Poésie et pensée : études en littérature et philosophie

Abd Ghaffar Makkawi d. 1434 AH
59

Poésie et pensée : études en littérature et philosophie

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

يقدم لوكاش لكتابه بمقدمة يحلل فيها العوامل التاريخية والسياسية التي عاقت مسيرة الأمة الألمانية نحو الوحدة القومية والديمقراطية والثقافة التقدمية التي كانت قد بلغتها أمم أخرى في إنجلترا وفرنسا. وهو يتتبع هذا المسار التاريخي إلى ثورة الفلاحين في سنة 1525م، عندما تسببت الهزيمة الساحقة التي منيت بها في كارثة قومية بقيت عواقبها ظاهرة لعدة قرون، وانبثقت عنها ملكية مطلقة أقامت عروشها المستبدة على الأرض الألمانية المفتتة إلى أمارات إقطاعية صغيرة . وعندما اندلعت الثورة البورجوازية أخيرا (وهي ثورة مارس 1848م التي قام الأدب الواقعي بدور كبير في إشعال وقودها) كان نصيبها كذلك الهزيمة وسحق الآمال التي تعلقت بالحرية والوحدة القومية. في ظل هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وعلى أرض الواقع المقهور المجزأ، ازدهر العصر الذهبي للأدب والفكر الألماني الذي نسميه عصر جوته، وهو العصر الذي استمر أكثر من قرن من الزمان، وسطعت فيه كواكب أخرى دارت حول شمس هذا الشاعر الكبير، مثل شيلر وهيردر وياكوبي وأقطاب المثالية الألمانية من فشته إلى شلينج وهيجل. بل إن المؤلف يوسع من حدود هذا العصر، فيمده من لسينج إلى هايني، ويعده واحدا من أهم العهود التقدمية والثورية في تاريخ التفكير «البرجوازي»، ويمجد اكتشافه للمنهج الجدلي على يد هيجل وجوته، ويعتبره دليلا على انتصار تيار التقدم على نقيضه الرجعي، وسببا كافيا لإنصاف هذا العصر من تهم اللاعقلانية واللاتاريخية التي ألصقت به، وتسليط الضوء على جوانبه الإيجابية التي دفعت حركة التنوير للإعلاء من شأن العقل والنقد والتحرر من التسلط والجهل والخرافة. لهذا كله يمهد المؤلف لإنصاف جوته نفسه ومواجهة الأساطير التي افترت عليه ودمغته بالرجعية ومعاداة الثورة والتكبر على الشعب، وتأكيد مشاركته في حركة التنوير التي هيأت من الناحية الفكرية للثورة الفرنسية الكبرى والتقدم الديمقراطي بوجه عام، بجانب مساهمته في الحركة الواقعية للأدب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. •••

يبدأ الفصل الأول من الكتاب بالحديث عن رواية «آلام فرتر» التي كانت سببا في شهرة جوته الشاب شهرة عالمية.

والمعروف أن هذه الرواية قد كتبها جوته للخلاص من محنة حب فاشل لشارلوته بوف أو «لوته» التي كانت مخطوبة لأحد أصدقائه.

والمعروف أيضا أن الرواية علامة بارزة على عصر أدبي قصير العمر، اصطلح مؤرخو الأدب على تسميته عصر العصف والدفع، ووضعوا فيه الأعمال التي كتبها جوته وشيلر في شبابهما الباكر، وتميزت بالتمرد البطولي والتدفق العاطفي، والانطلاق من كل قيود العقل والقواعد والتقاليد المرعية في الأدب والاجتماع. أثرت فرتر تأثيرا عميقا على الوجدان الأوروبي والأدب العالمي. فهل يمكن أن تعد هذه الرواية العاطفية (التي أعقبت ظهورها موجة انتحار أقدم عليها عدد كبير من الشباب الأوروبي) دليل أزمة عاطفية وعقلية تعبر عنها حركة العصف والدفع الأدبية أم علامة على حركة تنوير ألمانية أكدت انتصار العقل على العاطفة؟ إن المؤلف يؤكد الرأي الأخير، ويدافع عنه في وجه «الأساطير» التي روجها في زعمه مؤرخو الأدب «البرجوازيون»، وأنكروا بها كل صلة بين فرتر وحركة التنوير الثورية. فما حججه لرفض هذه الأساطير؟

أولها أن هؤلاء المؤرخين يرون أن «العقل» هو المظهر الوحيد للتنوير، وأن ثورة العاطفة والروح هي مظهره المضاد الذي عبرت عنه حركة العصف والدفع من ناحية، كما عبر عنه من ناحية أخرى روسو وريتشاردسون من قبل الحركة الرومانتيكية من بعده. والواقع أن أعلام التنوير مثل «ديدرو» و«لسينج» و«فولتير» لم يكونوا معادين للعاطفة، وإنما وقفوا في وجه الجوانب اللاعقلية وغير الإنسانية منها. والمثل الواضح على ذلك هو مقاومة لسينج لعاطفية كورني وضحالة فولتير في معالجتهما للإنسان في المآسي أو التراجيديات التي كتباها، وهو كذلك التفات بعض التنويريين أنفسهم إلى الجوانب الشعبية التقدمية في أدب روسو وريتشاردسون اللذين عبرا عن تناقضات الطبقة الوسطى في أيامهما.

المهم في هذا السياق أن فرتر وإنتاج جوته المبكر (مثل مسرحيته جوتز فون برليشنجن) هو استمرار للخط الذي سار فيه روسو، وأن ذلك الإنتاج تعبير عن «البؤس» الألماني، والتخلف الاجتماعي والاقتصادي الذي عانته الحياة الألمانية في ذلك الحين. صحيح أن جوته الشاب لم يكن ثوريا حتى بمفهوم شيلر في إنتاجه الدرامي المبكر (كمسرحيتيه اللصوص والحب والدسيسة)، ولكن النظرة التاريخية المنصفة إلى فرتر وربطها بالثورة والتنوير وتناقضاتهما تجعلانها ذروة التعبير عن نزعة ثورية طالبت بالتطور الحر المكتمل للشخصية الإنسانية في صراعها مع المجتمع البرجوازي المتخلف والحكم المطلق شبه الإقطاعي في الإمارات الصغيرة في عهده. إن فرتر قد جسد في ذاته جدل الصراع المحتدم بين الشخصية الإنسانية والمجتمع المتخلف الذي يعوق تطورها واكتمالها.

ولعل هذا التطور الحر المنبعث من الشخصية الموحدة أن يكون من أهم الهموم التي شغلت فرتر في تمرده على القوانين الأخلاقية المجردة، كما شغلت جوته نفسه في شبابه وطوال حياته. يؤكد هذا ما يقوله بعد ذلك في شيخوخته في كتابه «شعر وحقيقة» الذي عرض فيه جزءا من سيرة حياته: «إن كل ما يحاول الإنسان تحقيقه سواء بالفعل أو القول أو بطريقة أخرى، يجب أن ينبعث من مجموع قواه المتحدة، وإن الضرر ليكمن في كل ما هو معزول، تلك قاعدة ممتازة، ولكن اتباعها أمر صعب.»

إن تمرد فرتر على القواعد الأخلاقية المتخلفة في ظل مجتمع إقطاعي متخلف ليعبر عن التناقضات الداخلية لنزعة إنسانية ثورية في عمل إبداعي عظيم. ويكفي مصداقا لذلك أن يدافع فرتر دفاعا حارا عن حق المواطن في الانتحار، وأن يقول لألبرت - خطيب حبيبته - في إحدى رسائله إليه: «بإمكانك أن تصف بالضعف شعبا يئن تحت نير طاغية لا يطاق إذا انتفض أخيرا وكسر قيوده؟» وهي عبارة بسيطة مباشرة تعبر عن ثورة جوته الشاب على المجتمع الاستبدادي والحكم الإقطاعي والرياء الاجتماعي، كما تشير إلى ملامح الإنسان الجديد الذي راح يتخلق في مجرى الإعداد للثورة البرجوازية، ويعلن عن التمرد الشعبي على عقم الطبقات الأرستقراطية وجهلها، وتفاهة الطبقة الوسطى، وركودها ونفاقها. ولعل إهابته المستمرة بأشعار هوميروس وأوسيان - بوصفهما شاعرين شعبيين - وهروبه إلى الطبيعة العظيمة وإلى حياة الشعب البسيط، لعلها أن تكون تعبيرا عن إيمانه بالشعب المنتج، ومثله الثورية الخلاقة. هذه الثورية الشعبية هي التي تجعل من «فرتر» وغيره من أعمال جوته في شبابه أعمالا ثورية معبرة عن الأيديولوجية البرجوازية في فترة الإعداد للثورة الكبرى في العصر الحديث (الثورة الفرنسية) لا مجرد تعبير عن ثورة وجدانية أو فورة عاطفية عابرة تخلص منها جوته عندما سجلها في روايته. وحتى هذه الفورة وتلك الثورة هما في النهاية تعبير فني مكتمل عن مثل النزعة الإنسانية الثورية، وعن التناقض المأساوي في تلك النظم التي عاش في ظلها. ولهذا تعد فرتر أحد المعالم البارزة في أدب القرن الثامن عشر، ورائدا للأدب الواقعي في القرن التاسع عشر (خصوصا عند بلزاك وستندال ومانزوني) وهي في الحقيقة تعبير عن مأساة البرجوازية الألمانية في عصر الإقطاع والتجزؤ والاستبداد الملكي المطلق. ولهذا تحطم فرتر على صخور تناقضاته الباطنية التي هي نفسها تناقضات الشخصية المأساوية مع مجتمعها وعصرها. نعم إنها مأساة حب من أعظم مآسي الحب في أدب العالم، ولكنها تجسد مأساة عصر بأكمله وتناقضاته. وربما كانت مأساة فرتر الحقيقية كامنة في عدم تنازله عن مثله الإنسانية الثورية، واختياره الحر للتحطم عليها بدل المساومة معها. وهذا هو سر جمالها الآسر الذي آذن بإشراق فجر الحرية مع الثورة الفرنسية التي تحطم أبطالها على مذبح أوهامهم، ومثلهم البطولية قبل أن يشدها نابليون إلى عجلة الاستبداد والتوسع الإمبراطوري. •••

ينتقل المؤلف إلى الفصل الثاني من كتابه، فيتناول القسم الأول من رواية جوته «التربوية» عن «فيلهلم ميستر»، وسيرة حياته التي راح يبحث فيها عن نفسه، متجولا بين آفاق عديدة، مشتركا مع شخصيات وجماعات ونماذج بشرية مختلفة، هائما بين المسرح والحب والحكمة والتصوف. وقد اقتصر المؤلف كما قلت على القسم الأول من هذا العمل الفريد الذي يعد أهم نتاج أدبي في فترة الانتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، (إذ فرغ جوته من صيغته النهائية بين عامي 1793-1795م، في ظل الأزمة الثورية التي بلغت ذروتها في فرنسا في ذلك الحين، مكتفيا بهذا القسم الذي سماه «سنوات التعلم» عن القسم الثاني «سنوات التجوال» الذي جمعه الشاعر بعد ذلك بسنوات طويلة، ولم يستطع أن يحقق فيه الإحكام والاتساق اللذين اتسم بهما القسم الأول). والجدير بالذكر أن أصول هذه الرواية ترجع إلى حوالي سنة 1777م عندما كتب جوته مسودتها الأولى تحت هذا العنوان الدال «رسالة فيلهلم ميستر المسرحية» (وقد عثر على هذه المسودة بمحض المصادفة في سنة 1910م)، وخصص فصولها الستة لتصوير علاقة بطله فيلهلم بالمسرح الذي لجأ إليه ليلتمس فيه تحرير روحه الشاعرية القلقة من ابتذال العالم البرجوازي وضيق أفقه، وليجد في التمثيل والشعر الدرامي وسيلة لتهذيب شخصيته، والتطور بها نحو الكمال. غير أن الصيغة المتأخرة للرواية تجاوزت حدود المسرح، ووضعت البطل الناضج في مواجهة المجتمع البرجوازي بأسره. وإذا كانت قد أبقت على الفصل الطويل الذي تمثل فيه أجزاء من هاملت، وتدور فيه تفسيرات عديدة لشخصية الأمير الحزين ولعبقرية شيكسبير بوجه عام، فلأن شيكسبير في رأي جوته منذ خطبته المشهورة عنه في شبابه هو طبيعة كاملة رائعة، ومرب عظيم للشخصية الإنسانية المتطورة. بيد أن المسرح قد أصبح في الصيغة الأخيرة لسنوات التعلم والطلب مجرد مرحلة انتقالية إلى الوصف الواقعي الشامل لمجتمع البرجوازية والأرستقراطية، وتصوير الحياة الإنسانية النموذجية على مسرح العالم نفسه. ولهذا نتجول في هذه الرواية وسط متحف كامل من الشخصيات المعبرة عن طبقات مختلفة، ونبحث بينها مع البطل عن مثال الشخصية الموحدة المنسجمة مع نفسها وفقا للحكمة العريقة «كن نفسك»، ونلمس كافة الضغوط والقيود التي تشوه جمال الطبيعة البشرية في مختلف المراتب الاجتماعية. وإذا كان جوته قد تعاطف مع بعض الشخصيات من مجتمع النبلاء مثل شخصيتي «ناتالي» و«لوتاريو» فلم يكن ذلك عن تحيز أو ضعف، وإنما نظر إليهما على ضوء المثل الإنسانية، وأشاد بالإمكانات التي يوفرها نبل المحتد والثروة الموروثة لتطوير الشخصية بصورة شاملة. هكذا كانت الرغبة في تحقيق المثل الإنسانية هي المقياس الذي نحكم به على الشخصيات، وهي القوة الدافعة على حركة الرواية بأسرها. كل ذلك في إطار نظرة إلى العالم مؤمنة بالفعل الذي يحرك الكون والإنسان منذ البدء إيمانها بضرورة أن يكون فعلا محوريا يوجه حركته ، حتى لا يتحطم أو يتحلل أو يتبدد أو يتحجر في جانب واحد من شخصيته، فتصاب بقية جوانبها بالضمور.

ما الجديد في رواية جوته؟ وما الذي يميزها عن غيرها من الروايات «التربوية» التي سبقتها في عصر التنوير وعصر النهضة؟ الجديد - فيما يرى لوكاش - هو تعبيرها عن المثل الإنسانية للثورة الفرنسية. ولقد أدرك جوته بواقعيته الراسخة أن تحقيق هذه المثل في المجتمع الألماني المتخلف البائس على أيامه وهم مستحيل، ولكنه أدرك كذلك بوضوح وعمق أن هذه المثل هي النتائج الضرورية التي لا بد أن تنتهي إليها حركته الاجتماعية والتاريخية. ربما تكون هذه رؤية متناقضة للمجتمع، ولكنه استطاع أن يخلق بها ما يشبه أن يكون «جزيرة» داخل ذلك المجتمع المعادي بطبيعته وتكوينه لتلك المثل، أو قل إنه استطاع أن يصور بها داخل المجتمع القائم مجتمعا متفاعلا يمكن أن يحوله نحو تحقيق تلك المثل. ولقد رسم شخوص هذا المجتمع من خلال تطورها الواقعي وتجاربها الواقعية الملموسة، ولم يهبط بها إلى صورة مثالية أو «طوباوية» جوفاء. ولهذا نجده يؤكد الاتجاه التربوي الواعي سواء في تلك الجماعة الغريبة، وهي جماعة «البرج» التي تشبه أن تكون مجتمعا مثاليا أو نحلة سرية من الحكماء وإخوان الصفا، أو في الرسائل التعليمية المتناثرة عبر الرواية، أو في تطور بطلها فيلهلم نفسه تحت إشراف وتوجيه محددين، وبحرية وعفوية تستبعدان أي تأثير للقدر أو للأوامر الأخلاقية المطلقة التي أعلنها فيلسوف مثل كانط.

Page inconnue