129

وأما الأين، فإنه يتم بنسبة المتمكن إلى المكان الذى هو فيه، وحقيقته كون الشىء فى مكانه. وقد علم، فيما سلف، أنه كيف يباين المضايف. وهو جنس لأنواع .فإن الكون فوق أين، والكون تحت أين، والكون فى الهواء أين، وفى الماء أين. ومن الأين ما هو حقيقى أولى، وهو كون الشىء فى المكان الحقيقى له؛ ومنه ما هو ثان غير حقيقى، مثل كون الشىء فى المكان الثانى الغير الحقيقى، كقولهم فى السماء وفى الماء. ولا يكون جسمان موصوفان بأين واحد بالعدد، والأين أول حقيقى، ويكونان موصوفين بأين واحد بالعدد والأين ثان غير حقيقى، كجسمين يكونان فى السوق معا.

ومن الأين ما يكون مأخوذا بذاته، ككون النار فوق، على أنه فى باطن سطح السماء،ومنه ما هو عارض له، ككون الحجر فى الهواء. وربما كان فى الأين إضافة، ككون الهواء فوق، بالقياس الى الماء، لأنه فى مكان هو أقرب إلى فوق، من مكان الماء.والأين منه جنسى وهو الكون فى المكان؛ ومنه نوعى كالكون فى الهواء؛ ومنه شخصى ككون هذا الشىء، فى هذا الوقت من الهواء، وهو مكان ثان، أو مثل كون هذا الجسم فى هذا المكان الحقيقى المشار إليه.

وقد زعم بعض المتقدمين، أن الواحد من الأين قد يوجد فيه جواهر كثيرة، كعدة فى السوق. وقد غلط وأجابه بعض الحدث بما أعبر عنه، قال: إنه ليس الأمر كذلك،فإن الأين الحقيقى لا يوجد فيه هذا المعنى؛ وأما الأين الغير الحقيقى كالكون فى السوق، فليس هو نفس السوق، فإنه وإن كان لا بد من أن يكون السوق مكانا ثابتا مشتركا فيه، فليس الأين هو السوق، بل كون زيد فى السوق، هو الأين، وهو صفة لزيد بها زيد كائن فى السوق. وليس بها بعينها عمرو كائنا فى السوق، وإن كان السوق واحدا، فنسبة زيد إليه، من حيث هو زيد، غير نسبة عمرو غيرية بالعدد، وهذا كالبياض، فإنه وإن كان يتحد بالنوع، فقد يتكثر العدد.

ثم أن بعض المتحذلقين، أعان المتقدم،ولم يرض بهذا الجواب، فقال: ليس حال الأين كحال البياض، فإن البياض الذى فى زيد، إذا عدم، لم يجب أن يعدم الذى فى عمرو، وأما السوق فيكون واحدا للجماعة.وحسب أنه عمل شيئا. إذ أرانا أن السوق واحد، فإن كان السوق هو الأين، كان السوق كونا فى المكان لا مكان ما، وكان الشىء إذا سئل عنه أين هو، فيصلح أن يقال: سوق، لا أن يقال: فى السوق. فإن كان الأين هو كونه فى السوق، فزيد يبطل عنه ببطلان كونه فى السوق، وإن لم يبطل كون عمرو فى السوق، فهو كالبياض أيضا. ونقول: إن الأين فيه مضادة، كما فى سائر المقولات، فإن الكون فى المكان الذى عند المحيط، هو مقابل للكون فى المكان الذى عند المركز، لا يجتمعان؛ فهما معنيان، وقد يوجد لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه، وبينهما غاية الخلاف. وإذ قد يصار من أحدهما إلى الآخر قليلا قليلا، ويكون المصيران متضادين، ويكون هناك أين متوسط بينهما، وأيون أقرب من الطرف الفوقانى فى حد الفوقية، وأيون من الجهة الأخرى بالخلاف، فيكون فى طبيعة الأين من جهته، لا من جهة جنسيته، بل من حيث خواص نوعيته .وإضافتها أيضا، أن يقبل الأشد والأضعف. فإن أينين كليهما فوقان، وأحدهما أشد فوقية، فعلى هذه الجهة يمكن أن يقع فيها الأشد والأضعف. وأما الكون (( فوق )) مطلقا أو (( تحت )) مطلقا، والكون فى أى حد شئت، مطلقا، والكون فى المكان مطلقا، فلا يقبل ذلك أشد وأضعف. وفى الكيفية أيضا، فإن السواد الحق لا يقبل أشد وأضعف، بل الشئ الى هو سواد بالقياس عند شئ، هو بياض بالقياس إلى آخر. وكل جزء من السواد يفرض، فلا يقبل الأشد والأضعف فى حق نفسه. ويجب أن يترك هذا، فى هذا الموضع، بل له مكان أليق به من الفلسفة.

Page 133