بسم الله الرحمن الرحيم (وبه استعين) [٣ - أ] الحمد لله المسبح بالغدو والآصال، المقدس عن مضاهاة الأمثال، الموصوف بالجمال والجلال، خالق الإنسان من الطين اللازب والصلصال، ومدبر الخلق بين دوري الأدبار والإقبال، وطوري الهداية والضلال، فـ «من يهد [الله] فماله من مضل». و«من يضال [الله] فماله من والٍ». والصلاة على محمد [رسوله] المصطفى وعلى آله خير آل. أما بعد: فإن إلحاحك -إيها المسترشد -في اقتراحك، ولجاجك في إظهار احتياجك، إلى «شفاء الغليل»، في بيان مسالك التعليل: من

1 / 3

المناسب والمؤثر والشبه والطرد والمخيل -صرم لجاجي في التسويف والتساهل، وحل [عقدة] عزمي في المماطلة والتكاسل، فانجررت إلى تحقيق أربك، واستخرت الله تعالى في إسعافك بمطلبك، وأتيت فيه بالعجب العجاب، ولباب الألباب، وكشفت عن وجوه أسراره غمة الحجاب، وقشعت عن مغمضاته غواشي الارتياب. وأنا أنبهك -أيها المسترشد -على شاكلة الصواب، قبل أن أخوض بك في غمرة الكتاب، وأقدم إليك نصيحة مشوبة بخشونة؛

1 / 4

فلا يزوينك عنها مرارة مذاقها، وخشونة ملمسها فنصيحة في تخشين خير من خديعة في لين. وهي: أن هذا الكتاب لن يسمح بمضمون أسراره على مطالع، ولن يجود بمخزون أعواده على مراجع؛ إلا بعد استجماع شرائط أربع: الشريطة الأولى: كمال آلة الدرك: من وفور العقل، وصفاء الذهن، وصحة الغريزة، واتقاد القريحة، وحدة الخاطر، وجودة الذكاء والفطنة. فأما الجاهل البليد، فهو عن مقصد هذا الكتاب بعيد. وهذه شريطة غريزية، وقضية جبلية، وهي من الله تعالى تحفة وهدية، ونعمة وعطية، لا تنال ببذل الجهد والاكتساب، وتنبتر دون دركها وسائل الأسباب. الشريطة الثانية: استكداد الفهم، والاقتراح على القريحة،

1 / 5

[واستعمال الفكر]، واستثمار العقل بتحديق بصيرته إلى صواب الغوامض: بطول التأمل، وإمعان النظر، والمواظبة على المراجعة، والمثابرة على المطالعة، والاستعانة بالخلوة وفراغ البال، والاعتزال عن مزدحم الأشغال. فأما من سولت له نفسه درك البغية بمجرد المشامة والمطالعة: معتلًا بالنظر الأول والخاطر السابق، والفكرة الأولى، مع تقسيم الخواطر، واضطراب الفكر، والتساهل في البحث والتنقير، والانفكاك عن الجد والتشمير -فاحكم عليه بأنه مغرور مغبون، وأخلق به أن يكون من «الذين لا يعلمون الكتاب إلى أماني وإن هم إلا يظنون». فصاحب هذه الحالة سيحكم -لا محالة -على لفظ الكتاب بالإخلال: متى استغلق عليه، وعلى معناه بالاختلال: متى لم يبث أسراره إليه.

1 / 6

وكم من عائب قولًا سليمًا ... وآفته من الفهم السقيم الشريطة الثالثة: الانفكاك عن داعية العناد، وضراوة الاعتياد، وحلاوة المألوف من الاعتقاد، فالضراوة بالعادة، مخيلة البلادة؛ والشغف بالعناد، مجلبة الفساد؛ والجمود على تقليد الاعتقاد، مدفعة الرشاد. فمن ألف فنا، علما كان أو ظنا: نفر عن نقيضه طبعه، وتجافى عنه سمعه، فلا يزيده دعاؤك إلا فرارًا أو نفارا، ولا يفيده ترغيبك إلا إصرارا واستكبارًا:

1 / 7