأشد دون غيره. وقد جرت العادة بأن يتلى ما سلف ذكره، بالقول على المتقابلات؛ فلنقل أولا ما يجب أن يعتقد فيها ثم لنقبل على الوجه الذى قيل فيها فى هذا الكتاب.

المقالة السابعة من الفن الثانى من الجملة الأولى من كتاب الشفاء وهى أربعة فصول

الفصل الأول فصل (أ) في المتقابلات

Page 136