Poésie et pensée : études en littérature et philosophie
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Genres
اتبع قلبك.
احتفل بيوم جميل.
هذه النصائح قد تبدو لنا اليوم سخيفة، ولما كان القلب هو أشد الأعضاء خفاء في باطن الإنسان، فإن حقيقة ما يأمر به تظل خافية، كما أن الاحتفال الذي تتحدث عنه - لاحظ أنها تنصح بالاحتفال لا بالاستمتاع - يظل هو أصعب الأمور. - أدهش المدهشات في هذا البلد هو أقدمها، الهرم المدرج في الصحراء بالقرب من سقارة. - ما الذي يجعل الأهرامات المدرجة أقوى تأثيرا من الأهرامات المستوية؟ لأن للهرم المدرج ذبذبة تجعله أشبه بنهر من الأمواج الهائلة التي تتدفق نحو السماء. إنه يجمع بين السكون والإيقاع. - أنصاف الأعمدة والأعمدة المتموجة وجدران السور الكبير المحيط بهذا الهرم - وإن كانت أقدم الأعمال التي شيدتها البشرية - لا يبدو عليها أي أثر للجهامة والشيخوخة، فأحجارها الجيرية البيضاء المائلة للاصفرار تبدو ناصعة، حتى ليخيل للمرء أنها بنيت حديثا أو أنها تنتمي إلى حضارة كاملة سحيقة القدم هبطت على الأرض من عالم آخر.
من هنا أيضا يأتي سر ذلك السحر العجيب المنبعث من هذه المنطقة. - سقارة، ازدهار النور. رفيف الهواء والصحراء التي تقع فيها هذه الأهرامات بمعابدها وقبورها. هذا النور الوهاج الذي يحرر النفس. - لحظات من الانفتاح الكوني، أي الانفتاح الأخير، جيشان المنبع: صفاء.
هذه الخواطر ...
ما أجمل أن نرى بلادنا بعيني الغريب، وما أندر هذه التجربة في حياتنا. تمر الأيام بعد الأيام ونحن ندور وندور، معصوبي الأعين، مؤرقين بلقمة العيش، غارقين في دوامة الأضواء والألوان والأصوات والأنباء، ضائعين في زحام الهموم الصغيرة والمشاغل والصراعات الحقيرة، بعيدين عن أقرب الأمور إلينا، عاجزين عن الخروج من الدائرة والارتفاع فوقها والبعد عنها. ونحاول في لحظات نادرة أن نخلص أنفسنا، فنكون أشبه بذلك البطل الروائي المسكين الذي أراد أن ينتشل نفسه من المستنقع فراح يشد شعر رأسه بكل ما أوتي من قوة! فإذا زارنا الغريب بضعة أيام رأى ما لا تراه أعيننا واندهش من أقرب الأشياء إلينا، واستطاع أن يبصر «الغابة» دون أن يتوه في زحمة الأشجار، وأن ينظر نظرة الطائر بغير أن يضيع بين النتوء والتضاريس. وندهش لرؤيته ونعجب لصدق نظرته. ونتعلم أن البعد شرط القرب، وأن العلو فوق كل شيء لا غنى عنه للوصول إلى قلب أي شيء.
فإذا كان هذا الغريب العزيز إنسانا أحب بلادنا وتعاطف مع شعبنا، وزارنا مرتين ليلتقي لقاء حيا مع آثار حضارتنا وشواهد تاريخنا وضميرنا، واقتفى آثار فيلسوفنا - «الأسيوطي» - أفلوطين - الذي كدنا أن ننساه على الرغم من أثره العظيم على تصوف الغرب والشرق، إذا كان هذا الغريب القريب أستاذا للفلسفة، وعالما في الفيزياء والرياضيات، ومتصوفا رقيق الحس دقيق العبارة، توقعنا أن تكون رؤيته أوضح وأتم، وأن يكون حوارنا معه متعة للقلب والعقل.
وفولفجانج شتروفه هو أستاذ الفلسفة في جامعة فرايبورج - وهي نفس الجامعة التي علم بها إدموند هسرل صاحب الظاهريات ومارتن هيدجر فيلسوف الوجود - وقد شرفت بالدراسة على يديه كما شرفني بإهداء هذه الخواطر إلي. وهو رجل دأب على القيام برحلات فلسفية طاف فيها معظم أنحاء العالم، صحاريه وغاباته وجباله وسفوحه والثلجية، بحثا عن السكينة والوحدة التي تمكنه من تسجيل خواطره بعيدا عن كل صوت وكل إنسان. وهذه الخواطر التي قرأتها الآن هي أحد فصول كتابه «الملمح الآخر» الذي نشره سنة 1969م، وسجل فيه - كما سجل في كتبه الأخرى الثلاثة «نحن وهو»، الانتقال إلى الواقع، و«الواقع الذي لا يصدق» - مجموعة كبيرة من الخطرات والأفكار المفعمة بالعاطفة الجياشة والمفارقة اللماحة والتجربة الحية التي تحاول أن تصف ما لا يوصف، وتقول ما لا يقال. فالخاطرة الدقيقة الحادة، والحكمة القصيرة الموجزة، واللمحة الشفافة الذكية هي الجسر الوحيد الذي يستطيع أن يعبر عليه إلى «الواحد» الذي يحيا وحيدا معه - كما تقول عبارة أفلوطين الخالدة - ولأنه هو «الآخر» المختلف عن كل شيء؛ إذ ليس كمثله شيء، تجده يبتعد عن لغة التفسير والوصف والتحليل بتحديداتها الضيقة، وأوعيتها الجاهزة إلى لغة الخاطرة المتقدة والفكرة الخاطفة. وهو بهذا يؤصل تراثا عريقا تلقاه في أمثال الشعوب، وأقوال الحكماء الشعراء من بوذا ولاوتسي وكونفوشيوس إلى الفلاسفة قبل سقراط، ومن ابيكتيت وماركوس أورليوس إلى متصوفة المسيحية والإسلام، ومن باسكال ومونتني والأخلاقيين الفرنسيين إلى جوته ولشتنبرج ونيتشه. وهذه الخواطر شواهد على تجربته الكبرى التي يعيش ويخلص لها منذ أكثر من ثلاثين سنة. وهي جميعا - إلى جانب كتابه «الأكاديمي» الوحيد الذي حاول فيه أن يتناول تجربته من خلال التراث الفلسفي (وأقصد به كتابه «فلسفة العو» الذي تشرفت بنقله إلى العربية، وأرجو أن يرى النور عن قريب)
1 - تسجل مجاهداته المتصلة في سبيل الوصول إلى الواحد، أو وصول الواحد إليه، وتصف مختلف السلالم الجدلية التي لم ينقطع عن تجربة الصعود عليها لعله أن يمسك شعاعا من بريق «الآخر»، وهذه التجربة التي أشار إليها عرضا في خواطره عن «مصر» هي تجربة «العلو» (أو ما يعرف في المصطلح الفلسفي باسم الترانسندنس) والمجال لا يتسع لشرح هذه التجربة، أو الحديث عن أبعادها وأعماقها وظلالها، فهي تجربة كما قلت.
والتجربة لا تريد منك إلا أن تجربها وتعانيها. وكل وصف أو شرح أو تحليل لها لا بد أن يشوهها ويسطحها ويخنق نبضها الحي. وكل «كلام» عنها يهددها بالضياع؛ لأن اللغة التي خلقت بطبيعتها للتخاطب اليومي، ووصف الأشياء لا يمكن أن تصف ما لا يوصف أو تقول ما يقال. وكل محاولة لفهمها عن طريق العقل ومفاهيمه وتصوراته تظل قاصرة عن لمسها والاقتراب منها. هل معنى هذا أن نعطل اللغة أو الفكر؟ بالطبع لا. فهما كل ما نملك، ولا بد أن نواصل الرحلة معهما إلى أقصى الحدود التي يطيقانها، ثم نتخلى عنهما - كما تقول عبارة فتجنشتين - كما نتخلى عن السلالم بعد الوصول إلى السقف. هناك تكون الرؤية بعد أن يعجز الفكر، تكون المشاهدة بعد أن يقصر العقل، وتحق المفارقة والتناقض وجدل العاطفة المعذبة بعد أن تيأس أجنحة المنطق المألوفة واللغة المألوفة.
Page inconnue