Poésie et pensée : études en littérature et philosophie
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
مشكلة كبيرة ومحيرة، فماذا عسى أن يجمع بين الفلسفة التي تخاطب العقل والوعي، وتتوسل بالحجة والبرهان، وبين الشعر الذي يتجه إلى القلب والشعور، ويوحي بالصورة والاستعارة والرمز العميق والتشكيل الفني للغة والإيقاع الملون المنغم للكلمات وللأصوات؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شاعرية، وأن يكون الشعر فلسفيا؟ هل يمكن أن يحدث هذا دون أن تفقد الفلسفة طابعها ووظيفتها، أو يضيع الشعر روحه المرفرفة الغامضة، ويتحول إلى حكمة جافة أو نظم تعليمي؟
كلنا يعرف أسماء العديد من الشعراء الفلاسفة والفلاسفة الشعراء في أدبنا العربي أو في غيره من الآداب القديمة والحديثة. وما من مثقف مهتم بالشعر والفلسفة إلا وقد قرأ أو سمع - على سبيل المثال لا الحصر - عن زهير بن أبي سلمى والشعراء الصعاليك، وأبي تمام والمتنبي وحكيم المعرة والصوفية الذين كتبوا الشعر كالحلاج وابن عربي وابن الفارض، وشعراء في العصر الحديث دمغوا بخاتم الفلسفة مثل جميل صدقي الزهاوي، وبعض شعراء المهجر مثل جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وبعض المجددين في شعرنا الحديث كالبياتي - شاعر الغربة والمنفى - وصلاح عبد الصبور، الذي تلفع بعباءة الحكيم في «أقول لكم»، وبخرقة الصوفي الثوري المحبط، والعدمي اليائس في مأساة الحلاج، وفي العديد من قصائده المتأخرة، وأدونيس في عالمه الزاخر بغرائب التجريب والتحول.
وكلنا قد قرأ أو سمع عن شعراء فلاسفة وفلاسفة شعراء في الآداب الأخرى: الخيام في الأدب الفارسي، وطاغور وإقبال في الأدب الهندي، هوميروس أب الشعراء الإغريق، وشعراء التراجيديا من إيسخيلوس إلى سوفوكليس ويوريبيدز مرورا بلوكريس صاحب القصيدة الفلسفية الكبرى عن طبيعة الأشياء، ودانتي في قصيدته الكونية الكبرى «الكوميديا الإلهية»، وشيكسبير في قصيدتيه المأساويتين الملك لير وهاملت، وهلدرلين وبعض الشعراء الرومانطيقيين الأول في الأدبين الألماني والإنجليزي مثل نوفاليس وشيلي وكيتس، وتيار كامل من الشعراء الميتافيزيقيين في القرن السابع عشر في الأدب الإنجليزي بوجه خاص (مثل جون دون ومدرسته)، وإن كان من الممكن التوسع في هذا التيار - كما يذهب إلى ذلك الشاعر الميتافيزيقي الحديث ت. س. إليوت - ليبدأ من دانتي في القرن الرابع عشر عندما انهارت وحدة العالم المسيحي والكنسي، ويمتد إلى المجددين في الشعر الغربي الحديث في أواخر القرن التاسع عشر من بودلير وأتباعه الرمزيين - خصوصا مالارميه إلى رلكه، والشاعر الأيرلندي ييتس وإليوت نفسه - حتى بعض الشعراء الأوروبيين والأمريكيين المعاصرين الذين أثرت عليهم ظروف عصرنا المضطرب من تغير في الرؤية العلمية النسبية للعالم، وتمزق في الحياة الاجتماعية، وفوضى في الحياة السياسية، وانهيار للقيم التقليدية والنظم الفلسفية الشامخة، وتفتت لوحدة الواقع المادي والوجود الإنساني، بحيث أصبحت كلمة «جون دون» في القرن السابع عشر حقيقة تتردد في أسماعنا: «إن الفلسفة الجديدة تبعث على الشك في كل شيء. انطفأ عنصر النار تماما، ضاعت الشمس وضاعت الأرض، وعقل الإنسان عاجز عن هدايته للبحث عنه.» ولا شك أن هذه الكلمات كانت رد فعل للآلية الديكارتية وضياع صورة العالم الحي عند الإغريق وتمزق دائرة الكمال في عصر النهضة.
أما الفلاسفة الشعراء أو القريبون من روح الشعر، فيصعب حصرهم أو الاتفاق على أسمائهم. فهناك الفلاسفة قبل سقراط الذين كتب أحدهم - وهو بارمنيدز - فلسفته عن الوجود الواحد في شكل قصيدة، وعبر أحدهم - وهو هيراقليطس - عن فلسفته في التحول والصراع الدائم في نثر شاعري غني بالصور والاستعارات الغامضة غموض الوحي المتدفق على ألسنة الكهنة والعرافين. وهناك أفلاطون سيد الفلاسفة الشعراء الذي وقف كما نعلم موقفا عدائيا من الفن والشعر ونصح - في الكتاب العاشر من الجمهورية - بطرد الشعراء من جمهوريته أو مدينته المثالية، ومن أفلاطون إلى اليوم تقابلنا وجوه اقترب أصحابها من عالم الشعر، وقربوا بين العقل والوجدان، وذلك من أوغسطين إلى جوردانو برونو - شهيد عصر النهضة وبطله الذي انتهى على المحرقة - ومن شوبنهور ونيتشه (الذي لم يقتصر على أن ينظر للعالم نظرة فنية وشعرية، وإنما كتب فلسفته بلغة شعرية متوهجة كما كتب بعض الأناشيد «الديثيرامب» التي يناجي فيها ديونيزوس مثله البطولي والرمزي الأعلى)، حتى كيركجور أب الوجودية المسيحية الذي تمنى لو ولد شاعرا وعد نفسه أدبيا يكتب قصصا عن الوجود الذاتي الحميم، وفلاسفة الوجود الذين لم يتركوا لنا شعرا حقيقيا، وإن كانوا قد اهتموا بشعر الوجود، ودرسوا شعراءه (فهيدجر قد كتب عن هلدرلين، وسارتر درس بودلير).
هذا التمهيد السريع عن الشعر والفلسفة يدفعنا من ناحية أخرى إلى طرح سؤال مهم: هل يمكن أن نجد خلفية فلسفية لكل شعر حقيقي وكل أدب عظيم؟ إن الأمر لا يحتاج إلى دراسة عميقة لكي نؤكد هذه الحقيقة، كما أن تأكيدها لا يعطينا الحق في تحويل الشعراء والأدباء العظام إلى فلاسفة، لكن نظرة واحدة إلى إنتاج من ذكرنا الآن من الأدباء والشعراء تبين لنا أن في كل أدب عظيم فلسفة، وفي كل فلسفة عظيمة أدبا. وليس من الصعب أن نعثر في النقد الغربي - وإلى حد أقل في النقد العربي - على أعمال تبرز «المعادل الفلسفي» - إن صح هذا التعبير - لإنتاج كبار الشعراء والأدباء، وأن نجد الصور النثرية والشعرية التي تكثف بطريقتها أفكار الفلاسفة: هوميروس وآراؤه الفلسفية عن أصل الكون، ومصير النفس بعد الموت، ونماذج الخير والشر والبطولة والخسة في ملحمتيه، سوفوكليس والحس المأسوي الفاجع بمصير الإنسان، وإيثار عدمه على وجوده، يوريبيدز والنقد السفسطائي والسقراطي والتشاؤم الإغريقي بوجه عام، أبو تمام والمتنبي وتأثير العقلانية اليونانية والمنطق الأرسطي، أبو العلاء المعري وفلسفة الشك والشكاك، دانتي الذي لا يمكن فهم كوميدياه الإلهية بغير فلسفة توماس الإكويني وبنائه الميتافيزيقي والمسيحي (وقد وصف دانتي نفسه كوميدياه بأنها رسالة في الفلسفة الأخلاقية )، فولتير وديدرو وفلسفة عصر التنوير، وحدة الوجود العضوي الحي الفعال عند «جوته»، ووحدة الوجود عند أفلوطين وواحديته عند اسبينوزا، فريدريش شيلر والمثالية الكانطية التي تميز عالم الظواهر عن عالم الحقائق، وعالم الحس عن عالم الحرية والضمير والغايات، دستويفسكي والروحانية الصوفية الروسية، إقبال والكانطية الجديدة فضلا عن الفلسفة الحيوية عند نيتشه وبرجسون وفلسفة الإسلام ورؤيته للحياة والإنسان، هلدرلين شاعر الغربة وهيدجر الذي درسه ودعم به فلسفته في زمن المحنة والاغتراب عن حقيقة الوجود والانصراف عن الإصغاء لصوته والاستجابة لندائه، جبران ونيتشه، ميخائيل نعيمة والتصوف الشرقي، توفيق الحكيم والثنائية الأفلاطونية والديكارتية بين الجسد والروح، والوهم والحقيقة، والطبيعة والفن، والواقع والفكر المثالي المتعالي، نجيب محفوظ والثورية الاشتراكية جنبا إلى جنب مع الحس الفاجع بالتدهور والانهيار الذي يذكرنا بتشاؤم شوبنهور ونيتشه وفرويد وعبثية الوجود ولعنته عند ألبير كامي وسارتر.
لا يمكننا أن ننساق وراء هذه التمهيدات التي تغري بالمزيد. ولا بد أن نمضي إلى سؤال أهم وأكثر تحديدا: متى تصبح القصيدة فلسفية؟ كيف تعبر عن بعض الحقائق الكبرى مع المحافظة على شروط الشعر وإمكاناته الفنية والجمالية؟
قبل أن نجيب عن هذا السؤال أود أن أذكر بعبارتين مشهورتين سنعود إليهما بشيء من التفصيل بعد قليل. العبارة الأولى لأرسطو في كتابه «فن الشعر»: «إن الشعر أكثر تفلسفا وأهم من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات.»
1
والعبارة الثانية لمارتين هيدجر عن أبيات مشهورة للشاعر هلدرلين: «إن أحب الأحباب يسكنون على جبلين منفصلين، وإن كانا متجاورين.»
ونعود إلى سؤالنا السابق فنقول: إن القصيدة تكون فلسفية بأحد معنيين؛ فقد تكون أداة تستخدم لتوصيل حكمة أو تعليم فلسفي مستقل عن القصيدة نفسها، ويمكن تبعا لذلك أن يترجم إلى مجموعة متسقة من العبارات التقريرية دون تشويه للمعنى أو فقدان له. ومعظم القصائد التعليمية من هذا النوع، كما تندرج فيه بقصيدة لوكريس المطولة عن طبيعة الأشياء، والمقال عن الإنسان ل «ألكسندر بوب» وقصيدة بريدج «وصية عن الجمال».
Page inconnue