Poésie et pensée : études en littérature et philosophie

Abd Ghaffar Makkawi d. 1434 AH
116

Poésie et pensée : études en littérature et philosophie

شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة

Genres

أعكس أخصب جسدا سوف يدوم،

أكافح، أسكر بالكفاح من أجل الحياة،

في نصاعة الآخرين أشيد انتصاري. (1949م)

تتكون هذه القصيدة في الأصل من عشرين بيتا غير مقفى من البحر السكندري. وتقابلنا فيها مجموعة من الأشكال الصوتية أو النغمية كترداد الحرف الأول في بعض الكلمات المتتالية في البيتين الأول والثاني، والقافية العارضة في البيتين السادس والتاسع، والقافية الداخلية والمقطع المتشابه في كلمتين متفقتي النهاية. وهذه الأشكال الصوتية التي تظهر على نحو عرضي شاذ، هي التي تعطي للقصيدة طابعها المميز، أضف إلى هذا أن المقطوعة الأخيرة من القصيدة تتميز بالتكرار المتعمد للحرف الصوتي «أي» في كلماتها، بحيث يعبر عن نوع من التصاعد المستمر في الأفكار والمعاني التي تتضمنها.

وتتميز القصيدة إلى جانب هذا بالغموض في بناء عباراتها أو على الأقل بغرابته وندرته. إنها تبدأ البيت الأول بنداء المخاطب الجمع «انظر البيت الأول الهامش»، «أعرفك يا ألوان ... إلخ»، ولكن من الصعب أن نقرر إن كانت الأبيات التالية تحتوي على مثل هذا النداء، أو على أية تسمية أخرى، اللهم إلا في المقطوعة الأخيرة التي تتخلى جملها القصيرة عن أسلوب استخدام الأسماء المتبع في المقطوعات الثلاث السابقة، وهذا الأسلوب يتحاشى الترابط المألوف في بناء الجمل، بحيث نتشكك في وجوده في كل مرة نظن أننا تعرفنا عليه. هل هناك مثلا علاقة إضافة تجمع بين «جريمة وجنون» في البيت الثامن، وبين «ألوان العافية ... إلخ» في البيت السادس أم أنها تركيبات مستقلة بنفسها؟ وهل يتصل البيت الرابع عشر «لتسود الألغاز المؤرقين حتى العظام» بالبيت السابق عليه مباشرة، بحيث يمكن أن يسري عليه ما أضفناه إليه على سبيل التوضيح، فنفهمه مثلا على هذا النحو «لتسود الألغاز كما تشاء ... إلخ» أم أن المصدر الأصلي فيه قائم بذاته؟

أسئلة كثيرة كما ترى، لا يبدو أننا سنصل فيها إلى جواب أخير. ومع ذلك فإن القصيدة لا تخرج عن هذا الغموض المقصود في بناء عباراتها إلا في المقطوعة الأخيرة التي تتميز بعباراتها الواضحة، وحركتها الصاعدة الظافرة التي لا تخطئها الأذن ولا الفهم.

وأعجب ما في القصيدة أنها تتحدث عن الألوان، ولكن معظم الأشياء أو الأحداث التي تلمسها خالية من الألوان التي نعرفها في الطبيعة. فهناك الأزهار، والموشورات. وهناك الليل والسواد، والنصاعة والوضوح. والبيت الوحيد الذي يسمى لونا محددا (وهو اللون البني الغامق الذي يعبر عادة عن القتامة والكآبة) هو البيت الخامس الذي ترد فيه كلمة «كئيب»، ولعل جسارة القصيدة أن تكون كامنة في إضفائها اللون على مجالات فكرية وتصورية لا لون لها، مستعينة في هذا بكلمة ألوان المجردة التي تتكرر ست مرات في القصيدة، وتؤثر في الحقيقة تأثيرا صوتيا لا بصريا. وهكذا نجد أنفسنا أمام مجموعة من الكائنات والأفكار التي اكتسب كل منها لونا مع أنها بطبيعتها بلا لون، كالرجال والنساء والعافية والخوف والجريمة والجنون واليأس ... وهكذا تتحرر القصيدة أيضا من النظام الطبيعي للأشياء، وتتحرك حركة حرة بين عالم الإنسان وعالم الألوان، أو عالم «التلون» إن شئنا البعد عن التحديد. وفي ظل هذه العلاقة الحرة بين العالمين يتم الصعود المنتصر الظافر الذي تعبر عنه المقطوعة الأخيرة؛ إذ تنتقل قيمة اللون إلى النصاعة والصفاء، تؤيدها في ذلك الأصوات المتحركة التي أشرت إليها، والوضوح النسبي في تركيب العبارات. وأخيرا فإن أية محاولة لتذوق القصيدة، ينبغي أن تبتعد عن تفسير أبياتها، كل على حدة، كما ينبغي أن تنتبه لقيمة الكلمات والعلاقات التي تربط بينها، أما المعنى الكلي فهو في هذه العلاقات نفسها، وفي موكب التصاعد المستمر نحو النور والصفاء.

4

وأخيرا نصل إلى قصيدة للشاعر الألماني جوتفريد بن (1886-1956م)، وهو من أكبر شعراء بلاده وأعظمهم أثرا على الجيل الجديد من أدبائها، وإن لم يعرف للأسف معرفة كافية خارج حدودها ... ولد في مانسفلد (منطقة فستبريجنتس) ومات في برلين. كان أبوه قسيسا، ودرس الأدب واللاهوت في جامعة ماربورج، ثم تحول إلى دراسة الطب في برلين وعمل طبيبا عسكريا في الحربين العالميتين، ومارس علاج الأمراض الجلدية والتناسلية منذ سنة 1918م في عيادته بمدينة برلين.

رحب «بن» بالنظام النازي في بداية عهده، وظن أنه سيخلص العالم الغربي من العدمية والركود الروحي، فلما اكتشف خطأه الرهيب لزم الصمت ابتداء من سنة 1936م، وطرده النظام أيضا من اتحاد كتابه، وشهر بأعماله «المنحلة». وعاد إلى النشر في سنة 1948م، وكتب القصيدة والقصة والمقالة والمسرحية، وتميز بأسلوبه الغريب الذي يزخر بالمصطلحات الطبية والعلمية والفلسفية، ونظرته العدمية الصريحة، واهتمامه البالغ بالشكل. وقد بدأ «بن» متأثرا بالمدرسة التعبيرية، وراح يسجل بأسلوب تهكمي بارد، ولغة قوية متفجرة مشاهد المرض والفساد في الحضارة الغربية الحديثة، ويكشف بمبضع الجراح وموضوعية العالم وبروده مظاهر الانهيار المختفية وراء قناع التمدن والتقدم. ومع ذلك فإن شغفه بالصور الوحشية المقززة عن الأمراض والأورام والقرح والجثث والمشارح ينطوي على حنين رومانتيكي إلى البراءة والنقاء اللذين راح يلتمسهما في الشكل الفني الناضج التام والصور والرموز الأسطورية القديمة التي يضعها إلى جانب أحدث المصطلحات العلمية، فيشع من قصائده وهج شعري يخطف العين بقدر ما يلسع القلب. وقد استطاع في أواخر حياته أن يتغلب على نزعته العدمية المغرقة في التشاؤم، وأن ينصرف عن أسلوبه المتهكم المرير عن طريق الكلمة الساحرة والروح الغنائية والتشكيل الكامل، ولعله قد نجح في رأي بعض النقاد في إيجاد نوع من «العدمية الخلاقة» التي تحاول عن طريق الشكل الفني كما قدمت أن تعلن مقتها لكل الأيديولوجيات، وتوجد معنى لعالم خلا في رأيه من المعنى ومن عناية السماء.

Page inconnue