إن هذه التعابير من كلامه تعالى، ولساننا يجري بها حتى الساعة. فاللبناني لا يعرف مضغ الكلام، وقلما رأى في ضيعته الأعاجم، وإن مر بها واحد فكمر السحاب. اجتمعت في أخريات هذا الصيف بمحمد الأمير، أمير بني ربيعة، فقال لي: إن لهجة لبنانكم أقرب اللهجات إلى لهجتنا، وإننا نفهم عنكم أكثر مما نفهم عن سواكم.
نعم، إن ابتعاد اللبناني وانفراده، حملاه على أخذ مسمياته من أفعالها، فقال: فلاح، وفاعل، وأطلق على القد - الذي تشد به الحلقة إلى النير - اسم «الشرع»، تأمل ما أجمل وأدل هذا الاسم على ما يعدل به الفلاح بين ثوريه، فلا يحمل واحدا منهما فوق طاقته! وهو يسمي الأداة التي ينكز بها الفدان «مساس» لأنه يمس بها مسا، ففي رأس المساس نصل كنصل الرمح، والمساس رمح الفلاح، وساحة طعانه حقله. أما الآلة التي يضرب بها ضربا فيسميها «صاموطة»، وكأنه اشتقها من السمت، ومعناه الخط الذي يريد أن يرسمه.
لم يدع قدماؤنا - حتى المتأخرون منهم - هذا النهج في مسمياتهم، فقالوا: «أبو الركب» في حمى الضنك. أما اليوم، فأخذ بعضنا يقول: كورب، ومكورب، من كلمة كريب؛ أي مصاب بالرشح. كان القدماء، إذا تعذرت عليهم التسمية، لجئوا إلى المجاز، طابعين على غرار جدودهم، يسمون الشيء باسم جزء منه، فقالوا: «لستيك» لنوع من الأحذية.
ومن هذا الطراز قولهم لمن رأوه في بحران وسهو: «مسطول»، و«قاعد مثل السطل» «لا يهش ولا ينش.» ويقولون للخفيف الرأس: «مشتول»، وعلى هذا الغرار قالوا للقصبتين المضمومتين: «عنيق»؛ لأن عنقهم ينتفخ عند النفخ للغناء بهما، أو يسمونهما «قصب» باسم جنسهما، كما يقولون للمريض: «ساخن» من السخونة. ومن تسميتهم الحسنة قولهم: «كف ورق»، لخمس طلاح ويلفظونها «طراحي». ويقولون: «حص توم» وفي الحص لغويا معنى الكثرة. ويسمون أحد أجزائه «سن توم» لما بينه وبين السن من تشابه. ويعجبني منهم نهجهم في الأسماء والألقاب والكنى نهج العرب، فلقبوا واحدا «الصبح» وهو أكمه، وسموا آخر «العيوق» وهو يكاد يكون مسخا، وكنوا رجلا «أعشى» ب «أبو ضو» كما قال العرب: «أبو بصير». وأرى أيضا في تسمياتهم ذوقا مرهفا حين يسمون النونة والفحصة «غمازة»؛ وهي نقرة تبدو في الخدين عند الابتسام وكأنها تغمز. ويعجبني أكثر من ذلك هربهم من الحروف الثقيلة كالذال، مثلا، فإما أن يلفظوها دالا أو يحذفوها بالكلية، فيقولون للماهر في مهنته: «أصطا» بدلا من أستاذ، وللساذج: «سادا» رادين هذين الحرفين إلى أصلهما الفارسي.
قال أحد المتمشرقين: إن أهل لبنان يلفظون الذال دالا، فصدق، ولكنه مثل على ذلك بإذا، فضل كعادة زملائه، فليس هناك لبناني يقول: إدا.
إن العوام، وخصوصا اللبنانيين، أعداء كل حرف ثقيل، فأكثرهم يلفظ القاف همزة، كقولهم: «اسكت بأى» وهم يحذفون الهمزة حذفا كاد أن يكون إجماليا فيقولون: «جا، وجايي، وجينا»، وإذا سمعت لبنانيا يعكس همزة جاء ويقول: «إجا»، فاعلم أنه غير جبلي أصيل.
ومن خصائص اللهجة اللبنانية النحت والقلب والإبدال، ولنقل: الاختزال واللز إن صح التعبير. فيقولون: «أيوه»، في أي والله، و«إسا ولسا»، في الساعة وللساعة، و«هلق» في هذا الوقت، و«بدي»، بدلا من بودي، و«أيشو»، في أي شيء هو. وفي الشوف يقولون: «شو» بدلا من أيش. أما من يقول: «شونو» فمتحذلق. إن اللهجات في لبنان تختلف باختلاف الأقاليم اختلافا جزئيا، ومن اختلاف اللهجات نعرف الأقاليم، ومن اختزالهم قولهم: «تعاتا ناكول»؛ أي تعال حتى نأكل. و«هو» بدلا من هؤلاء، كقول الخادمة: «بدي كنس هو»؛ أي بودي أن أكنس هؤلاء. وكقولهم: «أينو»، في أين هو، و«هيك» في هكذا، و«ليك» في إليك، ويلحقون بها الهاء فيقولون: «ليكو »؛ أي إليكه، و«ليكا»؛ أي إليكها، و«ليكن»؛ أي إليكم وإليكهن، وعلى نسقها تجري «معليك»؛ أي لا عليك.
أما الضم المشبع في عين المضارع وغيرها فمرده إلى اللغة السريانية التي طلقوها منذ قرنين أو أقل، وهذا الضم أشيع ما يكون في شمالي لبنان. وها نحن نصفي حساب السريانية دفعة واحدة. يقول لك اللبناني الشمالي، وسيان في ذلك المسلم الطرابلسي، والمسيحي الأهدني: طرابلس، صابون، ويقول: نحنا. أي نحن، فكأنهم يردونها إلى أصلها السرياني إحنا، مستبدلين النون بالهمزة عدوتهم، وبعضهم يلفظها على حقها السرياني: إحنو. ويقولون: هيدي؛ أي هذي هي، فكأنها من هودي السريانية، وعندما يقولون: هيد فهي ترخيم هودي السريانية. ويقولون: هاي؛ أي تلك، فكأنها هي السريانية. ويناديك أحدهم: هو، بدلا من ها العربية، فكأنه يردها إلى هو السريانية. وتحويل الذال دالا هو من نوع رد الألفاظ إلى سريانيتها، فيقولون: حدا في حذاء، وحدوة في حذوة، ويحولون أيضا الضاد دالا فيقولون: ركد في ركض، وأحيانا يلطفون فليفظون الصنارة: سنارة. وبعكس ذلك يقولون: قصمة في قسمة. أما الابتداء بالسكون في كسروان والشمال، فأثر سرياني، يقولون: حديد، حليب، سليم. وقولهم: إيدين في يدين، وإيد في يد، سرياني أيضا. وكذلك قالوا: أبهاتنا في آبائنا، وبسببها تندروا على الكهنة فسموهم أب هات. وكذلك يلفظون الكرسي: كورسي بالضم العنيف؛ لأن سريانيها كورسيو. وكثرة النون في اللهجة اللبنانية مصدرها سرياني، فقالوا: هني بدلا من هم. ويقولون: ضربتن قتلتن، وكيفن أهل البيت، بدلا من كيف هم، فميم الجمع العربي نون في السريانية.
يقول لك الشمالي: إلو بدلا من إلا، وهي آلو السريانية، ويقول بعضهم: أيمات، وأيمتان، وأيمتى، وهي بلا شك من آمات السريانية بمعنى متى الاستفهامية. وأظن، لا بل أجزم، مخالفا الباحثين جميعا، أن لفظة «كمان» العامية بمعنى أيضا هي أكمن السريانية، حذفت منها الهمزة، وقول المكاري اللبناني لدابته: هش، هو من هوشو السريانية، وهي بمعنى الآن، وكذلك قولنا: برا وجوا فهما لفظتان سريانيتان.
ولا يزال الشمالي حتى اليوم يلفظ: لا، بالضم كما هي في السريانية. وكذلك يلفظون : يه، بمعنى إيه. ويلفظون: ما بينام بضم النون. ويقول لك: مروق أي مر، ونطمور؛ أي نطمر، وهما سريانيتان.
Page inconnue