Poésie et pensée : études en littérature et philosophie
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
عهد الوفاء الذي لم يختمه قسم،
بل نذرناه للحياة من أجل الحقيقة الحرة وحدها.
وافترق الأصدقاء، وسار كل منهم في طريق. سار هلدرلين - كما يقول في قصيدته عن الاحتفال بالسلام - على طريق «الروح المزدهر»، الذي أحس بأنه يسري في «الكل»، الذي يحيا في جميع الكائنات، ويؤلف بين الطبيعة الإلهية وأرواح السماويين الخالدين والأبطال والبشر الفانين في وحدة واحدة. ومضى هيجل على طريق «الروح المطلق»، الذي تنتهي عنده الأضداد، ويتحقق السلام الأخير. أما شيلنج، فاختار درب الفيلسوف المتصوف الذي يحلم ب «كنيسة يوحنا»، ولكنهم على الرغم من هذا التفرق قد اشتركوا في نسيج واحد قدم له كل منهم خيوطه. ويصعب أن نسمي هذا النسيج المشترك باسم محدد، ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي» أو الجدلي.
لقد أسهم كل منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه، هلدرلين بالبراءة والخشوع المطلق، وشيلنج بالتفكير الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء المذهبي الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص. وتأثر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هيردر (1744-1803م) المتدفقة، ومنهجه العضوي والحيوي في التفكير. ثم شجعتهم فلسفة فشته المثالية المطلقة، ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة)، وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر والصراع بين قطبين متضادين، أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن هذا الصراع بين الطرفين، بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما إلى صراع آخر جديد. ولم يكن هذا التفكير الديالكتيكي منهجا طبقه الأصدقاء الثلاثة كل في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا التفكير المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهما تاريخيا، أي إنه لا يهتم إلا بالتاريخ؛ لأن التاريخ هو جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته السابقة الذكر عن الاحتفال بالسلام: إن الروح العظيم يفض صورة الزمان. ويتطرق شيلنج إلى المعنى نفسه حين يقول إن كل لحظة خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانب خاص من الله يكون مطلقا في كل واحد منها.
وهكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (وهي مرحلة الوجود البسيط الخالص الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعد) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته، ويتبلور على نفسه) إلى مرحلة ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضا يمكننا أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كل على طريقته، وبحسب موهبته بالتأمل أو الرؤيا أو الشعر، وبالعقل المجرد أو الحدس المتصوف أو القلب الملهم.
لا شك أن هذا تبسيط مخل للطريق المعقد، الذي لا حد لتعدد أشكاله ومستوياته، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أن الأصدقاء الثلاثة يشتركون في الغاية الأخيرة، والهدف من هذا الطريق، وهو السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار، كما يسميه هلدرلين؟ في أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟ سيقول الأصدقاء الثلاثة: في مملكة الله. وسيرى كل منهم هذه المملكة على طريقته في الرؤية والتفكير.
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة 1794م - أي بعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن - فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد أنها ستجمعهما بعد كل تحول وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئا مجردا متعاليا على الواقع، بل شيئا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده، وإيمانه، وحبه، وأمله. ها هو ذا هيجل يصف في شبابه هذه المملكة الإلهية الصغيرة، فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة تجاه بعضها البعض، بحيث لا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية، فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانط» و«هيردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة، ويتعمقونها كل من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة 1795م فيقول: «لتأت مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها، ولا ندعها تسترخي فارغة في حجرنا. ليبق العقل والحرية دائما قدرنا، وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها.»
Page inconnue