إهداء الرسالة
المحادثة الأولى
المحادثة الثانية
المحادثة الثالثة
المحادثة الرابعة
المحادثة الخامسة
المحادثة السادسة
المحادثة السابعة
المحادثة الثامنة
المحادثة التاسعة
المحادثة العاشرة
المحادثة الحادية عشرة
المحادثة الثانية عشرة
المحادثة الثالثة عشرة
المحادثة الرابعة عشرة
المحادثة الخامسة عشرة
إهداء الرسالة
المحادثة الأولى
المحادثة الثانية
المحادثة الثالثة
المحادثة الرابعة
المحادثة الخامسة
المحادثة السادسة
المحادثة السابعة
المحادثة الثامنة
المحادثة التاسعة
المحادثة العاشرة
المحادثة الحادية عشرة
المحادثة الثانية عشرة
المحادثة الثالثة عشرة
المحادثة الرابعة عشرة
المحادثة الخامسة عشرة
شيطان بنتاءور
شيطان بنتاءور
أو لبد لقمان وهدهد سليمان
تأليف
أحمد شوقي
تحقيق
محمد سعيد العريان
تمهيد
بقلم محمد سعيد العريان
هذا كتاب لا يعرفه قراء هذا الجيل فيما يعرفون من آثار شوقي الشاعر الناثر القاص، وهو كتاب شعر ونثر وقصة؛ لا أعني الشعر المنظوم؛ فإن حظ هذا الكتاب من ذلك الفن قليل، ولكنه إلى ذلك فن من الشعر يروع بلفظه ومعناه، وبما تحس فيه من نبضات قلب شاعره.
هو كتاب شعر إذن، وإن لم يكن منظوما على ذلك النسق الذي ألفه الأدباء والمتأدبون؛ لأن مؤلفه قد آثر أن ينثر فيه خواطره غير مقيدة بميزان ولا قافية، وهو إلى ما فيه من صفتي الشعر والنثر أسلوب من القصص يسلكه في ذلك الباب الذي عرفه قراء العربية للمرحوم أحمد شوقي في آخر ما أنشأ من فنونه الأدبية، حين عرض «مجنون ليلى» و«كليوباترة» و«علي بك الكبير» و«عنترة» وغيرهم من أبطال الماضي القريب، أو الماضي البعيد، فردهم إلى الحياة، أو رد إليهم الأحياء.
ولكن القصص في «محاورات بنتاءور» هذا الذي نصفه، ليس جاريا على ذلك النمط الذي ألفه القراء فيما طالعوا من قصص شوقي؛ لأنه لم ينشئه ليكون قصة ذات بدء وخاتمة وعرض متسلسل، ينتهي بالمقدمات إلى نتائجها، حتى تنحل العقدة أو تزداد تعقيدا؛ كما يفعل كل قاص فيما ينشئ من ذلك الباب، وإنما أنشأه ليقص قصته هو نفسه مع «بنتاءور» شاعر رمسيس الأكبر؛ ذلك الشاعر الذي خلد في الأدب المصري القديم، أو خلد به الأدب المصري القديم حتى رواه لنا الحجر في هذا العصر الحديث بعد آلاف من السنين.
لقد عاش شوقي، شاعر مصر الحديثة، مع بنتاءور، شاعر مصر القديمة، حقبة من عمره في الخيال، وكان بينهما من الود ما يكون بين الأصدقاء؛ يلتقيان على ميعاد، أو على غير ميعاد، ويفترقان على ميعاد، أو على غير ميعاد كذلك؛ فيكون بينهما في كل لقاء وفي كل فراق ما يكون بين الصديقين حين يلتقيان وحين يفترقان، من أسباب البث والشكوى، أو من أسباب الشوق والحنين، ولكن بين زمان شوقي وزمان بنتاءور قرونا متطاولة، وبين مكانيهما بادية جرداء متباعدة الأطراف، قد انتثرت عليها أشلاء وجماجم وآثار أمم بائدة وعروش مثلولة وتيجان محطمة؛ فأين يلتقيان إلا أن يعبر أحدهما إلى صاحبه القرون ومن حواليه تلك الأشلاء والجماجم والآثار؟ ثم هل يكون حديثهما حين يلتقيان بعد ذلك الجهد - وإنهما لشاعران - إلا عن الأشلاء والجماجم، وعن تلك الأمم التي كانت ثم بادت؟
وكذلك كان، وجرت محاورات بنتاءور وشوقي عن الأحداث التي تعاقبت على ضفتي النيل منذ عهد رمسيس إلى عصر عباس.
محاورات فيها من بنتاءور حكمته وصوفيته، وما يحتقب من علم الماضي، وفيها من شوقي شعور مصري يقظ القلب والعقل والضمير، قد حصل من علم الحاضر وذاق لذات الحضارة، وتقلبت على عينيه صور من الحياة وصور من الأحياء، وألوان من الحوادث لم يتقلب مثلها على عيني شاعر رمسيس القديم.
وكان بنتاءور - فيما تصوره هذه المحاورات - نسرا معمرا، قد شهد الماضي كله منذ كان حتى يوم لقائه بصاحبه، ولكنه لم يزل يعيش في هذا الجيل بقلب بنتاءور شاعر رمسيس الذي كان يعيش على ضفة هذا الوادي منذ آلاف من السنين؛ أما شوقي فكان هدهدا حديد البصر قد أحاط بكل شيء مما حواليه علما، وأحس به إحساس الحي بالحياة، وصوره في نفسه تصوير العين لما ترى، والقلب لما يشعر، والعقل لما يدرك؛ لأنه ابن الجيل الذي لم يزل يحيا، فهو يحس ويشعر ويدرك ويشم ريح الغد قبل أن يكون الغد.
صورتان من الماضي البعيد، البعيد إلى ما لا تدرك نهايته في القدم، ومن الحاضر الحي المتوثب إلى ما لا تدرك غايته من المستقبل، التقتا على صفحة مرآة، فاختلط شعاع منهما بشعاع؛ فكان من امتزاج الصورتين على صفحة تلك المرآة، ومن اختلاط الشعاع بالشعاع، صورة ثالثة تتملاها العين بإعجاب، وشعاع من حكمة يشرق على القلب بالهدوء والاطمئنان.
تلك قصة شوقي وبنتاءور، أو قصة هدهد سليمان ونسر لقمان كما تصورها تلك المحاورات؛ فيها من شوقي شعر الشاعر ونثر الناثر وفن القاص؛ فهو فيها الشاعر الناثر القاص الذي يعرفه قراء العربية فيما طالعوا من روائعه المنظومة والمنثورة والمقصوصة.
على أن لهذه المحاورات دلالة أخرى على فن شوقي الشاعر الناثر القاص، فهو قد أنشأها - في سنة 1901م - وهو لم يزل بعد شابا في الثلاثين أو قريبا من ذلك، قبل أن يتم تمامه في الشعر والنثر والقصة، فهي من هذه الناحية أمارة واضحة على مدى التطور الذي نال فن شوقي فيما تلا ذلك من سنين تزيد على الثلاثين، وهي إلى ذلك أمارة على شيء آخر، يتصل برأي شوقي في أحداث السياسة المصرية لعصره، منذ كان له رأي يتحدث به في تلك الأحداث.
أما بعد؛ فهذا تعريف موجز لكتاب من كتب شوقي، إلا يكن أعلاها في فنه، فإنه أصدقها في التعبير عن نفسه.
وإني إلى ذلك لأرجو أن أكون بما حققت من لفظ الكتاب، وما صوبت من نصه، وما ضبطت من كلمه، قد أديت للعربية حقا، وأوفيت لشوقي بدين.
وما توفيقي إلا بالله.
يناير سنة 1952م
مقدمة
بقلم شاعر القطرين خليل مطران
هي شذرات حكم، ونثرات فكر، صدح بها طائر مصر المحكي «أحمد شوقي» من على قمة الهرم تارة، وبين طلول منف وعين شمس طورا، وذهب بها كل مذهب، في سلسلة فصول سماها محادثات، متناولا فيها كل عبرة جليلة، وكل معنى غريب، مؤاخذا بها غضاضة مصر الآن، برفعتها فيما تقدم من الزمان، معاقبا بالرفق، محاسبا بالصدق، جعلها على لسان طائرين، هما لبد لقمان، وهدهد سليمان، ونثرها نظما، أو نظمها نثرا، بحيث هي الشعر أو أنفس، وهي الكلام المرسل أو أسلس.
ولهذا الكاتب العظيم كلف شديد بمجد الفراعنة؛ فهو لا يفتأ يذكرهم ويملأ الصحف والآثار بما يرويه عنهم من عجيب الأخبار، وإنما يريد بذلك تحريك وتر جمد في فؤاد الأمة عن التأثر للحال، فضلا عن الحقب الأول، وإحياء عاطفة في النفوس جفت لعدم تعهدها من بدء الأزل، وهكذا الشأن في الجسم والروح، والحس والمعنى؛ لا يسلم منها ما يغفل، ولا يستقيم ما يهمل.
على أننا نرى الغربيين أكثر حنينا إلى قدماء المصريين من أبنائهم، وأشد ولوعا بتعرف أسرارهم وتنسم أخبارهم؛ وذلك لأن حب البعيد لما يعلمه، أصدق من حب القريب لما يجهله.
على أن صاحب «عذراء الهند» بعد أن ذكر فيها خرافات جدات المصريين - وهي أشبه شيء بخرافات جداتنا إلى هذا اليوم؛ مما يدل على مجانسة الفكر واتصال النسب - كان جديرا بالانتقال إلى أسمى قمة يلقى منها النظر إلى ما يستفاد من قديم الخبر، وحديث العبر؛ ففعل موفقا، وفتح بابا مغلقا.
إهداء الرسالة
إلى حضرة الأستاذ الجليل العالم المفضال الشهير الشيخ عبد الكريم سلمان، أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا:
كلم عزين إلى كليم
ألبسته ثوب الحكيم
وجعلته يهدي ويه
ذي بالحقائق والرجوم
فوضى خواطره فإن
جمعت فكالعقد النظيم
فتراه في وادي النقا
وتراه في وادي الصريم
وتراه في عهد العزي
ز وفي ولاية «مصرييم»
ومن السماء إلى الثرى
ومن الحضيض إلى النجوم
حتى إذا أتممتها
أهديتها «عبد الكريم»
وأنا المقر بفضله
الذاكر الحق القديم
المحادثة الأولى
حكى الهدهد منبئ الأنباء، وشيطان بعض الشعراء، قال: أكثرت مخالطة الناس حتى ندمت، وأطلت النظر في الكتب حتى سئمت، واشتقت إلى عبرة مرموقة موموقة، وحكمة من نفسها مسوقة. آخذها ولو من سوقة، لا مطروقة ولا مسروقة؛ فخرجت إلى الأهرام في وقت من أوقاتنا الموصوفة، ويوم من أيامنا المختارة، ذهب نهاره إلا أواخره، وتناوب على الجو صاحيه وماطره:
تعرض الغيم فيه
للشمس في كل مسلك
تروغ منه فتبدو
وتختفي حين تدرك
والأفق منه ومنها
كالطفل يبكي ويضحك
فبلغت فضاءها، وإذا ذهب الأصيل عليه يزهو آونة، ويصدأ بالغيم آونة، والشمس صفراء في الأفق منكسرة الأشعة، قد كادت ولما تفعل، كأنها عين الأشقر الأحول، فوثبت إلى الهرم الأكبر، وحططت فوق حجر، ثم تقصيت النظر، فكانت فاتحة العبر، وباكورة العظات الكبر؛ إذ رأيت السياح حوالي الأثر، يرتعون في الأصل ويلعبون، وينزلون عن الإبل ويركبون، وقد ضفت عليهم ثياب الكبرياء، وجروا ذيول الزهو والخيلاء؛ فغضبت من رؤيتهم على هذه الصورة، وعيثهم في القبور بعد عبثهم بالجثث المقبورة، فقلت: «أيتها الحجارة الخالدة، اسخري من هؤلاء كما سخرت من قمبيز وخيله، واستهزئي بهم كما استهزأت بنابليون وجنوده!»
ثم خرجت من الغضب فأبصرت، وتألفت ما كنت أنكرت، وما زال الغضب يعمي صاحبه، ويضل راكبه، ويريه صدور الأمر ولا يريه عواقبه؛ أبصرت فرأيت الغادي والرائح، والترجمان بجانب السائح، ولم أر من باك ولا نائح، ولا مهيب بالجندل والصفائح، يجيبه صدى من جانب القبر صائح؛ فرجعت في أمر القوم إلى الرضى، وقلت إنما يزورون قبور الفراعنة في مصر كما تزار قصور الملوك في هذا العصر، وذكرت ساعة قضيتها في قصر «وندسور»
1
منذ ثمان سنين، والملكة يومئذ في الحياة، لا تخرج الشمس عن طرفي ملكها كأنهما حاشيتا النهار، فدخلت المقاصير، وتنقلت في الحجر، ورأيت فراش الملكة وقد هجرته، كما ينظر هؤلاء إلى مراقد الفراعنة، وقد نقل ما فيها إلى دور التحف، وحيل بين ذلك اللؤلؤ وهذا الصدف؛ فرحم الله المصريين القدماء، لولاهم ما ذكر مصر الذاكرون، ولا ظلت كعبة يزورها الزائرون:
قضوا والدور باقية وأودوا
وليس شخوصهم بالموديات
فما ذهبوا ولكن في اغتراب
وما ماتوا ولكن في سبات
قال: ثم وقفت أتأمل قبور الملوك العظام، وأذكر عبث الأنام لا الأيام، وأعجب للأهرام - وهي من عمل الأسرة الرابعة، وبنيان المصري في أول عهده بالحياة وبداية دخوله في الحضارة - كيف رسخت في الأرض رسوخه في العلم، ووقفت للدهر وقوفه في الفن، وكلما تأملتها جزتني العبرة عن النظرة، والعظة عن اللحظة؛ فرأيت النعيم كيف يزول، والحال كيف يحول ، والدولة كيف تدول، والملك الكبير إلام يئول، وبعث الموقف مني فقلت:
لما رأيت قبورهم
كملت فما فيها لناقد
وكأنها نهد الثرى
وكأنه مذ كان ناهد
بليت رواسيه ولم
تبل العظام ولا المراقد
وهوت حواليها الهيا
كل والكنائس والمساجد
وخلت ممالك وانطوت
دول زواهر كالفراقد
أيقنت أن المرء بع
د الموت بالآثار خالد
وأدمت النظر إلى الأهرام، لا لعظم في الجرم وفخامة في البنيان، ورسوخ في الأرض وطول زمان؛ فإن استعظام رؤية الأجرام من خلائق الصبيان، لكن كمرآة أرى فيها قدماء المصريين كما هم في الأعصر الأول، ولما يكتملوا دولا أربع، فلا أرى إلا صورا واضحة، وأشباحا لائحة؛ ثم أنظر فيها المصريين الأحياء وكأنما أتأملهم في مرآة محدبة مقعرة؛ صور ممسوخة، وأشباح معوجة، وأعضاء كمختلط الأشلاء من ضياع التناسب، وما اختلف الزجاج لكن هي الأخلاق تحسن وتقبح، وتعلي وتسفل، وتقوم وتعوج، وتريك من قوم ما لا تريك من آخرين؛ ما أبعد ما بين الأصل والفرع، وشتان ما بين الوالد والمولود؛ ذلك قبيل شاد وساد، وأجار من البلى الأجساد، ونشر سلطانه على البلاد والعباد، وأخذ لآثاره من بعده ميثاقا من الآباد، حياته للموت وموته للحياة، يعمل للذكر، ويهيئ للأحاديث، ويترك للأبناء، ويعلم أن السير حياة ثانية في هذه الدار الفانية، وأن ليس الموت إلا سفرا من الأسفار، ونقلة من دار إلى دار:
ولا يستوي ناء يعطل ذكره
وآخر مذكور بكل لسان
ونحن معشر الأبناء فيما نزعم، وذراري المصريين القدماء فيما نتوهم، أمة نيام، لا نعرف الملك إلا في الأحلام، كأنا ولاة العهود شابوا وآباؤهم قيام؛ يومنا يوم العاجزين، وغدنا غد اليائسين، وأمسنا لا للدنيا ولا للدين؛ معنى الحياة عندنا شيء باطل، وطرفاها نعيم زائل، وماهيتها أيام قلائل، لا ندخر صالحات ولا باقيات، ولا نرجو علوا في حياة ولا ممات، يترك أحدنا لولده من وجده، ولا يترك لهم من مجده!
قال الهدهد: وما لبثت الشمس أن غربت عن بلاد وطلعت على بلاد، فآفاق في مهرجان وأخر في حداد، فحدثت نفسي بالانثناء، فرارا من وحشة الظلماء ، لكني ما هممت حتى شعرت بانتفاض طائر من الجوارح، وسمعت هاتفا يقول: يا منادي الحجر، ومناجي الأثر، أخطأتك مصدوقة الخبر، وغابت عنك أمهات العبر، هلا قلت في شكوى الحال ونجوى هذه الأطلال:
يا أيها الهرم المنحوت من زحل
صب النحوس علينا أنت والزمن
هوى حواليك ملك لا قيام له
وغيبت في ثراك الأربع المدن!
وأمسك الهاتف عن الكلام، فالتفت مذعورا لعلي أرى على المكان شبح إنسان، أو خيال شيطان، فلم أر غير نسر، مستجمع في وكر، نسج عليه الدهر، وهو يرنو بصفراوين كالتبر، في كلتيهما إنسان كنقطة من حبر، فدنوت منه وتأملت فيه، وإذا هو قد وهن منه العظم، وتناثر الريش من الكبر، وشد منسره إلى ساقيه بأسباب من الهرم، وأكل على جؤجئه الزمن وشرب القدم؛ فقلت: لعله نوح النسور، أو بعض ما حمل نوح معه من الطيور، وابتدرت خطابه فقلت: سلاما أيها الشيطان! إن كنت لبد لقمان، فإني هدهد سليمان.
قال النسر واستضحك: افتريت على النبيين والطير، وانتحلت لي ولك ما للغير، أنا آدم الشعراء ولا إطراء، وأول من نطق بالقافية الغراء فوق هذه الغبراء!
قال الهدهد: وكنت لم أفقه ما رمز إليه، ولم أعلم مراده من بيتيه، فبشرت نفسي وقلت: شيطان قديم، فلأعلمن منه ما لم أعلم، وفوق كل ذي علم عليم. ثم قلت أخاطبه: الأيام أيها النسر مدارس الأحلام، ولا يستوي في العلم كهل وغلام، فلا أستحيي أن أسألك من أنت؛ فقد استبهم علي ما بينت؟
قال: أنا من سميت في قريضك، وكرمت في شعرك، وبعثت في قوافيك؛ فضل لك لا أنساه، وما كنت تراني لولاه.
قلت: لئن صدقت مزاعمي، فأنت الروح الأكبر، والشيطان الأشهر، والنسر المعمر، بنتاءور شاعر الملك رعمسيس، وحامل لواء البيان في طيبة ومنفيس.
قال: إنه أنا، وإني بك لقرير، كنت أراك تستمع لواعظ الدهر، فوق هذه المنابر، وتجمع الخبر والخبر عن ذلك الملك الغابر، والسلطان الغائب الحاضر، وجدير بأقدم المقابر أن تعظ الزائر والعابر؛ فهمست في أذنك بالبيتين، أريد أن أريك ما لم تر عين. انظر كيف تر منف؟
قلت: أطلال بالية، ورسوم عافية، عندها قرية كبعض القرى، لا تكاد تحسب من الثرى.
قال: فكيف عين شمس؟
قلت: مزارع ورمال، لا جلال عليها ولا جمال.
قال: فانظر الفسطاط كيف تراها؟
قلت: بييتات وأديرة، وديار مستنكرة.
قال: فما هذه البلدة الزاهرة، والروضة الناضرة، والذرية السافرة؟
قلت: مدينة القاهرة.
قال: لمن هي؟
قلت: لغير أهلها.
قال: هي إذن في حكم المدن الغابرة، عواصم أربع، كن مقار دول، وكراسي ممالك، وقواعد حكومات، تغير إحداهن الشمس بأبهة الملك وعظمة السلطان، حضرت الأهرام يومها وأمسها، وشهدت مصرعها وكانت رمسها، فاسأل ربك لقومك أن يكفيهم نحسها!
قال الهدهد: فأطرقت أتأمل في معاني هذه الكلم الجوامع، وأتدبر مغازي هذه الحكم الروائع، وأنا أستعرض كرة الأرض في خاطري، وأقلب صفحات التاريخ في فكري، فلا أجد لفضاء الأهرام مثلا فيما وصفه النسر، إلى أن أخرجني من إطراقي بأن قال: أرى الهدهد بين عبرة جلت حين تجلت، وفكرة في المدائن الأربع كيف تولت، فهل لك في كلمات تمثلك وقوتك في الظلمات، وتريك الأمم في حال ذهابها، كيف ينقصها الآلهة من أخلاقها وآدابها.
قلت: لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، إني أراك في ضلالك القديم!
قال: قطعت حديثي لأمر لا يعنيك، لك ما تعبد ولي ما أعبد، ولا يزر النسر وزر الهدهد؛ فإن كان لك في الصحبة فعلى ثلاث: ألا تجري الأمور على هواك، وألا تنظر فيها بمقتضى طباعك، وأن تأخذها ولا تسأل عن أسبابها؛ فهذه الثلاثة تخرج من العلم إلى الجهل، فكيف تخرج من الجهل إلى العلم.
قلت: ذلك لك يا شاعر الآلهة فأنجز الآن ما وعدت.
قال: هلك الفراعنة وخلت الأسرة منهم، وذهبت دولهم، ونبشت قبورهم، وعرضت جثث عزت عليهم على الناس، ومأتمهم بينكم معاشر المصريين قائم لا ينفض، وما مقعدكم منه إلا كالمعددة: تبكي ولا دمع، وتندب ولا حزن، وتهتف بما لا تعرف من أخلاق الميت وصفاته، وسنة سارها في حياته، يفخر أحدكم بالعظم الرميم، ويتحلى في حديثه بالمجد القديم ، ويسر وهو عطل من الغنى عديم، بمبالغ غيره من اليسارة والنعيم، فإذا ذكر المصريون القدماء، رفعتم الأنوف للسماء، وزعمتم أنكم سلالة الفراعنة العظماء، لكم التاجان وعرشكم على الماء؛ وإذا جرت أحاديث العرب، قلتم بيننا أقرب النسب، ولنا ما تركوا من حسب، وما هو إلا سبب قطعتموه، ودين ضيعتموه، ولسان عربي بالعجمة بعتموه؛ وإذا سمي جد الأتقياء، وواسطة عقد الأنبياء، كنتم كلكم لآلئ الشرف، وما خرج قط خزف من ذلك الصدف، وإذا نصر الترك في حرب، وتركوا دويا في الشرق والغرب، كنتم السيوف والأكف والضرب، وما ذقتم لها من حرب ولا كرب؛ وإذا مات ملك ليس منكم ولستم منه، ولا يسأل عنكم ولا تسألون عنه، وخلف لقومه سيرة تسير كالأمثال، وخلى مفاخر لن تبيد ولن تنال، كنتم المؤبنين الشعراء، لغيركم الميراث وعليكم الرثاء!
قال الهدهد: وبينما أنا في الإصغاء، آخذ الحكمة الغراء عن آدم الشعراء، إذ قطع الحديث وتركني مفكرا في كل ما هاج بي ذكره من قديم وحديث، ثم صرفني على أن ألتقيه في منف أصيل الغد، وإن غدا لناظره لقريب.
المحادثة الثانية
قال الهدهد: فأقلعت للطيران، أؤم عشي في حلوان، وأنا كمن مر به غرام على منازل الآرام، يتلفت قلبي إلى تلك الأجرام، ويعز على نفسي أن تفارق الأهرام، ثم جاشت في صدري هواجس، وامتلأ خطرات من الوساوس، فتمنيت على فئة غير هذه الفئة، وأملت من حكام مصر بعد مائة، أن يتخذوا من الأهرام مقابر، للنفر الأنفعين الأكابر، فيدفن فيها الجليل والعزيز، كالبنثيون في روما وباريز، أمنية إن شئت عدها سخافة، وإن شئت قل حديث خرافة:
من لي بأن تجعل الأهرام مقبرة
كالبنثيون لأهل الفضل والفطن
مفتوحة لوفود الأرض قاطبة
يزورها الناس من شام ومن يمن
مغيبين من الإجلال في جدث
مدرجين من الإعظام في كفن
مسطورة بمذاب التبر فوقهم
آثارهم والذي أسدوا من المنن!
تخيلت ثم خلت الأمر قد تم، وأعلنت الحكومة مشيئتها فيه، وصدر الأمر العالي به، ولم يبق إلا العمل بموجبه، فأنشئت الأضرحة الفخيمة في تلك الحجر القديمة، وأقيم الحراس على أبواب الأهرام، وكتب على مداخلها بماء الذهب: لعظماء الرجال شكر الأوطان، وقيل هذا القبر فأين الميت ...؟
قال الهدهد: خطرات شاعر وأمنية شيطان، فمن حضر بعده تحقيقها فليذكره، ومن علم بها ولم يرها أبرزت من القول إلى العمل فليعذره. ثم بلغت عشي فنمت ناعم البال مغتبطا بما وعدت من لقيا النسر، كأنما وعدت ملكا كبيرا، فلما أصبح الصبح قطعت نهاري متململا حتى الأصيل، وأنا لا أدري ماذا عنى النسر بمنف، أهذه القرية أم تلك المدينة؟ وهل موعدنا منفيس أم ميت رهينة؟ حتى إذا ذهب معظم النهار طرت إلى النيل أريد أن أعبره فوق سارية من معدية، فلما شارفته رأيت ما ملئت منه تعجبا وتحيرا، رأيت شاطئين يتغايران، وضفتين تختلفان: هذه تلوح موحشة كأنها قبر بمكان قفر، أرض على الطبيعة، وفلاح على الفطرة، وجيئة لغير مطلب، وذهاب في غير مغنم، وزرع للفلاح إنباته، وللتاجر ثمراته، وهذه تموج بمعالم العمران، وتتجلى في زخارف الحضارة، وتتدفق حياة، وتتوثب وجدانا، فوقفت أتأمل هذا المرأى البهج، والمنظر العجب، والمشهد البديع وأنا أتهم الخيال ولا أتهم الحس، ولا أبرئ نفسي من سحر أو مس، وقد أنساني الذهول ذكر ما وعدني النسر أمس؛ أنظر إلى النيل فأرى المجاديف تنتهب مياهه من تكاثر السفن لديه، وتلاقي الزوارق عليه، مشحونة بالبضاعة، مملوءة من الجماعة، فكأنما أنظر إلى السين أو الرون أو الدانوب، فذكرت عندئذ ما قاله نابليون لجماعة من جنده في مصر، وقد مر بهم فرآهم ينظرون إلى النهر، وسمعهم يتساءلون: أهذا هو النيل الذي تشيد الكتب المقدسة بذكره، وتبالغ الأجيال في قدره؟ إن السماع به خير من رؤيته! فاقترب منهم وقال: إنه لا يعوز النيل إلا خمسون عاما، ثم يبدو لكم كما تصفه الكتب المقدسة أو أجل! فقلت في نفسي: لئن زعم نابليون أن مصر لا ينقصها إلا التمدين ولا بد أن تناله على يد الفرنساويين أو غيرهم من الأمم المتمدنة؛ فقد مر مائة عام لا خمسون؛
1
فما بالي أرى هذه الضفة بحالتها التي رآها جنود نابليون عليها، وأرى لدى هذه نعيما وملكا كبيرا؟ وبينما أنا في التخيل تارة والتأمل تارة، والتوهم مرة والتيقن كرة، بصرت بزورق يقترب مني، ويجريه عصبة من المجدفين في الزي المصري القديم، كما تمثلهم لنا الآثار، وقد نهض فيه رجل كأنه المثال المنصب رونقا واعتدالا، وسكينة ومهابة، وهو مكشوف الرأس، لابس ثياب المصريين القدماء كذلك، فأشفقت من رؤية الزورق ورجاله لأول وهلة، وتحفزت المطار؛ فصاح الرجل بي يقول: إلي يا هدهد، إني أنا النسر فلا تخف ولا تجزع!
قلت: وما بدلك يا مولاي؟ وما هذه الحال؟ وهبني جئت إليك، فأين تريد أن تجعلني؟
قال: تقدم ثم تكلم.
فطرت من فوري إليه، فتلقاني بكلتا يديه، ثم رفعني فوق كتفه، وقال: هذا مكانك فاستقم فيه، ولا تكثر من التلفت والانتفاض فتؤذيني.
قلت: سمعا وطاعة يا مولاي.
وعندئذ أشار إلى الملاحين أن ينثنوا بنا راجعين، فسالت أيديهم بالزورق في نهر سرى به الجلال، وخط عليه الجمال، تتلاقى السفن فيه كالجبال، تنوء بالبضائع والغلال، وتفيض من الرجال والأموال، فسألت النسر: لمن هذه الأرباح يا مولاي؟ لقد أذكرتني كنوز سليمان عليه السلام، وجواريه المنشآت في البحر كالأعلام.
قال: هذه رعية مولانا الملك رمسيس، تروح وتغدو بين طيبة ومنفيس، ناهضين بالمتاجر الجسيمة، قائمين بالأعمال العظيمة، تجري السفن بهم ليل نهار، بين شاطئين كلاهما محط لرحال التجار.
قلت: وإلى أين تمضي بي الآن يا مولاي؟
قال: ألم أقل لك موعدنا منف؟ وها نحن قادمون، وهذه معالمها تبدو وتظهر، وتلك مجاليها تضيء وتزهر.
فأخذني الدهش، وصحت: الله أكبر!
فأنكر النسر علي صيحتي، وقال: ألم أؤدبك بالأمس؟ فهلا داريتنا في دارنا، وأرضيتنا في أرضنا؟
قلت: وما عساي كنت أقول يا مولاي؟
قال: كان أولى بك أن تسكت، أو أن تقول: الشمس كبيرة وحفيدها رمسيس كبير!
قلت: لا أعود لمثلها يا مولاي، فهل لي أن أرى حفيد الشمس ذاك؟
قال: ستراه وتسمعه، فلا تعجل ولا تؤذني بأسئلتك!
ثم استقر بنا الزورق ونالت أقدامنا منفيس، فإذا بها تحلت من الزخارف بكل نفيس، وتجلت تختال في حلل البهاء وتميس، حيث التفت رأيت حولي عزازة وعمارة، وثروة ويسارة، وصناعة وتجارة، وجاها وإمارة، وجنود البر والبحارة، من كل زي وشارة؛ فلم أتمالك أن اغرورقت عيناي بالدمع، فالتفت النسر إلي وقال: أدمعة سرور وفرح، أم عبرة أسى وترح؟
قلت: بل كلتاهما يا مولاي، فلئن سرني أن أرى هذا المجد لمصر أولا، لقد ساءني أني لا أراه لها أخيرا.
قال: لو أن فوق كل شبر من أرض مصر هدهدا يملؤه دمعا لما أغنى ذلك عنها شيئا، فعليك بالتأمل والاستقراء، قبل البكاء والاشتكاء، والتبصر والاعتبار، قبل النحيب والاستعبار!
فكفكفت دمعي وقلت: لا يكونن إلا ما أمرت يا مولاي.
قال الهدهد: ثم مررنا بهيكل يأخذ العين ويتملك النفس ويأسر الخاطر، ويستوقف اللب قبل الناظر، فتوجه النسر وجهته، ثم دخل بين حراس ينحنون له تعظيما وإجلالا، وكهان يوفونه تحية واستقبالا، وهنالك جعل يطوف بي حول القواعد والأركان، ويرفع بصره إلى دعائم البنيان، ويتنقل بي من مكان إلى مكان، ويذهب بي صعدا وصببا، في حجر عالية غالية، ومقاصير خالية من عيب حالية، منها الداجي المظلم الحالك، وبعضها منور للشمس إليه مسالك، وهو يقول: هذا يا بني الهيكل الأشهر، بيت «فتاح» الإله الأكبر، حامي حمى هذه المدينة، وملبسها الأمن والنعمة والزينة، تنقل معي من حجر إلى حجر، ومل معي عن أثر إلى أثر، وأنعم النظر في هذه النقوش والصور، ترها في ضمائر الجفن أدق من الخواطر والفكر، وما صنعت في نور الشمس ولا في ضياء القمر، لكن في ضوء سراج ضئيل غير وهاج، ثم تأمل في الحجر بجانب الحجر، كأنهما واحد انقسم على نفسه شطرين. انظر إلى هذه الجبال كيف قطعت، وإلى الآساس كيف وضعت، وإلى العمد كيف رفعت، وإلى الزخارف كيف جمعت! هل ترى في جميع ذلك إلا معرفة في العلم، ودراية في الفن، ومهارة في الصناعة؟ وغير إحكام في الصنع، وإتقان في العمل، ورغبة في الثناء، وهمة عالية في الأمر، وذكاء فائق في الأمور، وطاعة واجبة للملك على الرعايا، وعدالة مفروضة للرعايا على الملك؛ وهذه يا بني أسس الآداب، ورءوس الأخلاق، وقوى الحياة في الأمم، وسر نجاح الشعوب.
قال الهدهد: وكنت أراعي النسر وفكرتي في الملك، أتمنى أن أراه مرة واحدة، فناجيته بذلك، فغضب من هذه المفاجأة، وقال: الملوك أيها الهدهد في كل مكان من ممالكهم، إذا تغيبوا حضرت مآثرهم، وإذا احتجبوا سفرت مفاخرهم، فحيث نقلت القدم في هذه العاصمة، حدثك عز الملك عن الملك ووصفته لك هذه الدولة الكبرى كأنك تراه؛ على أني سأنيلك سؤلك، وأجعلك من رمسيس بحيث تسمع وترى، فلا تعجل علي، ولا تكن كمن يزورون الآستانة ولا أرب لهم إلا «حفلة السلاملك»، وإذا قضوا أربهم من حضورها رجعوا إلى أوطانهم متبجحين بما لم يعلموا من أبهة ذلك الملك، وعظمة ذلك السلطان!
قلت: أفيرضيك أن أكف عن السؤال يا مولاي؟
قال: اسأل ما شئت إلا الصغائر، فإنها تقتل النفوس، وتطفئ نور العقول، وما اشتغل بها شعب إلا هلك حيا. إن لرمسيس وجها كبعض الوجوه، وجسما كسائر الأجسام، لكن إذا وقفت على شيء من بسطة ملكه، وامتلأت نفسك مهابة من سعة دولته، ورأيت آثار نعمته على رعيته، ثم لقيته بالذات لقيت إلها في زي إنسان، تنحسر في جلالته العينان، ويخفق لأدنى لحظة منه الجنان.
قلت: مررنا في مجيئنا إلى الهيكل بعمائر شتى، وأبنية تشيد، وهياكل تعمر، فكنت أرى العمال صنفين، والصناع فريقين مختلفين، فما شرف من الأعمال وكان للعقل والرأي معظم الأثر فيه، تولاه المصريون بأنفسهم، وما خس منها وكان شاقا يشترك فيه الساعد والجسم، كعمل الطوب، وجر الأثقال، قام به طوائف من الناس زرية أزياؤهم، مختلفة صورهم، مسودة وجوههم، فمن هؤلاء يا مولاي؟
قال: غرباء أسروا في الحروب وجيء بهم إلى مصر، فأرواحهم مباحة للملك، ينهب منها ما يشاء، ويسخر من استبقى فيما يشاء، ويجود ببعضها على قواد جيوشه الذين جنوا معه ثمر الوقائع، وشهدوا بجانبيه المعارك والمعامع.
قلت: عجبا لكم معشر الآباء، تبلغون هذه المبالغ من المدنية، وتأخذون هذا النصيب من الحضارة ، ثم تقسوا قلوبكم فهي كالحجارة أو أشد قسوة؛ فلو اطلع الإفرنج - خلفاؤكم في الأرض - اليوم على سيرتكم هذه في معاملة الغريب والأسير؛ لأنكروها عليكم إنكارا، ثم لولوا منكم فرارا.
قال: يبقى الحيف ما بقي السيف، وليس ما نسبت إلى أصحابك من الرحمة المتناهية، وعزوت إليهم من الفلسفة العالية إلا ضلة من حلمك، وقلة في علمك؛ ينكرون على ملوكنا أن يلعنوا من ليس من دينهم من الأمم، وما أشبههم في ذلك بإدوارد السابع، يوم ذم المذهب الكاثوليكي بمسمع من الأشراف تباع هذا المذهب؛ ويرموننا بفرط الكراهية للغريب واقتناء الحقد له، ولنا في ذلك أعذار مقبولة، فما بششنا في وجهه قط، ولا استنمنا إليه مرة، إلا طمع في ملكنا وأفسد علينا أمرنا؛ على أننا علمنا الأمم من بعدنا شرع الوطنية، وعرفناهم كيف يطول عمر الدولة عند قوم، وتمد برهة الحكم بينهم، إذا هم اعتمدوا في جميع أمرهم على أنفسهم، وضربوا على يد الأجنبي أن تعبث في شئونهم، ولئن بالغنا للغرباء في سوء المعاملة، فلنا من موقع بلادنا الطبيعي عذر واضح؛ فما مصر إلا سهل سهل غزوه والإغارة عليه، وواد مكشوف للأبصار الطامحة إليه؛ فلو لم يسهر عليه منا الساهرون لما لبث في قبضتنا طوال تلك القرون؛ أما أسير الحرب عندنا فأشقى منه أسير الاستعمار عندهم، يزرع لهم ويحصدون، ويبني لهم ويسكنون، ويسهر عليهم وينامون، ويفتح لهم البلاد ويمتلكون، وإلى بعض هذا ينتهي الشقاء والصغار والهون.
قلت: يكاد علمك يسع الأشياء كلها يا مولاي، فلو علمت ما مراد الملك رمسيس من مواصلة الغزو ومتابعة الغارة، والخروج من حرب والدخول في حرب، ومنزلته بين الملوك الغابرين منهم والحاضرين ما لا ترى أبصارهم خلفها مطرحا، فهلا أقر السيف وحقن الدماء؛ فقد ملك الأرض فهل يريد أن يملك السماء!
قال: السيف يا بني يعلي السيف، والدول إذا كبرت وعز مقامها وتغلبت وعرفت الجاه والنفوذ، جد بها الحرص على البقاء، وطمعت في المزيد من الارتقاء، مخافة أن تقف فيدركها اللاحقون، أو تتمهل فيفوتها السابقون. وقد جرت العادة بين الناس أن الضعيف لا يزال يرمي القوي بالبغي حتى يصير ذا قوة مثله فيطغى مثل طغيانه، والفقير لا يزال يتهم الغني بالجشع حتى يثرى فيصبح هو الأجشع. وليس ما ترى من رحمة الناس البوير وما تسمع من ذمهم الإنكليز المعملين السيف في جنوب أفريقيا منذ عامين،
2
إلا حسدا لا ينفع البوير ولا يصغر الإنكليز؛ ولو أن إحدى الدول مكانهم ما كان شأنها إلا شأنهم؛ على أن الفتح إذا نفع القاهر مرة، نفع المقهور ألف مرة، فرمسيس إنما يخرج الأمم من الظلمات إلى النور، فيفك عقولهم من عقالها، ويشفي نفوسهم من ضلالها، ولولا فضل المصريين على أهل الأعصر الأول، ما قامت للأحباش دولة، ولا اجتمع للعبرانيين أمر، ولا انعقد للأشوريين لواء؛ سرى نورهم في الأمم المجاورة، وامتدت حياتهم إلى الشعوب المعاصرة، وهكذا سنة الدهر في الناس: أواخر يرثون الأول، ودول تبني أنقاض دول.
قال الهدهد: فعذبت مقالة النسر في نفسي، كأنها لفظ الشفاء على لسان طبيب، وقلت: لقد أخرجتني من يأسي يا مولاي، وعلمتني من مستقبل مصر ما لم أكن أعلم!
فتنهد بنتاءور وقال: تجمع كل أمة جوامع شتى من لغة ودين وجنس، وأمل ويأس، وسراء وضراء، وأنتم لا تعرفون غير جامعة الموت تجمع الأعداء.
ثم قطع الحديث وقال: هذا شيء نتحادث فيه بعد، فلنبق فيما نحن فيه من اجتلاء المناظر والمشاهد، ومناجاة المعالم والمعاهد.
قلت: ذلك أنفع لي يا مولاي، فما هذا التمثال القائم بين مقاصير الآلهة من الهيكل، وبين مجلس الملك ومنصب عرشه منه، إني أراه كعون بن عنق في ضخامته التي يزعمون!
فمشى النسر إلى التمثال وجثا لديه، ثم نهض وقال: فرغ الملك من حروبه التي تسير كالأمثال، وأمن تخوم ممالكه، وأخذ بالثقة من المستعمرات الواسعة، وفرق جيوشه في البسيطة يعززون فيها آية الملك ويحمون أطرافها، وأصبح من ثبوت الدنيا له، واستقامة الأمر في يده، بحيث قلت في وصفه ومدحه:
رمسيس يا ملك الدنيا وواحدها
وبضعة النور وابن الكوكب الأحد
الشمس مثلك بعد اليوم لا ولدت
والشمس مثلك قبل اليوم لم تلد
فإن تكن في سرير المجد خالدة
فإن عرشك مرفوع إلى الأبد ... حتى إذا فرغ من تشييد مملكته والاحتياط لحفظها، وجعلها بمأمن من الحساد والأعداء، فكر فيما يخلد اسمه، ويؤبد ذكره، ويكفل لتاريخه الدوام، فبنى المدائن، وأنشأ في كل واحدة منها هيكلا خاصا بإله أهلها الذي يعبدون، وسور هذا الهيكل القديم بالأعمدة التي تراها محيطة به، وليس أفخم ولا أضخم ولا أجل في الأعين منها؛ أمر أن تصنع صورته معظمة وتجعل في الهيكل، فعمل له هذا التمثال وطوله ثلاثون ذراعا، وهو من عمل الأسرى وحدهم، وقد عني الملك بأمر ذلك، فرغب أن يكتب أنه «لم يعمل مصري في هذا التمثال.»
قلت: وفيم هذا التبرؤ يا مولاي، ولو أنه من صنع المصريين لكان بالملك أليق، ولكانوا به أحق؟
قال: إن رجلا يرفع أكبر دولة في الأرض، ويقهر أربعين أمة، ويضع حدود مملكته أنى شاء، لا يؤخذ بكبيرة، فكيف ينتقد في صغيرة!
قلت: لأنك في دفاعك هذا عن الملك أشعر منك في مدحه!
قال: إنما أديت بعض حقه.
وهنا غلب النعاس على النسر، فجعل موعد الهدهد ميدان الملك في أصيل الغد.
المحادثة الثالثة
قال الهدهد: كنت في صدوري عن ميت رهينة تحت سماء الليل، أنظر قلة الرسوم لديها، وأرى ندور الأطلال عليها، وما هي إلا مقابر بعض الملوك، ومدفن العجل أبيس، وذلك التمثال في حفرته التي تنزل به عن سطح الأرض بقدر ما جرى الدهر على منفيس في سالف الأحقاب، وما عقدت سنابك خيله عليها من متراكم الحصى والتراب؛ فأعجب له كيف لم يبق من حواء العواصم غير بقية لا تذكر في جانب ما رأيتها عليه من السعة المتناهية، والعظمة الجمة، والعمارة المدهشة، وتبصرت مليا في السبب، فلم أر الداء إلا موقعها الذي عرضها في كل زمان للفيضان يعلوها، وأسلمها إلى رياح الصحراء تختلف عليها فتذروها، وذهبت مع المؤرخ عبد اللطيف
1
إلى أن معظم البلوى إنما جاء من عبث الأمم المختلفين أديانا، الذين أغاروا على وادي النيل، ومدهم يد الحسد إلى آثار الفراعنة بمعاول الجهل، وما زال الحسد بمرصد للفضل، وما انفك الجهل عدو العقل.
قال: وكان جؤجئي قد جاش بالشعر عندما نظرت التمثال في حاليه، وخبرته في يوميه، فقلت فيه:
إن جئت «منفا» وهي أو
لى بازديارك وانتيابك
ومررت بالأطلال مرا
في مجيئك أو ذهابك
بالأمس كنت مؤلها
ماذا لقيت من انقلابك
لا ينظرون إلى ذرا
ك وينظرون إلى رحابك
ويخاطبونك راغبين
إلى ثوابك عن عقابك
أزرى برمسيس البلى
وهوى به زمن هوى بك
وقصار خطبك عند ذي
نظر يبالغ في خطابك
عابتك أحداث الزما
ن فكنت أكمل عند عابك
وحضرني بشأن هذا الأثر شيء من قبيل ما مر بالفكر بشأن الأهرام، فأملت من جهة أن ينشط المصريون يوما لتشييد بنائه، وتكملة أعضائه، وتجديد حسنه وروائه، عساهم يقضون بهذا العمل الجليل حق خير ملك لخير جيل رأى وادي النيل، وتمنيت من جهة أخرى أن تفشو التماثيل في مصر؛ لأن فيها بعض المكافأة لمن سلف، وتعظيم شأن الحياة في نفس الخلف.
ثم فكرت في رجل عظيم القدر جليل المقام، خطير الشأن في صحائف الأيام، لا صحف الأقوام؛ تضيء مزاياه ثنايا التاريخ، وترفعه أعماله فوق البرجاس والمريخ، إذا مات رشحته الأمة المصرية ليمثل بالحجارة الأبدية، ويبجل بالكلمات الذهبية؛ فما زال بي الوهم والخيال، حتى وجدت طلبتي في الرجال، ولم يبق إلا عمل التمثال، فقلت حينئذ في نفسي: أين من يصنعه، وأين آلات ترفعه؟ وكنت خرجت من أحلامي في المدينة الغابرة، وبلغت مقامي في ضواحي القاهرة، فنمت أطيب المنام، أصل الأحلام بالأحلام، حتى إذا طلع الفجر، انتهيت أشوق ما كنت إلى النسر، يطول النهار ولا صبر، كأن إحدى ساعاته شهر، ومالي لا أشتاق معلمي الحكمة في الحديث، وملهمي القديم من العلم والحديث، وممثل الحقيقة في حسي، وكنت أجهلها في أمسي، أو أغالط فيها نفسي.
ولما جاء الأصيل، هجت إلى شاطئ النيل، فوجدته كما عهدته، وألفيت الحال ما زال: صغرت مدينة وكبرت مدينة، وعطلت ضفة وضفت على أختها الزينة، فاطمأن قلبي وقلت: صدق النسر وعدا، وعمدت لأقرب الزوارق الحاضرة، وهي كالعرائس في النيل خاطرة، بعضها في جيئة وذهاب، ومنها المتسابق في كل منساب، الآخذ بأنواع الرياضات والألعاب، حتى خيل لي أنه التامين، أو أني لدي السين في باريز؛ فنظرت إليه وأنا أحسب أن سأجد سارية أحط عليها، وأستند في وقوعي إليها، فوجدت جزاء من ينقل قدمه ولا يبصر قدامه؛ إذ علق جناحي، فالتفت فإذا أنا في يد رجل تعلوه كبرة وفترة، ويضرب لونه إلى الصفرة، وعليه ثياب مزركشة من ثمين الكتان، وقد جلس أمامه غلام من أوسم ما استخدم الكبراء، فقلبني قليلا ثم دفعني إلى ذلك الغلام، وقال: هذه طلبتنا، ساقتها الآلهة إلينا، فتحفظ عليها؛ فقد تفاءلت أن شفائي فيها، ما زال طبيب الرأس يحيلني على طبيب الأحشاء، وهذا يرشدني إلى الطبيب الروحي، وهو يرى دوائي في مساءلة الهياكل، وقد أعيت الجميع علتي، حتى وصف لنا مضحكنا «أوتا» الذي اشتهر بصدق تجاريبه، على قصر قامته وتشويه خلقته، أن رأس الهدهد إذا سحق، وأضيف إليه قلامة من حافر البغل، ومزج هذان بشيء من شحم الخنزير المذبوح قربانا لأوزيريس الإله والقمر في ليلة تمامه، ثم تناولت كل يوم حبة من هذا التركيب؛ فقد ينفعني ذلك في علتي التي حارت فيها العقاقير، وعجز عنها الأطباء!
قال الهدهد: فما استتم الرجل حتى ذبحت من الذعر بغير مدية، وقلت في نفسي: ما ذنبي حتى يختلط رأسي بحافر البغل وشحم الخنزير، وليس أحقر من هذين! فجعلت أفكر في حيلة تنقذني من هذه الميتة الشنيعة، فرأيت أن أنطلق لعل الأمير يستعظم الأمر فيضن بي، ففعلت، فإذا أنا طليق الجناح أطير، فنظرت تحتي فرأيت الرجل يشير نحوي براحتيه، كأنه يستغفر لي أو يستغيث بي.
والزورق يكاد ينقلب بمن فيه من هول ما فاجأ رجاله من أمري وشهدوا من حالي مع مولاهم، فضحكت من رؤيتهم على هذا الحال، وارتفعت في المطار حتى جازتني المدينة، فجعلت أحط تارة فوق جدار، وأستتر أخرى في الأشجار، وأتنقل من حانوت إلى دار، وأنا في هذه الأثناء ألحظ مجمل الأحوال، وأتزود من المدينة نظرة عامة، فرأيت حركة لم أر مثلها فيما غبر.
وشهدت من العظمى ما يصغر المدائن الكبر، شوارع وسيعة، ودور رفيعة، وحدائق بديعة، وجماهير متدفقة، وشرطة منبثة متفرقة، وخيل مركوبة، ومركبات مجرورة، ومخازن تفيش من صنوف المتاجر، وحوانيت لا تحصى لديها ضروب الصنائع، وكان من أعجب ما رأت العينان، أنس الحيوان إلى الإنسان، واطمئنان الطير إليه في كل مكان؛ تمشي بجانبه آمنة، وتتوثب حوله مطمئنة، وأعجبها الكراكي، رأيتها تتألف الأهالي وكنت أظنها لا تستأنس.
ورأيت نساء العامة يحملن أحمالهن على الأكتاف، ويجعلها رجالهم فوق الرءوس، وتلبس المرأة ثوبا واحدا، ويلبس الرجل ثوبين، وقد دهشت من توحد الزي عند القوم، وإيثارهم من اللباس الكتان أو الصوف، واختيارهم من الألوان الأبيض مع نظافة تضرب بها الأمثال، فكأنما كملت الجوامع فيهم حتى هذه؛ وتحيتهم في الطريق أن يفضي أحدهم بيمناه إلى الأرض؛ وإذا عارض كبيرهم صغيرهم تنحى حتى يعبر، وإذا مر به وهو جالس قام له حتى يمر.
ورأيت جميع الحيوان في الطريق إلا الخنزير، ثم عرفت السبب اتفاقا؛ وذلك أني بصرت بزحام فاقتربت منه، فعلمت من تساؤل الناس أن أحدهم تمسح به خنزير، فهم يسوقونه إلى النهر ليغمس فيه بجميع ثيابه، وهم يعتقدون أنه لا يطهر بدون ذلك، فرثيت في نفسي لحاله، وضحكت من أمر هذه العادة؛ ثم احتواني ميدان عظيم، ينحسر الطرف في جوانبه، ولا تحيط العين بأطرافه، فابتهجت باستقباله، وقلت: لعله ميدان الملك، ولعل الملتقى قريب!
وفي الواقع كان الأستاذ بنتاءور أول إنسان وقع نظري عليه، رأيته يشير بوجهه المتهلل نحو السماء، وكأنما يفتش عني الجواء، وينشدني في طبقات الهواء، فلما أخذني بصره، رفع يده يستنزلني، فهبطت فيها، ثم وثبت منها إلى كتفه منتفضا من التأنس والحبور، مرنقا من غلب السرور، فسألني عن أمري، وما لقيت من وحدتي في رحلتي، فحدثته حديثي أوله وآخره، فضحك من حادثة الزورق، وقال: تلك وحدة لم يكن لك عنها غنى وأنت في أول أيامك بهذه المدينة؛ لأني أردت أن تجمع في حكمك عليها بين ما تسمع مني وما تراه في خاصة نفسك، من أحوال أهلها وأطوارهم، وأخلاقهم وعاداتهم؛ فما رأيك في ذلك المريض؟
قلت: أحمق جاهل يا مولاي، وأطباؤكم أحمق منه وأجهل؛ وإني لأعجب منهم كيف يبلغون في الطب إجارة الجسد من الفساد، وحفظه من البلى على مدى الآباد، ثم ينزلون إلى الإيمان بالرقى والطلاسم، واعتقادهم أن رأس الهدهد وحافر البغل من العقاقير النافعة في بعض الأدواء!
قال: الخرافات يا بني وجدت مع الإنسان منذ البداية، وسوف تصحبه إلى النهاية، ولو بلغ من المدنية أقصى غاية، وأظنك عهدت باريز لا تخلو منها، وهي فيما يزعمون عاصمة العواصم، وكرسي التمدن القائم!
قلت: كذاك هي يا مولاي.
قال: لكن هلا أخذت من عبارة المريض أن الأطباء في منفيس ضروب، وأن توزع الأعمال قاعدة التطبيب بينهم؛ فهذا للرأس، وذاك للبطن، وآخر لأمراض العين، ورابع لأدواء الأذن؛ كل على قدر اجتهاده في الفرع الذي وقف نفسه عليه.
وهذا ما صار إليه الطب أخيرا عند الغربيين، وهم يعتقدون أن ذلك بداية النجاح الحقيقي، وفاتحة عصر للعلوم الطبية لا يقف ارتقاؤها فيه عند حد، فلو لم يكن من فضل أطبائنا الحمقى الجهلاء سوى أن القوم أخذوا عنهم هذا المبدأ الجليل، لكفى؛ على أنني عالم بأن الطب لم يتقدم في هذه العاصمة التقدم اللائق بمزلتها في الحضارة، الجدير بمبالغها في المدنية؛ ولهذا الأمر أسباب، أهمها قلة الأمراض في هذه الأمة؛ لأنهم من جهة يعتنون بأمر نظافة الأبدان والملابس؛ إذ من عاداتهم أن يغتسل واحدهم ثلاث مرات بالنهار ومرتين بالليل، فمثلهم كالمتقين منكم معشر المسلمين، الذين يتوضئون خمس مرات في اليوم؛ ومن جهة أخرى لأنهم في الغالب رجال عمل ونهوض وحركة، وإذا كان النشاط في الطباع، سلمت الجسوم من الأوجاع.
وبديهي أن توسيع العلوم يكون بقدر الحاجة إليها، فإذا عظمت عظم الاشتغال بها، وكثر الاختراع فيها، وإذا قلت قل، وأكبر برهان على ذلك ما أشرت إليه من بلوغنا الدرجة القصوى في التحنيط والتصبير، فلولا اعتقاد الأفراد أن الأجسام بعد الموت مقدسة لا ينبغي أن يصل إليها الفساد، لما اجتهد الأطباء المختصون بهذا الفن فيما يمارسون من جليله وحقيره، حتى بلغوا فيه إلى درجة الإعجاز، منساقين برغبة الكافة، ملبين منادي الحاجة العامة.
وما يقال عن التحنيط يقال كذلك عن فن العمارة والإنشاء؛ فليس السبب في رقيه بيننا هذا الرقي المعجز الباهر، إلا مبالغة المصريين منذ القدم في قيمة الآلهة وتصورهم إياهم في منتهى العظمة المؤبدة الأزلية؛ فلا يرفعون لهم من الهياكل إلا ما يليق بمقامهم هذا ويسكنونه إلى الأبد؛ على أنك لو قست دور الأهالي من جميع الطبقات، وما رأيتها عليه من البساطة والاقتصاد في البناء، بالهياكل وما شهدت من فخامتها، واجتليت من زخارفها، لعلمت أن دعواي مبرهنة من نفسها، ولأيقنت أن قصور المصريين في الطب لم يكن عن جهل وقلة ذكاء، لكن عن عدم حاجة ماسة وقلة اعتناء.
قلت: صدق مولاي وأفاد، لكن هذا ميدان الملك، فأين قصره؟
قال: تظل تحلم بالملك! وقد أذكرتني أن لي كلمة أقولها لصائغه الخاص بأمر جلالته، فلنبدأ به الآن.
قلت: الأمر إليك يا مولاي.
فمشى النسر وأنا فوق كتفه، حتى مر بحانوت ضيق المدخل رزي المنظر، فرأيته يهم بالولوج، فقلت: لعلك ضال يا مولاي؛ فمثل هذا الحانوت لا يكون لصائغ الملك!
قال: بل الضال أنت يا كثير العجلة.
فخرست، ودخل الأستاذ، فخف لاستقباله رجلان: كهل وغلام، وكانا ساعة دخولنا متقابلين على منصة للعمل، مكبين على الذهب يفرغانه ثم يصوغانه، فحيياه حق تحيته، ثم عادا إلى العمل وأخذا بما كانا فيه، وعندئذ قال الرجل للأستاذ: أتأذن يا مولاي أن أتمم حديثي مع هذا الغلام، ثم أتلقى أوامرك؟ فأجابه: افعل، فلا تكره أن نشاطره الفائدة. فاندفع الرجل يقول: اعلم يا بني أن الأمانة رأس مال التاجر، وهي والإتقان كلاهما رأس مال الصانع، وقد صيرتهما لي عادة منذ مارست هذه الصناعة، فلم أكلف عملا إلا استجمعت قواي لتجويده وإحكامه، وفكرت في إتقانه قبل الفكر في إتمامه، فإن بدا نقص بعد ذلك برأت نفسي وقلت : علي بذل الجهد وليس علي أخذ المستحيل. وكنت في بدء تعاطي هذه الحرفة مساعدا لمحب الحقيقة أستاذي الذي انتقل إلى الدور الأبدية، فتعلمت منه محبة العمل والإخلاص فيه وبذل الجهد في إتقانه، وهو الذي ذهب تابوت الملك سيتي، والد جلالة الملك، ونقشه فأبدع نقشه.
وكان أجره عن ذلك مائة قلادة من الذهب، خرجت إليه من الخزائن السلطانية، فهنأته يومئذ بما نال من جسيم الربح، فكان جوابه لي: اعلم أنه لو عرضت علي خزائن الملك جمعاء وأنا في العمل أصنع التابوت، لما أعرتها نظرا؛ لأني رجوت أن يقال: ملك الصناعة، شرفها يوم موت ملك الجماعة! فوعيت هذه النصيحة كما يوعى الوحي الآتي من جانب الآلهة، وها أنا أبذلها لك كما بذلت لي من قبل فكانت أصل سعادتي وسر نجاحي، والسبب في تحصيل هذه الثروة الجسيمة، وارتقائي في القصر هذه المنزلة العظيمة.
قال الهدهد: وكان الرجل يقدم النصائح لتلميذه وكأنها قلائد يصوغها، وبنتاءور يتثاءب ويتمطى، فخشيت أن يحول بنومه المعهود، دون سماعي مقالة الصائغ إلى آخرها، فكان ما خفت أن يكون، وغلب على النسر النعاس، فقال لي بلسان متلعثم: إذا جاء الليل نامت الشياطين، فارجع إلى عشك الآن والقني غدا في هذا الحانوت.
قال الهدهد: فلم يكن إلا إغماءة حتى رأيت نفسي فوق سطح بيت العمدة في ميت رهينة، فاستعذت بالله، وأقلعت من فوري للطيران، أؤم عشي في حلوان.
المحادثة الرابعة
قال الهدهد: وكان الغد، فأصبحت فيما أمسيت فيه، أهفو إلى النسر ولا أعطى عنه صبرا، والنفس إلى ما يشغلها شيقة ولعة، فما زلت رهن أحوال، وجار عيش وأشغال، حتى زينت السماء الدنيا بالآصال، وإذا أنا من جؤجئي في سفينة عند دأماء، وهي تجري في بحر ولا ماء، من مذاهب السماء، دفتها ريشتان، وشراعها جناحان، فاستوت على ما وراء النهر، وإني لفي الحانوت كأن لم أبرحه، أراني فوق كتف النسر، أنظر إلى الصائغ والغلام، وكأن ما مر فترة من حلم، إذ الحديث متصل، والصائغ يقول: هذا يا بني صاحب الملك وشاعره، وبوقه في الغزاة، وظله في النقلة، وداعيه في الأمة، وآية ملكه في الأولين، وحديثه من بعده في الآخرين، أوفده حفيد السموات، وشعاع الشمس في الجماعات، برسالة عملت بها قبل أن تبلغ إلي.
ثم التفت إلى بنتاءور وسأله قائلا: أليس أمر الملك يا مولاي أن تنقش على القلائد الثلاث صوره الثلاث: يوم قدم طيبة ظافرا، ويوم صلى صلاة الظفر في هيكلها، ويوم المهرجان؛ وكانت إشارته السابقة أن تتضمن الصور الثلاث حملته على الأعداء في آتيش، ودخوله المدينة فاتحا، وجلوسه لملكها ومترفيها يأتونه أذلة صاغرين؟
قال: في هذا جئت؛ فلعل إنسانا جاءك به قبلي.
فتبسم الصائغ حينئذ وقال: إنه ليس إنسانا، إنه الملك بذاته، أشرق هذا الحانوت بنوره، وكأني به قائم عند رأسي يقول: اصنع كيت، وافعل كيت، وأنا جالس كما أنا الآن أحدثه كما أحدثك، ثم مشى تظلله السماء، وتحرسه عين ذكاء.
قال الهدهد: فدهشت مما سمعت، وودت لو كنت حاضرا في تلك الساعة، أرى الملك وأسمع حديثه، وتحسر الغلام كذلك وسأل أستاذه قائلا: وأين كنت يا مولاي عندما تقدس هذا المكان بالملك؟
قال: كنت في إصباحك لم تغد بعد إلى العمل، فلم أشأ أن يخجلك أن تعلم أن ملك الملوك سبقك إلى حانوت أنت فيه صبي تتعلم صناعة.
فخرس الغلام وتلون ألوانا من الخجل.
ثم قال الصائغ يخاطب الأستاذ: ليس العجب يا مولاي أن يسعى الملك إلى عبده، فإن دأبه الأخذ بيد العاملين، فكيف بعباده المخلصين أمثالي؟ على أن كبار الملوك يتنكرون لأخذ الحكمة التي لا تنفذ على الملوك حجابهم، وطلب الحقيقة التي لا تلج عليهم أبوابهم، كما يتنكر صغارهم ليزدادوا من الصغائر؛ لكن العجب كل العجب أن يلفيني الملك قد ألغيت العمل بأمره الأول قبل أن ينقضه، وعملت بما جاء من أجله قبل أن أعلم به، أمهلته ريثما تكلم وأشار وأمر، ثم كشفت عن القلائد بين عينيه؛ فاستغرب الأمر وسأل عن السبب، فقلت له: القلائد يا مولاي للملكة الصغرى، وهي بنت ملك آتيش الذي كان عزيزا فأذللته، وملكا فاستعملته ثم صاهرته، وأنت تحبها وتفضلها في هوى القلب على سائر نسائك، ولحبل من مسد تجعله في جيدها أحب إليها من قلائدك التي تذكرها فشل قومها وذل أبيها.
فسر الملك بما قلت له، وأقرني على ما أخذت به من العمل، وقال: خلق الغرور للملك، وقد يبلغ بنا معشر الملوك حتى نسيء إلى أعز الناس علينا ونحن نحسب أننا نحسن إليه.
قال الهدهد: ثم ودع الأستاذ الصائغ وخرجنا وأنا أقضي العجب مما سمعت ورأيت ولا أستطيع مع الأستاذ صبرا، فلما صار وحده قلت: حفظت أشياء وغاب عني شيء واحد يا مولاي.
قال: وما ذاك؟
قلت: إنفاذ الملك إياك في أمر سبقت به كلمته للصائغ!
فتبسم ثم قال: هذا من تأديب رمسيس صحابته لكيلا يطغوا، يعلمنا أن له جسدا وقدمين ولسانا وعينين، وأن بين غمر العامة ولفيف الخاصة ممن لا يحوزهم مجلسه من يليق أن يسعى الملوك إليه ويأخذوا الحكمة عنه!
قلت: تظل تشوقني إليه، فهل أنى أن أراه أم لم يأن يا مولاي؟
قال: لكل شيء ميقات، وليس هذا وقت رؤية الملك، فاصبر معي أو انقلب إلى عشك جاهلا محروما!
فاستعنت الله على الأستاذ في نفسي، ولذت بالصبر في أمري.
وطفق يجوب بي الطرق، ويحول في الأزقة حتى خرجنا إلى بناء رفيع، فوق طريق وسيع، فقصد الأستاذ قصده، فسألته: ما هذه الدار يا مولاي؟ ولمن؟
قال: هذه يا بني شمس النهار، ومشرق الأنوار، ومهبط الحكمة والأسرار، ونقطة تلاقي العقول الكبار، دار الأدب والفلسفة، أسسناها على مثال الدار الكبرى في طيبة، وكنا أربعة، فلم يمض علينا عشرون عاما حتى نمت وربت، ونجحت ورقت، وأصبحت من تعدد الأساتذة وتكاثر الطلاب وتهافت المستفيدين من الأجانب علماء وفلاسفة، بحيث تضارع أختها في طيبة، ويميزها أن ليس للملك ولا لحكومته ولا للكهنة يد في التأسيس، ولا سبيل على التدريس، وأنها غراس الأفراد وإحدى هممهم؛ فانظر إلى الكثير كيف يأتي من القليل! ومن ميمون أمر هذه الدار أن وزير الخزانة السلطانية لما سمع بها وزارها وهي في أيامها الأولى ، كتب لها صكا بربع ثروته الواسعة، تستوفي ذلك في حياته وبعد مماته؛ ثم مات وانتقلت روحه الكريمة إلى المغرب،
1
وكان قد أدخل ولديه فيها، فلا ورأس الملك يا بني، ما رأيت أنجب منهما، ولا أحب للعلم، ولا أصبر على تحصيله، ولا أطلب للغايات فيه؛ إذا ذكر فتيان المملكة في مجلس صاحبها سماهما وأثنى عليهما، وسمع ثناء الناس فيهما؛ فليت أباهما يرد إلى الحياة لينظر كيف تجزي العناية المحسنين، وتجعل عماد بيوتهم من بعدهم البنين!
قلت: سعداء أنتم معشر الآباء، اتفق أربعة منكم ولن يتفق اثنان منا، وبذل أحدكم ربع ماله في البر ولن ينفق أحدنا دخل عام واحد في صالح الأعمال، ونحن الذين قال بعضهم فينا: «اتفقوا على أن لا يتفقوا.»
2
فأحفظت عبارتي الأستاذ، وقال: ما هذا السم في الدسم؟! ومن ذاك الذي يثبط الهمم؟! هذا ومثله أيها الهدهد من الأوهام، وإنها لتخامر العقول فتعقلها، وتداخل النفوس فتقتلها. الأوهام داء الأمم، ومنية الشعوب؛ إذا تمكنت من قوم كانت كالفاس في الأساس، وكالنار في الشعار، وكالحبل في الخناق، وكالعلة في القلب، لا يخفق معها إلا إلى حين. ومن تبالغ نكد الدنيا على الشرق الحاضر تبالغ هذا الداء فيه، حكوماته دواليب تدور بالأوهام، وبلدانه مملوءة ما بين السماكين من الأوهام، وأممه تروح وتغدو حيث تجعلها الأوهام. نظر الواحد منهم في الأمور عرضا وبعين غيره، وحكمه فيها عن الهوى، وانقياده في إيرادها وإصدارها بأزمة الأوهام. قال لكم رجل قولا فوهمتم فمتم أحياء. ليس مع السلوة عيش، ولا مع القنوط عمل، ولا مع اليأس حياة، وليس أجلب للشر والضر من الدعوة إلى الربوض، وتوهين العزائم، وإماتة القلوب، وإخراج النفوس من الرجاء إلى اليأس الذي هو الموت في أشنع صوره وأقبح أحواله.
قلت: الأوهام يا مولاي داء الأمم منذ القدم، لم تخل منها أمة خالية، ولن تخلو منها أمة آتية، فما بالك تلزمها فريقا دون فريق، وتنكرها على قوم ولا تنكرها على آخرين؟
قال: خلق الإنسان من ضعف، فكان الوهم أول دين دان به، وأول حكومة دان لها، وأول شيطان سكن إليه. كان على وجه الدهر يستقبل المجسمات ويتخذ منها آلهة يسجد لها، ولا يزال آخر الدهر يتوجه إليها بالتأليه والتقديس والتنزيه، وإذا عبد الله كما تعبدونه أنتم والنصارى واليهود، كان لله الشطر من تلك العبادة وللأوهام الشطر؛ فالمسيحي يبلي الحديد في كنيسة القديس بطرس بروما استلاما وتقبيلا، كما يضع المسلم خده في عتب الأضرحة بالقاهرة تمسحا وتأميلا وتعظيما وتبجيلا. وكان في شبيبة الدهر يؤله الجبابرة من البشر أمثاله، ويحكمهم في عرضه ودمه وماله، ولا يزال معظم الخلق حتى الآن عبادا للملوك يأتونهم طائعين، غرهم التاج، وخدعهم العرش، وغشهم الحجاب، وضللهم الاستبداد، فالسلطان في الأصل للوهم لا للسلاطين، وحقيقة الطاعة له لا للمالكين. وكان الوهم أول شيطان سكن إليه الإنسان، تولد منه يقينه، ونشأ عنه علمه، وجرت عليه أموره، وانبنى عليه حكمه، وتألف منه مألوف عاداته، يحس به ويشعر، ويسمع به ويبصر، ويعجز به ويقدر، وبه يعيش وعليه يموت. خلت آلاف من السنين، وحافر البغل في مصر حافر البغل فيها، يمسح في وهم بعض الناس من بعض العلل، ويشفي من بعض الأمراض. ومضت مئات من القرون والميت في مصر يجنز آخر الدهر كما كان يجنز أوله، فلو رفع الصليب من جنازة قبطية، وصين القرآن عن أن يرتله الهمل في جنازة مسلمة، لخيل لك أنها جنازة ميت منا معشر القدماء؛ رسوم احتفال، وقربان، وأكل، وحثو تراب، وشق جيوب، وولولة نساء، وعويل عبيد وإماء، وندب الميت ونعته بكيت وكيت؛ والأوهام يا بني كما قلت لا تخلو منها الأمم الكبيرة والشعوب الحية، إلا أنها تقف حينئذ حيث العامة لا تجاوزها إلى الخاصة، إلا ما ندر؛ كما أنها تتملك الأمم الصغيرة والشعوب المنحطة، فيكون للخاصة منها مثل حظ العامة، وهنا عظيم البلوى، ومنتهى نكد الدنيا. أليس من الوهم القاتل للأنفس، المميت للقلوب، أن يصح في أذهان خاصة المصريين من أمراء وعظماء، وأدباء وعلماء، أنهم أمة ليس فيهم فلاح، ولا يرجى في أمرهم صلاح؛ وأن اتفاقهم سابع الجهات ، ورابع المستحيلات ، وأن الوطن ميت وأنهم ميتون، وما أشبه ذلك من الدعاوى الباطلة التي لا تنطبق على نواميس الوجود، ولا ترد إلى أحوال البشر وحوادث التاريخ. الأمم يا بني لا تموت، ولئن بدت عليها دلائل الموت في أزمنة الاضمحلال فما تلك إلا بؤسى تزول، وحال ستحول. الأمة تصح ثم تعتل ثم تصح؛ تتجدد من حيث تبلى، وتقوم من حيث تسقط، وتصح بالعلل. هذه اليابان، هل كان في حسبان أحد أن تضم صوتها يوما ما إلى أصوات دول الغرب في مسألة من أكبر مسائل العصر، وتطمع مع الممالك الطامعة، وتسير الجيوش في البر، وتخرج الأساطيل في البحر، وقد كانت وأنت في زمن الدراسة لا يذكر اسمها إلا مقرونا باسم الصين، عنوان الهمجية، ومثال التوحش، والمشبه به إذا ذكر التأخر والانحطاط.
3
وعرض على المسيو تييرس الوزير الفرنساوي المشهور، مشروع يراد به إنشاء السكة الحديدية في فرنسا، فسخر منه علانية في المجلس، وعده ضربا من الهذيان، ثم لم يمض نصف قرن على ذلك حتى أصبحت سكك الحديد في فرنسا تكاثر الأنعام. وقارن المؤرخ فولنيه - الشهير بأسفاره الطويلة في الشرق وكتبه الجليلة عنه - بين القاهرة وباريز على عهده، فذهب إلى أن عدد أهالي القريتين واحد، وأنهما كلتيهما تضاءان بالسرج وزيت الزيتون، وتحصنان من الخارج بالأسوار، ومن الداخل بالأبواب، وأن الإنسان لا يخرج فيهما بعد ساعة معلومة من الليل، إلى غير ذلك من شبه التأخر ومخايل الانحطاط. وفولنيه هذا قدم القاهرة في أيام المماليك،
4
وكتب ما كتب عنها في القرن الثامن عشر، فانظر كيف تبدلت الأمور، وتحولت الأحوال، وأصبحت باريز كما عهدت عروس عواصم الغرب، تعتاض كل يوم عن ضوء بضوء، وتبدل حصونا بحصون، وتذهب مخترعات وتأتي مخترعات، وتخرج المدينة من أبوابها، وتمتد إلى ما وراء أسوارها، من تكاثر الأعمال، وتزاحم العمال؛ على كثرة ما أصابها بعد فولنيه من مصائب الدهر ونوائبه؛ فكم هول ثورة لاقت، ونار حرب ذاقت، وخراب إليه انساقت، وكم حكومة قلبت، ودولة غيبت، وملك قتلت، وقيصر عزلت، كل ذلك في قرن ونصف قرن ، ثم كانت النتيجة خروجها من دجنة هذه الحوادث سافرة زاهرة، عظيمة فاخرة، فلو أن أهلها دعوا إلى اليأس فلبوا، وقال لهم عقلاؤهم موتوا أحياء فسمعوا، لكانت النتيجة بقاءها كما وصفها فولنيه أو أضيق حلقة أو أشد انحطاطا. من هذا ومثله تعلم يا بني أن العلم والبيان خلقا ليكونا حرب الأوهام، ونورا يخرج إليه الأمم من الظلمات، وأن حاملهما مطالب بالعمل والدعوة إلى العمل حتى النفس الأخير من الحياة، فمن ثبط هممكم من علمائكم وعظمائكم، فالووا الوجوه عنه، وانفروا بالأسماع عنه؛ ومن دعاكم إلى حياة فذلك داعي الخير، فاستمعوا له وأنصتوا.
قال الهدهد: فما استتم النسر حتى ملئت حياة وأملا وثقة من المستقبل الذي أعتقد أنه بيد الله، إذا شاء صد عنه وإذا شاء أقام فيه.
وكان للأستاذ درس يلقيه على الطلبة، فأدرك أن الوقت سرق بعضه بعضا، وأن حديثه معي كان السبب في ذلك، فغضب في نفسه، وهرول حتى دخل القاعة الكبرى، وهناك خف مئات الطلبة له إجلالا، ثم انحنوا إكبارا؛ وكان ملل الانتظار تبدو دلائله على وجوههم، فتأملتهم وأنا لا أصدق حسي فيما أنظر وأسمع، فإذا هم جميعا مرد أو كالمرد؛ لأن من عادتهم إزالة شعر الوجه - كما قدمنا، وعليهم أردية صافية من الكتان الأبيض.
ثم تصدر الأستاذ للتدريس كأنه الملك على عرشه، فغلب علي السرور وقلت في نفسي: الآن نلت من السعادة ما لم ينله أحد، لكني ما تأهبت للسماع حتى تثاءب النسر وغشيته السنة المعهودة، فالتفت إلي يقول بلسان يعقده النعاس: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، وموعدنا غدا هذا المكان.
فاستعذت بالله وخرجت من أحلامي، وإذا أنا في وكري بحلوان.
المحادثة الخامسة
قال الهدهد: كان الغد، وجاء الأصيل، وآن الموعد، فأعملت جناحي أستقبل منفيس، فلما وصلتها قصدت دار العلم والفلسفة فيها فدخلتها، فرأيت الطلبة يخرجون من الدرس، وكانوا يستعدون له بالأمس، وقد أحاطت عصبة منهم بالنسر يماشونه ويلقون عليه الأسئلة شتى، ويأخذون من بحر علمه وروضة بيانه، فأشرفت على حلقتهم أخطف السمع، فسمعت أحدهم يقول للأستاذ: ما هي الفضيلة يا مولاي؟ قال: ترك الرذيلة. قال: وما الرذيلة؟ قال: هي جاران في دار: الجهل، والبطالة في الشباب.
وسأله آخر: علمتنا يا مولاي أن الراحة والسعادة كلتيهما في العمل، فدلني على عمل ألتمسهما فيه. قال: ابن من أنت؟ قال: ابن نجار في المدينة. قال: عليك بمنشار أبيك، فإن فيه الراحة والسعادة.
وسأله ثالث: بماذا تشقى هذه البلاد وبماذا تسعد يا مولاي؟ قال: بالنيل والثور وبالمحراث.
وألقى عليه رابع هذا السؤال: من العالم يا مولاي ومن الحكيم ومن الطبيب؟ قال: العالم من لا ينام، والحكيم من لا يطعم، والطبيب من لا يموت! قال: هذا هو المستحيل يا مولاي؛ فما تريد بهذه المبالغة؟ قال: أردت أن العالم من علم بالنهار وتعلم بالليل، والحكيم من زهد في هذه الدنيا وقنع منها بكسرة، والطبيب من ترك طبا يعيش به الناس بعد موته.
وسأله تلميذ آخر: ما هي الفلسفة يا مولاي؟ قال: هي احتقار الدنيا، ورحمة الناس. قال: وما فضلها؟ قال: تحول دون الهوى والغضب، وكلا هذين مذلة. قال: وكيف تؤخذ يا مولاي؟ قال: توجد في الطباع، ولا تؤخذ من الرقاع.
قال الهدهد: ثم أشار النسر إلى الطلبة أن ينفضوا من حوله، ففعلوا إلا اثنين من خاصة تلاميذه، ظلا يماشيانه وأنا أطير حيث يسيرون، حتى أخذوا إلى المدينة، وعندئذ وقعت فصرت فوق كتف الأستاذ، فلم يقف ولم يلتفت، لكن سمعته يقول لصاحبه: ما فاته درسي لا تفوته صحبتي، ومن صحبني فليصبر معي، ليس للعلم وطن، ولا للحكمة دار، بل العاقل من له على كل أرض مدرسة، وعلى كل طريق أستاذ، المدرسة تقيم العقل في طريق العلم ولا تتكفل بوصوله، كالمعبد يمد السريرة في الاعتقاد ولا يتكفل لها بكشف الغطاء، فرب عابد من نفسه وصل، ومتعلم من نفسه حصل، عرفت صنوف العلم فلم أر كالفلسفة يأخذها المرء من نفسه، ثم من حيث التفت فرأى، وكلما قيل له فسمع من حديث المتكلم إن صدقا وإن كذبا، وصموت الصامت إن بكامة وإن بكما، ونعيم المنعم وبؤس البئيس ، ومشية المستكبر، وهذيان المهوس، وعربدة السكران، ومن النمل في مشاغلها، والنحل في معاملها، والذر في مستثاره، والبرق في مستطاره، والزهر إقباله وإدباره، والفلك ليله ونهاره، والبحر مضطربه وقراره، ومن النفس إذا اعتلت وإذا صحت، وإذا طمعت وإذا قنعت، وإذا رغبت وإذا تسلت، وإذا جشأت وإذا اطمأنت، وإذا شكرت وإذا جحدت، ومن الطباع إذا امتحنت، والسرائر إذا بليت، والأهواء إذا اختبرت. مدارس لا يفرغ اللبيب منها، ودروس لا يصبر الحكيم عنها.
قال الهدهد: ففهمت أن النسر يعتذر، وأنه ينهى عن الكلام ويأمر بالسكوت، فامتثلت ولم أنبس.
ثم سرنا فمررنا في طريقنا على دار تشيد ويبالغ فيها ويوشك بنيانها أن يتم من زحمة الأيدي عليه؛ وكان ربها عندها بين غلمانه وأعوانه، وكان الأستاذ يعرفه، فاقترب منه وحياه، فرد التحية، فخاطبه النسر قائلا: لمن هذا القبر أيها السيد؟
قال: هذا قصر يا مولاي لا قبر!
قال: وجدنا آباءنا يؤبدون القبور لا الدور؛ لأنها مواطن القرار، ومنازلنا جميعا معاشر السفار، فعلام تظلم سنتهم، ولا تسير في الحكمة سيرتهم؟
قال: إني واهبها للملك، ولا يوهب له إلا ما يليق به.
قال: إن الملك في غنوة عن مثلها، ولو كان ممن يطمحون إلى ما تملك أيدي الرعايا، أو يفرحون بما يزلف لهم من ثمين الهدايا، لما ساد الأمم، ولا اعتز ولا احتكم؛ إنه ليجيء إليه من أقاصي البلاد، ويدخل في خزائه من كرائم المال، ما لو جعل بعضه فوق بعض لطاول الجبال، وإنه لأحرى بك أيها السيد، أن تهدم هذا الصرح من أساسه، ثم تجود على كل فقير في وادي النيل يتضور جوعا بطوبة من أنقاضه، يشد بها على لحم بطنه لتخفف عنه من ألم الجوع.
ثم ودعه وسار، فما زلنا نذهب في المذاهب والنسر دليلنا، حتى انتهينا إلى دار حقيرة البنيان، عندها صبيان يلعبان، فقصد الأستاذ قصدهما، ودعاهما إليه، وقبلهما فوق جبينهما، ثم قال يخاطبهما وعيناه تفيضان من الدمع: كان أبوكما رجل صدق، وكان وفيا، فلتجزينه السماء فيكما، ولتباركن فيكما لأمكما. ثم التفت إلى صاحبيه وقال: ألا أنبئكما من مالك هذا البيت الزري؟
قالا: بلى.
قال: ذاك الذي يبني قصرا ليهديه إلى الملك، وهو لا يسامح تلك الأرملة ولا هذين اليتيمين في أجرة شهر واحد، فما أظلمه وما أظلم الملك يوم يقبل هديته، وما أظلم الحياة وما أظلم الناس!
ثم ودعهما الأستاذ وانطلق يمشي ونحن نتبعه، حتى دخل في طريق ضيقة، فاندفع فيها حتى أتى عليها، وكان في آخرها منزل، فوقف به ثم دق الباب، فخرج إليه رجل وقور، يدل تجعيد وجهه على تقدم ميلاده، فحياه النسر، فرد التحية، فسأله: ما صنع الملك باليتيمين وأمهما؟
قال: رأف بهم وأمر أن يجرى لهم رزق من الخزانة السلطانية.
قال: خيرا فعل، والخير سجية فيه؛ فعد إلى أهلك فقد اطمأن قلبي.
ثم تركه واستمر في مسيره، والفتيان يماشيانه، وقد سأله أحدهما: من الرجل يا مولاي؟
قال: للملك جواسيس يتخذهم، لا على رعيته، ولا على صحابته، لكن على المتعففين من الفقراء، وعلى الأرامل والأيتام، يدلونه عليهم لينظر في أمرهم، وهذا الرجل من أدلاء الملك على الخير، ولا أجر له على ذلك غير رضى نفسه، وطلب الهدوء لها في رمسه.
هذا ما يفعله رمسيس، وملك الدنيا له، وأمر تدبيرها بيده، مباركا له في الآل والحال، والرعية والسلطان، وليأتين يوم يتخذ الملوك جواسيس على الأرملة واليتيم، ليسلبوهما شبر أرض، أو جدار منزل؛ فأولئك ملكهم في دمار، وتاريخهم في سجل من عار.
ثم عطف الأستاذ على حانة خمار فدخل، فتخلف الفتيان، فأبى إلا أن يتبعاه، وهناك جلسنا في ناحية، وطلب النسر شيئا من الخمر له ولتلميذيه، وكان إزاءنا ثلاثة فتيان، ترى عليهم دلائل النسب والحسب، وكأنما عرفوا الأستاذ، فاحتال أحدهم حتى تسلسل وانصرف، وتحول الثاني إلى زاوية فانكمش فيها، ولبث الثالث كما وجدناه ثابتا لا يتحرك؛ فالتفت النسر إلى أحد الصاحبين وسأله قائلا: أعرفت هؤلاء يا بني؟
قال: هم يا مولاي بنو صديقك القائد فلان.
قال: هم بعينهم يترددون إلى هذا المكان، وقد علم والدهم بذلك، فتشبث بي أن أتداركهم بالنصح والخمر في رقهم قبل أن يصبحوا في رقها؛ فكيف وجدتهم يا بني؟
قال: أما الأول يا مولاي فيخجل من نفسه، وأما هذا المنكمش المستتر فيخجل من الناس، وأما هذا الثالث المتهتك فلا يخجل من نفسه ولا من الناس!
قال: أصبت يا بني. ثم أقبل على رفيقه وسأله: وكيف رأيك فيهم أنت يا بني؟
قال: أرى يا مولاي أن يوكل الأول لنفسه؛ لأنها سوف تزجره، وأن ينصح للثاني؛ لأن المقالة تنجح فيه، وأن ينعى هذا الثالث إلى أبيه!
فضحك الأستاذ من جوابه، وحكم بصوابه؛ ثم التفت إلى ذلك الفتى المنكمش، وناداه: مالك يابن الأخ لا تكون رابعنا؟
قال: إن أذن مولاي فعلت. ثم خف إلينا فجلس معنا، فحياه الأستاذ ولاطفه، ثم خاطبه فقال: ما أطيب الخمر يا بني!
قال: أطيب منها يا مولاي هذا الثناء عليها منك.
قال: كيف تجدها؟
قال: فيها لطف، وهي محرقة.
قال: كذلك الشرارة: تجدها لطيفة المتقد، وقد تضرم نارا على بلد!
قال: وإنها لتدب خفية ضعيفة، ثم تتمكن ظاهرة قوية.
قال: وهكذا الداء!
قال: وإن الجسم ليستريح معها، وتخرج النفس بها من عالم الهموم إلى عالم موهوم.
قال: خير لشاربها إذن أن ينتحر؛ فالراحة كل الراحة في الموت!
قال: وإنها يا مولاي لعادة، والنفس بما اعتادت منقادة!
قال: الآن صرحت، فإن كان ولا بد فخذ منها لطربك، ولا تعطها من عقلك وأدبك، واتخذ منها صحة ولا تتخذ منها مرضا، واشربها مع حكيم يقول لها قفي، وخذها في مجالس الكرام؛ فهناك أوائلها طرب، وعواقبها أدب.
قال: ألنت يا مولاي فنجحت، ولو ألححت لما أفلحت، فلا يكونن إلا ما نصحت.
قال: بقيت يا بني في النفس حاجة: إن أباك أشفق من السفهاء أن يمدوك وأخويك في الغي، فسلطني عليكم؛ فأما ذاك الذي استحيا فله نفس تزجره وهي حسبه، وأما أنت فقد رأيت من عقلك ما يطمئن به قلبي، وأما هذا الذي يشربها جهرا، ويلحظ اللائمين فيها شزرا، فالحيلة فيه قليلة، والنصيحة معه مستحيلة؛ فإذا لقيت أباك فتب من تلقاء نفسك إليه، واكفني شبهة المن عليه بهداية ولديه.
قال: أمرت ممتثلا يا مولاي. فودعه الأستاذ ونهض وصاحباه على أثره.
قال الهدهد: فلما خرجنا من الحانة رأينا الناس يزدحمون على بابها، والتفت إلى النسر فرأيت الغيظ على وجهه، وسمعته يقول لصاحبيه: ما أولع الناس بالناس، يشتغل أحدهم بشئون أخيه، وفي أيسر شأنه ما يلهيه! علم الملأ أن بنتاءور دخل في هذه الحانة، فاجتمعوا ينظرون كيف خروجه، فلأستقبلن جمعهم، ولأخطبن فيهم. ثم فعل فقال: أيها الناس، الماس فوق التراب ماس، والخزف خزف ولو حمل على الراس؛ أما والآلهة في معابدهم، وآباء الملك في مراقدهم، لرب صادر عن هذا المنزل أطهر من خارج من هيكل! أيها الناس، من زل منكم فليستتر، ومن رأى زلة فليستر، من علم على أخيه فلينصح له همسا، وليرحمه في نفسه، وليدع له في صلاته. أيها الناس، ثلاثة تعرض ولا يأمنها أحد أن تفاجئ: المرض، والمصيبة، والغواية؛ وما شكر أحدكم الآلهة على الخلاص منها بأفضل من رحمة الواقعين فيها. رأيتم من السفاهة والمجانة أن يلج شيخ في هذه الحانة فاجتمعتم، ولو عقلتم لما فعلتم؛ إن للعقل كما للقدم زلة، وإن للحليم كما للجاهل ضلة، وإن النفس مع الهوى مائلة، والعاقل من إذا مال مع النفس اعتدل. أيها القوم، إن ملككم لكبير، وإن عدوكم لكثير، أمركم نافذ في المشرق، وسيفكم في كل مفرق، وعداكم يسيرون، وحسادكم يسعرون، فاستبقوا نفوسكم وهذبوها، وحافظوا على أبدانكم وربوها، وأعدوها ليوم تدعوكم الأوطان لتقربوها، لا تعطوا الغواية أزمتكم فتسلب منكم ذكاءكم وهمتكم؛ دخل الرعاة بلادكم في شبيبة الدهر، فأفسدوا فيها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكان آباؤكم على أخلاقهم القديمة، يأخذون الفضيلة ويذرون الرذيلة، صحاح العقول، صحاح النفوس، صحاح الأبدان؛ فاستجمعوا في وقت السكون، ثم وثبوا في وقت الوثوب، فاستردوا ملكهم بقوة؛ ويراد منكم أن تكونوا في الأمن في درع مضاعفة من الفضيلة، لا تأمنون الدهر أن يأتي على عجل. يا حملة السلاح، لا تقتلكم في السلم الراح. يا حملة العلم، لا تغلبكم الخمر على الحلم . يا معاشر الصناع، من كان الوقت رأسه ماله، والصحة سبب رزقه، والكسب قوت عياله، فليهجر الخمرة فإنها مضيعة الوقت، مضرة الصحة، آفة النشاط.
قال الهدهد: فبينما النسر يتكلم والجمع يسمعون، برز الخمار له بين رجلين من الشرطة كان استأجرهما، فطلبا إلى الأستاذ أن يمسك عن الكلام، وألا يذم الخمر في بيتها، ولا يطعن عليها في وجهها؛ ثم أبلغاه أن صاحب الحانة يدعوه إلى المحكمة في اليوم التالي ليطالبه أمام القضاة ببدل ما ألم به من الضرر ولحق به من الخسارة، بسبب هذه الخطبة في هذا الموقف. فامتنع الأستاذ من الكلام كما أشار، وأجاب بأنه سيوافي المحكمة في الغد، وهناك يكون له وللخمار شأن.
ثم مشينا نخترق الصفوف، وهي تتنحى للنسر وتنحني له في طريقه، حتى خرجنا من ذلك القسم من المدينة، ودخلنا في قسم آخر؛ فقال الأستاذ لصاحبيه: غدا نتبارز أنا والخمر، ويحكم القضاة بيني وبين التجر.
قال أحدهما: قد كان لك يا مولاي غنى عما أتيت، إنك ظلمت إنسانا من حيث هديت.
قال: إن الطرق مدارس العامة، ولا يعلمهم فيها إلا الخطباء، والرجل يظلم الناس ليل نهار، ومن ظلم ظالما فما ظلم؛ إني لا أشفق من الخمر على الخاصة؛ فإن لهم عقولا تردهم أحيانا إلى الاعتدال في أمرهم، وأشغالا من العيش وأسبابا من السعة تعينهم على الخمر وتقيهم كثيرا من عواقبها؛ ولكني أشفق منها على العامة؛ فهي فيهم سلطان جائر، يفتك ولا يرحم، وشيطان ثائر، يسكن الرءوس فيملؤها شرا، ويتملك النفوس فيملؤها خبائث، وإذا هلكت العامة في أمة فقد هلكت الخاصة.
قال الهدهد: وبينما أنا مؤتنس بحديث النسر، أسمعه ولا أمله، وأتعظ بجميع ما يأتي ويذر، وإن لم يخاطبني في هذه المرة ولم أخاطبه، إذ قطع الحديث كعادته وتثاءب، فعلمت أن الساعة أتت، ثم نظر إلي وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني غدا في المحكمة، تسمع وتره.
المحادثة السادسة
قال الهدهد: فلما كان اليوم التالي، سئمت من النهار وطوله، ومن ينتظر يسأم، حتى إذا مال ميزانه واصلت الآفاق ركبتها إلى منفيس، وأنا أنتظر أن يكون لتلك المحاكمة نبأ، وأرجو أن أقف على درجة القضاء عند المصريين القدماء، لعلمي بأن العدل - كما قيل - أساس الملك، ولا عدل إلا حيث القضاء يدور دولابه، ويولاه أربابه، وتوثق أسبابه؛ فهو مرآة الحكومات التي تتراءى فيها بما هي عليه من استقامة أو عوج، وظلم أو عدل، وصلاح أو فساد، وارتقاء أو انحطاط؛ وأساس الممالك، إذا سلم سلمت، وإذا تهدم انهدمت؛ وعنوان شعور الأمم وتعقلها، ودرجتها في العرفان، ومبالغها من الفضيلة الإنسانية؛ لأن القوانين التي تضعها كل أمة وتتواصى بالخضوع لها، ليست إلا مجموعة تاريخها وآدابها وأخلاقها وعاداتها، ولأن القائمين عليها بهذه القوانين ليسوا إلا أفرادا من أبنائها، يبصرون بعينها، ويسمعون بآذانها، ويشعرون مثل شعورها، ويجدون مثل وجدانها؛ فإذا زكوا زكا سائر الأمة، وإذا خبثوا خبثت الأمة جمعاء.
قال: فلما احتوتني المدينة رأيت الزمر آخذين طريقا يتدفقون فيه، فقلت في نفسي: لعل الزحام من أجل بنتاءور وقضيته، وطفقت أطير إلى حيث يسيرون، حتى تجمعت الجموع، أرى لديها هالة، وعليها من العدل رونق وجلالة، فقلت في نفسي: دار القضاء لا محالة، ومرقت من فوري فصرت فيها، أجول مع الجائلين في نواحيها، وهناك علمت أن هذا البناء الرفيع، مقر حاكم القسم، وأنه يجلس فيه للقضاء بين الناس؛ فقد رأيت كثيرا من دور الحكومة في الأقاليم، وهي التي يجلس فيها عمد البلاد وأعيانها وحكام القرى للفصل في المنازعات، فلم أر ما يحاكي رفعة هذه الدار.
فأجابه أحدهم: إن قسم الصناعة أكبر أقسام المدينة يا مولاي، فلا غرو أن تكون دار الحكومة فيه بهذا العظم، لكن أيأذن لي مولاي إن سألته: ألم يأن لحكومة جلالة الملك أن تجعل القضاء عملا مستقلا، ونظاما قائما بذاته، فلا يقضي بين الناس شيخ القرية، ولا حاكم القسم، ولا قائد العسكر؟
قال: وأي بأس بهؤلاء إذا انتدبوا للقضاء، وهم أشد الناس امتزاجا بالأهالي، وأعرفهم بطباعهم وأحوالهم، وجلهم على معرفة واستقامة أخلاق، بل إن الأهالي كثيرا ما يفزعون بمنازعاتهم إلى أفراد منهم اشتهروا بالعلم والخبرة ليفصلوا فيها، وهم يرتاحون لقضائهم، ويقبلون أحكامهم، ويمتثلون الصارم منها كالجلد، وربما كانت هذه الأحكام أدنى إلى العدل وأقرب للصواب مما يصدره قضاة تقيمهم الحكومة ولا تنتقيهم، ولقد رأيت الحكام في القرى إذا تصدروا للقضاء جلس بجانبهم نفر من الكتاب والأعيان ليمدوهم بالرأي ويردوهم إلى الصواب فيه.
قال الهدهد: فاستغربت هذه الأقوال، وعجبت للدهر كيف تشابه وجهه وآخره؛ فهذا قضاء العمد كان من ضمن نظامات المصريين القدماء، وهو اليوم الشغل الشاغل والمسألة الكبرى في مصر؛ وهؤلاء المحلفون كانوا يؤازرون القضاة على عهد الفراعنة، وهم اليوم من ضرورات القضاء في باريز مركز الحضارة الحاضرة.
ثم التفت النسر حوله وقال لأصحابه: ما أجل هذا الموقف!
وهناك بصرت بالنسر في ناحية يحيط به جماعة من أصدقائه وتلاميذه، فاقتربت منه، فهبطت مستقري من كتفه، فالتفت إلي مبتسما فقال: جعل هذا الموقف للفضيلة ينصرها فيه دعاتها، كما جعل للجرائم يفتضح فيه جناتها، والمتمثلان فيه اثنان: جان تعلن براءته، وهذا يبكي عليه من في الأرض، وبريء تعلن جنايته، وهذا يبكي عليه من في السماء، ومن لي أن أكون الثاني!
فقال له أحدهم: قضاة منفيس يا مولاي قضاة عدل ودراية، فلا خوف على رفيع شرفك منهم.
قال: لا يضطرب إلا القاضي العادل، ولا يخطئ إلا القاضي العليم؛ ولو أن لبنتاءور أن يحاكم نفسه بنفسه، لحار في شأنه مع الحمار فلم يدر أيقضي لنفسه أم عليها.
قال أحدهم: هبهم يا مولاي حكموا لصاحب الحانة بشيء من المال يأخذه منك عوضا لما لحق به من الخسارة المزعومة، فما يكون شأن هذا الحكم؟
قال: أكون قد أعطيت الفضيلة شيئا من مالي لا أستكثره عليها ولا أتبعه المن.
فسأله آخر: ما القضاء يا مولاي؟
قال: محكمة ظاهرية ألجأ إليها فساد المحكمة الباطنية.
قال: فما العدل؟
قال: شيء كان مع الإنسان الأول حين لم يكن له في الأرض شريك يزحمه، وكان لا يجد عليها من يظلمه.
قال الهدهد: فبينما النسر وأصحابه في التحادث، إذ دعي المتقاضيان للمثول في موقف القضاء، فدخل الأستاذ ونفر من الشهود له وعليه، وكان القضاة نحو سبعة، هم حاكم القسم ومعاونوه من كتاب الناحية وأعيانها، وكان مترديا حلة للقضاء بيضاء ضافية محلاة الحواشي، تزهو بقلائد العقيان التي كان الحكام يزينون بها صدورهم كلما جلسوا للحكم بين الناس، فلما صار النسر بين أيديهم قال له الحاكم: أيها الأستاذ، إن لك بمقتضى مناصبك السامية في المملكة أن ترغب عن قضائنا إلى قضاء جلالة الملك، كما لك أن تقبل منا، قضينا لك أم عليك، فانظر ماذا تؤثر؟
قال: رضيت بقضائكم لأن مناصبي السامية في المملكة ليس من شأنها أن تميزني على خصمي هذا في موقف يستوي فيه الخصوم، ويقتص فيه للحصى من النجوم، فاسمعوا له ولي، ثم اقضوا ما أنتم قاضون.
قال: إنه يقول إنك أزريت به وبتجارته، وإنه لا بد له من بدل، ويطلب من المحكمة أن تحكم له بمال يأخذه منك، وقد جاء بشهود من عنده للإثبات، فهل جئت بشهود من عندك للنفي؟
قال: ليس لي شهود من عندي أيها القاضي، وما خطر لي قط على بال أن الشهادة تتجزأ؛ لأنه لا فضيلة ولا عبادة، حيث يختلف اثنان في شهادة؛ وإني لأعجب لكم معشر الحكام كيف تقبلون من شاهد أن يثبت ومن آخر أن ينفي، وأنتم تعلمون أن أحدهما كاذب، أو محرف للشهادة لا محالة، وقبول الكذب إغراء به؟ إن الشاهد دعامة القضاء، إذا متنت متن، وإذا وهنت وهن، فقوموه تقوموا به، ولو أن من الآلهة قضاة في الأرض، ومن الملائكة متقاضيين وفسد الشاهد لفسدوا جميعا. الشاهد عنوان الأمة، فاجعلوا عنوانها الصدق والفضيلة، لا المين والرذيلة، إن شاهدين يقول أحدهما رأيت نهارا فيقول الآخر رأيت ليلا، ويقول الأول سمعت ضحكا فيقول الآخر سمعت بكاء، لمن حقهما أن يفصل بينهما قبل أن يفصل بين المتقاضين؛ فمن كذب منهما يسلب السمع والأبصار، وينادى عليه في الناس بالفضيحة والعار.
قال الحاكم: إن مقام هذا المقال المدرسة لا المحكمة أيها الأستاذ، لا بد لنا أن نسمع الشهود، فليخرجوا وليبق منهم واحد.
فخرجوا إلا واحدا، فطلب القاضي منه أن يؤدي اليمين القانونية، وهي عند المصريين القدماء: «أقسم بحياة الملك، وبنعمة الآلهة ...» فأداها، ثم قص على المحكمة ما رأى وما سمع، وحدث القضاة حديث الخطبة، وأعاد عليهم منها حتى فرغ من الشهادة فذهب لشأنه، وجيء بغيره فأداها، ثم شهد ثالث ورابع وخامس، فرأيت الكل على خلق واحد من توخي الصدق والتوجه إلى الحقيقة والإيجاز في العبارة، فغبطت قضاة الفراعنة بهم وبسائر الأمة، أمة الأخلاق، ورثيت في نفسي لقضاتنا، علما بما يكابدون من جهل الشهود وروغانهم من الحقيقة، وخبطهم في المقالة، بما يخرج القاضي أحيانا من سكينته، ويشتت خواطره، ويذهب بثمين وقته سدى.
ثم طلب القاضي من صاحب الحانة أن يشرح دعواه، فتقدم رجل أسمر اللون، صغير الهامة، رقيق العنق، قبيح الوجه، فسأله الحاكم: من أنت؟ قال: فلان الكاتب يا مولاي، أنابني صاحب الحانة عنه في تقرير شكواه، وشرح دعواه.
قال: إذن تكلم.
فأقسم الرجل ثم شرع يقول: دخل السيد الأستاذ بنتاءور، وصديق ملك العالم، حانتنا التي بشارع الصناعة، يصحبه فتيان، فلبث ريثما شرب قدحا من نبيذ منفيس، ثم خرج فلم ندر به إلا وقد وقف بباب الحانة فمنعه، واعترض للناس في طريقهم إليها فقطعه، وخطب في المارة بعد ذلك فاستوقفهم، وجلب الزحام بعضه بعضا حتى خيل للرائي أن الحانة قتل فيها قتيل، أو حدث فيها حادث جليل، وكانت الخمر موضوع خطبته، أولها وآخرها، فوصفها بأقبح الأوصاف، ونهى عن شربها، وحذر من عواقبها، وذكر مضارها، وبين نصيب كل طبقة من طبقات الأمة منها، وطالت خطبته حتى سمعها خلق كثير، ومن فاته أولها لم يفته آخرها. ويعلم القضاة من جهة أن تجارة الأهلين حرة في بلاد جلالة الملك، وأن قوانين جلالته لا تحرم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ويعلمون من جهة ثانية أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ فلو قال الأستاذ في الخمر ما قال وهو في التعبد بالهيكل أو في التعليم بالمدرسة، لما وجد لائما ولا مؤاخذا؛ لكنه عمد لشخص معين فأزرى به وبتجارته، بمرأى ومسمع من الكافة، ويعلمون كذلك أن ألاف الحانات بين الناس هم العامة في الغالب، وهؤلاء يتأثرون بذكر اسم الأستاذ بنتاءور، فكيف إذا سمعوا حديثه، وكان مداره ذم الخمر في بيتها، وتقبيح تجارتها بين أعين تجارها، ويعلمون أيضا أن المارة في أي قسم من أقسام المدينة، إنما يكون معظمهم من أهله وسكانه، وحانتنا إنما جعلت لأبناء تلك الناحية التي خطب الأستاذ عليها، فكل ضرر ينشأ عن خطبته إنما يلحق بالحانة خاصة ويصيب صاحبها بالذات.
هذه شكوانا بسطناها للحاكم وأعوانه، آملين من عدالتهم أن يقدروا الخسارة التي سببها الأستاذ لنا بخطبته، وأن يسوموه أداء العوض إلينا.
فحين فرغ الرجل من شرح الشكوى، لم يتمالك بنتاءور أن ضحك ثم قال: أيها القضاة، أعطوا الخمار من مالي ما شئتم، ولا تعطوا هذا الأحمق منه فتيلا!
فسأله الحاكم: وأي علاقة بينكما وليس هو إلا محاميا عن صاحب الحانة؟
قال: علمت أنهما اشترطا أن يكون له النصف مما تحكمون به علي، وأن الخمار عارضه في ذلك بادئ بدء، فكان جوابه أن التجارتين سواء؛ فكما أن الخمار يسلب الناس أموالهم، كذلك المحامي يشاطرهم أرزاقهم.
زعم الخصم أن قوانين جلالة الملك لا تحرم الخمر ولا تمنع من المتاجرة بها؛ ونحن نقول إنها تبيح السم أيضا ولا تحظر الاتجار به، ما دام من العقاقير، وكلما أخذ بمقادير.
على أننا لم نحرم الخمر ولم ننه عنها، وكيف وقد شربنا منها قدحا باعتراف الخصم؛ لكن دعونا الناس إلى الاعتدال في أمرهم وأخذ القليل منها إذا لم يكن من شربها بد؛ فمثلنا كمن يقول لهم وهو على باب صيدلية لا حانة: يا أيها الناس، لا تأخذوا السم إلا بمقدار! فهل علينا إن قلنا هذا من حرج؟ شتان بين النوعين من السم، هذا يأخذه المرء وهو يعافه، وهذا يتناوله وهو يلذه؛ هذا يتجرعه وهو يدري، وهذا يتعاطاه وهو لا يدري؛ هذا إذا أخذ قليله نفع، وإذا أخذ كثيره أراح، وهذا صحة تزول، وشعور يعتوره ذبول، وعلة تطول، وميتة عذابها يهول.
وزعم الخصم أن للخطابة مواقف لم يكن ذلك الموقف منها؛ ونحن نقول إن الموقف لم يكن أصلح منه للخطابة؛ لأن مدمن الخمر لا يرثى له إلا في الحانة، كما أن الميت لا يؤبن إلا في القبر.
وزعم الخصم أن خطبتنا من شأنها أن تؤثر في العامة الذين هم المشاءون إلى الحانات، وهذا ما كنا نبغي، فإنا نلتقي بالخاصة في المجالس، ونكتب لهم ما تصل إليه أيديهم وأفهامهم، لكن لا يجمعنا والعامة إلا الطريق، ونصحهم دين علينا أينما لقيناهم.
وزعم الخصم أن البلاء مقصور على حانته؛ لأنها إنما جعلت لأبناء الناحية التي حاربنا فيها الخمر، فأصبح ينتظر من سكانها أن يولوا الوجوه عنها؛ وهذا يسوءنا بقدر ما يحزن صاحب الحانة؛ فقد وددنا لو عم النفع بقدر ما خص الضر.
أيها القضاة، لا تحكموا للخمار فتحكموا على الفضيلة، ولا تقضوا له فتقضوا على التجارة الشريفة؛ لأن التاجر بالخمر قاسي القلب لا يرحم صرعاه، غدار لا يشيع جنازة قتلاه، غشاش لا يقف في الغش عند حد، شره لا يقصر في الكسب عند غاية، فإذا لم يكن منك رقيب عليه، ولم يضرب القضاء على يديه، عظم شره، وعم ضره، وتشبه به الكثيرون من أهل الكسل والشره!
ثم نطق القاضي بهذا الحكم: نحن حاكم قسم الصناعة، من أسباب حكمنا الذي نصدره باسم جلالة الملك، مقتبسين من أنوار عدله المشرقة على العالم، أن النيات موازين الأعمال، لا غنى للقضاء عن تقديرها والتأمل فيها والوقوف حيث هي من صلاح أو فساد في الحكم على صلاح الأعمال أو فسادها؛ ونية الأستاذ بنتاءور يوم خطب في شارع الصناعة، كانت معقودة على أن ينفع الناس ولا يضر بصاحب الحانة، وأيضا إن الفضيلة هي روح الشرائع التي يحكم بها جلالة الملك رعاياه، فلا ينبغي لها أن تنصر عليها الرذيلة في حال من الأحوال؛ والأستاذ بنتاءور إنما نهى عن الإكثار من الخمر وإدمانها الذي هو رأس الرذائل، ونرى كذلك أن الأستاذ بنتاءور هو من كبار أساتذة الأمة وأهل الإرشاد فيها ، وهذه الوظيفة العالية يؤديها أمثاله الحكماء في كل زمان ومكان، أينما وجدوا وكيفما ارتأوا، وكل تعرض لهم فيها تعرض للفضيلة، وبناء على ذلك حكمنا ببطلان دعوى الخمار، وأن يدفع إلى الأستاذ بنتاءور عشرين قطعة من الذهب؛ لأنه سلبه بعض وقته الثمين، وأخره عن أشغاله النافعة في دعوى لم يكن من شأنها أن ترفع إلى القضاء؛ ولهذا السبب نفسه حكمنا على الكاتب فلان المحامي عن الخمار بخمسين جلدة يجلدها في صحن دار الحكومة هذه بمشهد من الناس، عقوبة له على غشه صاحبه، ولكيلا يجترئ أمثاله الكتاب على أخذ أموال الناس بغير الحق.
قال الهدهد: ثم تثاءب النسر تثاؤبه المعهود، وفاه بكلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين. وأمرني أن ألقاه غد ذلك اليوم في دار الأمير «أوني».
المحادثة السابعة
قال الهدهد: فلما كان أصيل الغد، خرجت إلى الموعد كالعادة، وقد عيل صبري لبخل النسر علي بالكلام، وخبطه في ضرب المواعيد، فدخلت منفيس ضالا حيران لا أهتدي السبيل، ولا أجد من دليل، فجعلت أمر بالدور العالية، وأطيف بالقصور الشاهقة، لعلي أجد ريح النسر على ذلك القصر، حتى أتعبني طلابه، وأغضبني احتجابه، وبغض إلي اصطحابه فعمدت لشباك مفتوح في طبقة من دار فدخلتها منه، وقررت في رف هناك، ثم نظرت تحتي فرأيت غلمانا بضعة منتثرين في المكان، متقابلين على الأرض فيه، وقد جلسوا أرضا، وأقبلوا برءوسهم على ركبهم، وبين أيديهم شيء كثير من ورق البردي وسائر أدوات الكتابة وهم في العمل، وكان الصدر لرجل يؤخذ من سنه وهيئته واتخاذه منصة للجلوس وأخرى للأوراق، أنه رئيس هذه العصبة، والمسيطر على هؤلاء الكتبة، فخيل إلي عندما رأيتهم على هذا الحال أنني في بعض الدوائر المصرية القديمة، حيث الباشكاتب يتصدر والعمال بجانبيه يعرضون عليه الحرف والسطر والصحيفة.
قال: وكان دوني غلامان متدانيان في الجلوس، وكانا يتحادثان همسا، فاسترقت السمع فسمعت أحدهما يقول للآخر: نحن نكتب غير مأجورين ونتعب، وهذا الرئيس يأخذ المرتب!
فأجابه الثاني: وليته يتركنا وشأننا وما نحن فيه من حال تحني الظهور وتدمي الركب وتقرح الجفون؛ فقد شكاني من أيام إلى والدي، وزعم أني بطيء الفهم، ثقيل الحركة!
قال: وهل صدقه أبوك؟
قال: تردد، ثم نقل الحديث إلى أمي فلم تصدقه، وحلفت بنعمة الآلهة أنني أحضر ذهنا وأصح فهما منه ومن أولاده الثلاثة!
قال: إنه صديق لأبيك ولوالدي، ولولا هذه الصداقة لما اتخذنا تلميذين له، فليتها لم تكن ولم ندخل هذا القبر على قيد الحياة!
قال: لكن الناس إجماع على أن هذه الصناعة التي يمارسها هي سلم الارتقاء في خدمة الأمراء والأغنياء، وأن كثيرا من الكتبة وصلوا فيها إلى الجاه العظيم، وحصلوا معها على المال الجسيم؛ وقد حدثني أبي - وأنت تعرف مكانته في العلم والفضل - أنه رغب في الاتصال بالأمير «أوني» أحد أنجال الملك، وكان في ديوان حجابه عمل يحتاج إلى عامل، فطلبه أبي بسفارة صديقه هذا الذي سئمنا من رؤيته، وهو كما تعلم المأمور المتصرف في ديوان أمواله، فعرض اسمه على الأمير في جملة ما عرض من الأسماء، فلم يقع اختياره إلا على واحد من الكتبة، لكن أبي لا يبرئ هذا الشيطان، ويتهمه بكونه يظهر ما لا يبطن، كدأب جماعة الكتبة المتفقين على أن يأخذ بعضهم بيد بعض في الأمر كله، وهذا هو سبب قوتهم وسر نجاحهم!
قال الهدهد: فعجبت لمصر أم العجائب، كيف صبرت آلافا من السنين على حال واحد مع هؤلاء الكتبة، فكانوا على عهد الفراعنة هم أنفسهم وقت دخول العرب، إلى زمن المماليك، إلى أيام محمد علي، إلى حكم إسماعيل، إلى عصر الاحتلال، وفيه ظهرت الشهادة الابتدائية، وأختها الثانوية، فمات بها الجهل وماتت الكتابة القديمة، لكن هلك كثير من طلبة الرزق في الحكومة بين طلبة العلم عن غير شهادة! وحرت في نفسي فلم أدر أأبكي ذلك اليسر مع الجهل، أم أبكي من هذا العسر مع العقل، وكنت قد استبشرت عندما سمعت اسم الأمير أوني، وعرفت من حديث الغلامين أن الديوان له، وهؤلاء الكتبة أتباع له، وأملت أني أستدل على القصر بأحدهم، فتحقق أملي على الفور، إذ لم يلبث الرئيس أن نهض، فالتفت إلى من يليه من الغلمان وأخبره أنه ذاهب إلى القصر لمقابلة الأمير في بعض الشئون، ثم خرج من الباب فسبقته من النافذة وأنا أستغرب هذا الاتفاق، وأتعجب من المصادفات كيف تنساق! فما زال في سيره وأنا في أثره، حتى احتوانا طريق ضيق، جمعتني العناية فيه بالنسر، وكان يمشي متمهلا كثير التلفت، فلم أتمالك عن الوقوع على كتفه؛ فلما صرت في عشي المألوف منه، التفت مبتسما مسرورا، وقال: لقد خفنا على الهدهد الضلال!
قلت: ما زلت يا مولاي تضله، وما برحت العناية تدله!
ثم حدثته حديثي وما وعيت من محاورة الغلامين، فاستضحك ثم قال: انظر كيف يستفيد الغريب من الضلال أضعاف الفائدة من الاستدلال!
قلت: لقد أوشكت يا مولاي أن أضل حلما فيكم وفي شئونكم الغريبة، وأحوالكم العجيبة؛ لأنكم تهزلون وتجدون، وتصغرون وتعظمون، وتجهلون وتعقلون، كيف يكون مثل ذلك الكاتب على ديوان أموال الأمير وفي المملكة من يصلح لهذا العمل، وأمثاله من طلبة العلم بين شبان البلاد الأكفاء؟
قال: وأي كبير لا يصغر أحيانا يا بني؟ إن للأمة الكبيرة - كما للفرد الكبير - زلات وجهالات، تدل على الكمال الكامل للآلهة وحدهم، فإذا دخلت على قوم ديارهم فلا تحكم على أشيائهم متفرقة، واحكم عليها مجتمعة.
ثم أفضى بنا المسير إلى ميدان وسيع، فيه قصر رفيع، فمشى النسر نحوه، فسألته: لعلها دار الأمير يا مولاي؟
قال: نعم، وليس ما ترى إلا قصرا من نحو مائة قصر، يحيط بها سور واحد، ويأوي إليها الملك ونساؤه وأولاده وأرباب خدمته، كل بقدر درجته في القرابة، وحسب منزلته في الصحبة وموقفه في الخدمة.
قال الهدهد: فاستغربت الأمر وقلت للنسر: ما ترك الأول للآخر يا مولاي؛ فليست يلدز بالشيء الذي يذكر في جنب هذه الأبنية الفرعونية، والمساكن الرمسيسية؟
قال: ألم أحرمك أن تقيس، وأن تذكر أحد الملوك برمسيس؟
قلت: لا أعود لها يا مولاي.
ثم دخلنا القصر، فجعلنا نلج بابا ونستقبل آخر، ونخرج من ساحة وندخل في ساحة، ونطوي دهليزا إلى دهليز، بين حراس جملة ، وجند عدة ، وخدام لا تنقضي لهم جيئة ولا ذهاب، حتى ضمتنا حديقة من أبدع ما غرست الراحات، وأكرم ما أخرجت الأرض من النبات؛ فاجتزناها إلى قصر له بهو يتمشى فيه الأمير الشاب بين اثنين من الأصحاب، فحين وقع نظره على الأستاذ، تهلل واهتز، وانثنى إلى ما وراء البهو ليستقبلنا، وسار الغلمان بين يدي النسر حتى أدخلوه على الأمير، فالتقاه أحسن التقاء، وأعلى محله، وأجلسه بجانبه، وأومأ إلى صاحبيه فجلسا دونه في الحضرة، ثم خاطبه والابتسام ملء فمه، فقال: لعل هذا هو الهدهد السحري الذي لا يفارق الأستاذ في هذه الأيام؟
قال: هو بعينه، فمن حدثك حديثه يا مولاي؟
قال: قداسة هوروس (من ألقاب الفراعنة).
قال: أوبلغ حديث الهدهد إلى الباب العالي (من ألقاب الفراعنة)؟
قال: وهل تخفى على جلالته خافية في الأرض أو في السماء، وهو المضطلع وحده بالملك في الأولى، وشريك الآلهة في ملك الثانية؟
قال: كذاك هو يا مولاي، لكنه لم يسألني عن أمر هذا الصاحب الجديد!
قال: لعل شاغلا شغله.
قال: هذا الهدهد يا مولاي خلق لمجالس الملوك والأمراء؛ لأنه أصم لا يملك السمع، أخرس لا يملك الخطاب، اللهم إلا أن يتنزل فيه من روح الملك يوم يعرض عليه فينطق بما يدهش السامعين، ولا يدهش ذا القصرين (من ألقاب الفراعنة)؛ لأن سره إذا حل في نبات مشى، أو في طير نطق، فلا يجدن مولاي من بأس في تشرفه الآن بالحضرة؛ لأنه يكتم الأخبار، ولا يذيع الأسرار.
قال: الكريم يصحب الكريم أيها الأستاذ، ولو حملت معك الببغاء، وهي الناقلة الواشية من بين الطير، لائتمناها كما نأتمنك، والآن لعلك تدعوني إلى الدرس؟
قال: إن أذنت يا مولاي!
فتبسم الأمير ثم قال: ألا تراني كبرت عن الدرس أيها الأستاذ؟
قال: ما علم على بشر أنه كبر عن التعلم يا مولاي، ولو سألت جلالة الملك وهو الموحي إلى من في الأرض، الموحى إليه من السماء، لأجاب أن الكمال ميسور بلوغه إلا في العلم.
قال: فما باله أعفى كثيرا من إخوتي الأصغرين سنا من الدروس؟
قال: وما يدريك أنه يستنجيك ويرجو أن يستثمر غرس عنايته بك؛ فقد سمعته في بعض الأيام يقول لمن حوله: إن «أوني» لعلى بيان، وإن البيان لخير مظاهر الملوك والأمراء، يسترق لهم الخواطر، ويسعى لهم بالقلوب.
قال: لو أنهم يختصرون معي من الدروس، فلا يكلفونني منها ما يمجه ذوقي وتأباه طباعي، مثل الرماية، وركوب الخيل ومطاردة السباع في الصحاري والقفار، لأقبلت على سائرها إقبال الحيارى المستفهمين على الهياكل ينتظرون جواب الآلهة في معضلات المسائل.
قال: من الناس يا مولاي من تلجئه منزلته في هذا العالم إلى ممارسة ما يكره، وركوب ما لا يود، وأنت ابن الملك، وناهيك بها من نسبة يتلاقى فيها أبوك والشمس، وإنها لتجعلك حيث لا يكون سائر الناس، فأنت ممن معك بين أصحاب موالين، لا تأمنهم أن ينقلبوا أعداء مقاتلين، بل أنت من قصرك هذا في شبه حصن تحرسه الآن مهابتك، ولا يحميه عند الكريهة إلا ثباتك وشجاعتك، وإذا خرج فتيان المملكة إلى قتال المتوحشة بني الخراب (كنية الأمم الخارجين من حكم الفراعنة) ومنعهم من الغارة على البلاد، نصرة للآلهة ومواطنهم المقدسة، خرجت أنت ناصرا للآلهة، ذائدا عن ملك أبيك المؤيد بالشمس؛ فأنت إذن من جنود الصف الأول الذين لا غنى لهم عن قلوب تقسيها ملاقاة الأسود، وجسوم ينشطها ركوب الخيل، وأحداق تحددها مزاولة الرماية، وسواعد يقويها الضراب بالسيوف.
واعلم يا مولاي أن هذه الدنيا لمن غلب، وأن الغلبة فيها للقوة، وأن الأمم لا تحفظ الاستقلال موجودا، ولا تسترده مفقودا، إلا بالقوة؛ فيتعين إذن على كل إنسان يحب بلاده محبة حقيقية، ويريد بقاءها ممتنعة الجوانب، عزيزة المنال على الأجانب، أن يثبت نفسه بالفضيلة، ويقوي بدنه بقدر الإمكان، ويتعلم فنون الحرب في السلم، وأن يشيب على ذلك، ويسوم أولاده أن يشبوا على مثله، حتى إذا دهم البلاد يوم عصيب، استدفعته بشبان من أبنائها وشيب.
إن الأسد إذا أقعده الهرم ناشته الذئاب كإحدى الرمم، وإن الباز إذا خفضت رأسه الدهور توثب على منسره العصفور، وهكذا الأمة لا تغني عنها الفضائل جمة، إذا هي لم تجعل الشجاعة رأسها، ولم تستحضر في الحرب والسلم قوتها وبأسها. نشأ أبوك الملك يا مولاي ونشأنا معه، نحن رفاق صباه، في التخشن والتقشف، وأنواع الرياضة البدنية، من صيد ومطاردة، وقتال صوري، ولم يكن جدك الملك سيتي يقدمه على أحدنا في المعاملة، أو يفرق بين أحد منا في المجاملة، بالرغم من مختلف الأنساب، ومتفاوت الأحساب؛ فلم يبلغ الواحد منا الخامسة عشرة من عمره، إلا وهو كالشبل النوبي لا يقر له قرار في الفيافي والقفار، وقد أوتي والدك الملك وهو يحبو إلى العشرين، فاحتكم بكف كمخلب الأسد، وقلب كقلبه أو أشد، وكنا نحن المرشحين لمشاركته في سياسة الأمور، وأعوانه الطبيعين على مداورة الشئون؛ فوجد عندنا سواعد قوية الباس، وعزائم شديدة المراس، وعقولا صحيحة سليمة في جسوم قوية قويمة؛ ولا أكتمك يا مولاي أني كنت كثير الشكوى مثلك، أضيق ذرعا بتلك النقل، وأتعب بتلك المشاق، وأشتهي جلسة على شاطئ النيل في ساعة الغروب لكي آخذ من محاسن الأكوان وأسرارها، وأشهد معترك ظلماتها وأنوارها، وأنظر إلى الماء إذا قعد، وإلى النبات إذا سجد، وإلى الطير إذا هجد؛ وأسمع ذلك الخرير، تتاليه بأصواتها النواعير، وقد انفتح للكائنات هيكل من خاطري فجمعها، فهي تمجد الآلهة فيه وأنا أمجدهم معها، إلا أن والدتي كانت تقص علي قصص الوحوش من الشعوب الذين أغاروا على مصر في الزمن الأول، وتمثلهم لي في أفظع الصور، وتصفهم بأقبح الأوصاف، فبينما هم الذئاب العارية، إذا هم الأسود الضارية، إذا هم الشياطين العاصية، فروا من الحامية، وردوا إلى الدنيا ثانية؛ وكانت تقول إنهم لا يفرون إلا من السلاح، ولا يعصم منهم إلا السواعد العبلة الصحاح، فكنت إذا سمعت ذلك منها قصرت الشكوى، وصبرت على البلوى، حتى تمت لجسمي التربية، فانقطعت لتهذيب نفسي.
قال الأمير: ومن لي أيها الأستاذ بأم كالتي ذكرت؟ إن والدتي أول العاذلات لي على ما أنا فيه من إجهاد نفسي، وإتعاب جسمي، وهي تزعم أنه ما دام الملك من بعد أبي سيصير لأخي الأكبر، فلا حاجة بي إلى مثل هذا الكد والكدح.
قال: ويح الأمهات! طالما جنين فمهدت الرحمة عذرهن. أنت يا مولاي إن لم تكن وارث الملك فإنك وارث الملك، وهو على فضائل لا بد لك أن تكون عليها؛ لأن المسئولية في هذا العالم بقدر منزلة الإنسان فيه، ومن أرفع منزلة من ابن رمسيس؟! على أن محبة أخيك لك، وثقته فيك يوم ينتقل إليه الملك، تكونان بقدر قسطك من المزايا، ونصيبك من الفضائل، فإن كانا موفورين وكان أخوك برا بك مقبلا عليك، كنت ساعده في الملك، ومساعده في الحكم، فإن فاتك منه هذا لم يفتك إجماع الناس على تعظيم نسبك، وتكريم حسبك.
قال: أتظن أيها الأستاذ أن يخرج منا معشر أبناء رمسيس ونحن خمسون أو نزيد، من يشبه أباه، ويخطو في سبل الفخار خطاه؟
قال: مثل هذا السؤال يا مولاي يلقيه أبناء الملوك ولا يبالون، لكن الحرج كل الحرج على من يسألون.
قال: نحن الآن صديقان نتحادث ولا نختلف.
قال: إنني أرجو أن تكونوا من بعده كماء الورد بعد الورد، يحفظ منه شيئا، ومعذور أن تفوته أشياء، إن السعادة يا مولاي لم تكمل لملك كما كملت لأبيك في حياته، فهل نكلفها أن تبقى عليه بعد مماته؟ ولئن صح ما اعتقد من أن الإنسان قد يحيا في نسله، وينبعث في فرعه كما يبعث من أصله، فربما حيي لدى أحدكم ما يموت من فضله، لكن من لكم يومئذ بالملك الجسيم يظهر ذلك الفضل للعباد، وبالحظ العظيم ينشره في البلاد؟
قال: صدقت أيها الأستاذ، فهل تدلني على ركن من السعادة ألوذ إليه فأسلو ما لا يدرك من محاكاة أبي في بلوغ السعادة الكاملة؟
قال: عليك بالشهرة يا بني، فإنها محسودة الملوك والأمراء، وأفضل ما تنال بالعلم، وأثبت ما تكون به، فاطلبه وجالس أصحابه، واجهد وسعك أن يقال عنك ابن نفسه ثم ابن رمسيس؛ فهذه هي اللذة الحقيقية، والسعادة التي لا يعدلها في هذا العالم إلا الصحة، أبقتها الآلهة عليك.
قال الهدهد: وبينما أنا أنتظر أن يدعو الأمير إلى الدرس ويأخذ في إلقائه عليه، إذا هو قد تثاءب كعادته، ثم التفت إلي مملوء الجفنين من النعاس فقال: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني أصيل الغد على باب القصر. فانتبهت من حلمي، فإذا أنا في عشي بحلوان.
المحادثة الثامنة
حدثنا الهدهد المسحور، الدخيل في الطيور، كحال ذلك الناطق في النسور، السابق في المنظوم والمنثور، وما هو إلا بنتاءور، شاعر القدم المشهور، الخالد ذكره مع الدهور، أنشر شيطانه، وبعث بيانه، وأرجع للناس زمانه، قال: لما كان الغد وأزف الأصيل، خرجت إلى «منف» المنبعثة بقوة الخيال، المتمثلة كما كانت في العصر الخال، إذ المالك رمسيس المعظم ذو الجلال، وإذ الملك في ذروة السعد وأوج الكمال؛ فبلغتها وأنا حيران لا أدري على أي أبواب القصر ألقى النسر؛ لأنها متفرقة كثر، وقد تقدم القول بأن الدار الفرعونية تكاد تكون ثلث المدينة من التناهي في السعة وكثرة المشتملات وتمدد الأطراف؛ لكل زوجة فيها أخبية منصوصة، وأفنية بها مخصوصة، وما أكثر الزوجات! ولكل ولد غرف منفصلة، ومقاصير منعزلة؛ والملك كثير البنين والبنات؛ ولا تسل عن الحاشية وكثرتهم، وما يلزم لهم من مساكن تختلف باختلاف منازلهم في القصر، وتتفاوت بتفاوت مواقفهم في الخدمة، وفي الدار منهم آلاف يؤدون الخدم المتنوعة، ويمارسون الصناعات المختلفة؛ وبالجملة فالقصر السلطاني من امتداد البنيان، وسعة الجوانب والأركان، بحيث لا تحصى أبوابه ولا يغني أحدها عن سائرها؛ فحين انتهيت إليه، ولجته من الباب الذي دخلناه بالأمس، وحينئذ ذكرت أن الساعة ساعة الدرس، وأني ربما لقيت الأستاذ في مقر الأمير «أوني»، فاحتلت حتى دخلت على الأمير في غرفة جلوسه، فلا والله ما عللت النفس بكذاب، ولا أوردتها السراب، بل إذا أنا بالأمير وجمع من إخوته وكبار الأتباع، قد داروا كالحلقة بالنسر، وهو في بهرتها يتلطف لهم في التعليم، ويخلط المفاكهة والتدريس، فوثبت إلى رفرف هناك فحططت فوقه، وأنا مسرور بما وجدت، قرير بما شهدت؛ ثم ألقيت السمع فسمعت الأستاذ يقول: والذي يميز علماء هذه الأمة على غيرهم، ويجري بهم إلى الغايات ، ويكفل لهم السبق، ويجعلهم أساتذة وقتهم، ومصابيح عصرهم، أنهم يطلبون العلم لذاته، ثم لأنفسهم، ثم للأحادث من بعدهم؛ وهذه الثلاثة ما قامت بنفس طالب علم ورزق الحجا والذكاء وفسحة الأجل، إلا نبغ في حياته، ثم جاوز ذلك إلى رتبة الخلود بالذكر بعد مماته، فيا أيها الأمراء ومن يلوذ بهم من الخواص والكبراء، من أحب منكم العلم حبا صادقا، وطلبه لذاته، فليأخذه مني، ومن حضر منكم مجلسي هذا وهو فارغ الفؤاد من حب العلم، عين ساهية، وأذن لاهية، وجسم في ناحية وقلب في ناحية، فليأخذ العلم من غيري!
قال الهدهد: فرأيت، وما أعجب ما رأيت! رأيت أكثر الحضور انسلوا من المجلس، فدهشت لهذا الصدق، واستغربت من القوم هذا الرجوع في الضمير إلى الحق، وذكرت مجالس من هذا القبيل يعقدها بعض الكبراء في مصر، تظاهرا بمحبة العلم، ويتصدر فيها للتدريس عباد الشهرة من العلماء، ويحضرها البعض رياء وتمليقا.
ثم استمر النسر فقال: محب العلم يطلبه لذاته، وهذا أول التوفيق في طريق التحصيل، وسبب النجاح الأوثق؛ لأن النفس حيث رضاها، وحيث يجعلها هواها؛ ومن رضيت نفسه بالعلم قسما من أول يوم، وامتلأ فؤاده من حبه، أقبل عليه وضن به وانقطع له، وألفى التعب راحة في تحصيله، واستوى عنده السلامة والعطب في سبيله، ثم لا يلبث العلم أن يعرفه قدر نفسه، وأنه ما خلق في هذا التقويم سدى، ولا ساد نوعه على هذا الوجود عبثا، فتأخذه من ذلك عزة بالحق، وتنزل نفسه في عينه منزلتها الحقيقية، فيطلب العلم لها، ويستكثر منه لأجلها، ويجري فيه إلى الغايات في سبيلها، لما استقر عنده من أن العلم يحيي النفوس ويهذبها، ويطلعها على الحياة وأسرارها، ويوصلها إلى كنه أغوارها، ويسهل لها محياها، ويهون عليها الفواجع في دنياها؛ وهذه هي المنزلة الثانية في العلم، يقف عندها سواد العلماء، ولا يجاوزها إلا آحاد يسخرهم الآلهة بهذا الوجود فيعملون فيه العمل العظيم، ثم يموتون عن تراث في الفضل جسيم، من بنيان يخلدون، أو حكمة يؤبدون، أو مجد يشيدون، أو فن يجددون ؛ وهذه هي رتبة الامتياز بالاختراع، ولا يقال عن أمة إنها بحياة ولها وجدان، حتى يبلغ أفراد من بنيها هذه الرتبة، ولئن كان العلماء في الأرض عدد ما عرف من النجوم في السماء؛ فهذا الفريق منهم كالكواكب التي لم تعرف بعد، يكشف منها واحد على رأس كل مائة، وإنهم لأجل منها وأنفع في الوجود وأهدى للناس؛ وما بلغ بهؤلاء العلماء إلى هذه الرتبة العليا والمنزلة العظمى إلا ترقيهم في عرفان قيمة النفس ومغالاتهم بها، واعتقادهم أنها لا تفنى، وأنها أجل ماهية وأعظم شأنا من أن تحصر بأيام الحياة القلائل، ولئن تحتم أن تخرج يوما ما من هذا الهيكل الزائل، فلها من جميل الذكر ومحامد الأحاديث هيكل خالد فاخر، يتجلى في الخواطر، ولا تراه النواظر، ولا يستأثر به مكان دون مكان، ويتوارثه الدهر زمانا عن زمان.
قال الهدهد: ثم التفت الأستاذ إلى الأمير، وكان الدرس قد طال، فأذن له في الإمساك، فأمسك وتحفز للقيام، فطرت إلى كتفه، فنهضت فيه وأنا حسران على ما فاتني من أوائل درسه، حتى إذا انصرفنا من حضرة الأمير، التفت إلي وقال: كيف وجدت مجلسنا أيها الهدهد؟
قلت: استطبته يا مولاي وإن حضرت في آخره، واستدللت بهذه الحبة من العنقود على سائره!
قال: لنا تلميذ في القصر نتعلم منه أحيانا، ونزداد كلما حدثناه علما وبيانا، فهل لك في زيارته الساعة؟
قلت: الأمر إليك يا مولاي.
فسار النسر بي يخترق وسيعات الدور، ويجتاز شاهقات القصور، وهو يعينها لي واحدا بعد واحد، ويسمي أهلها، ويصف ما فيها، حتى أفضينا إلى قصر لا يبلغ البصر ذروته ولا يدرك سعته، فقال: هذه مساكن الملك خاصة، ونحن قادمون عليها.
ثم وصل سيره بين رياض ناضرة، وحدائق زاهرة، وسوح وسيعة، وأسوار رفيعة، ومقاصير كالغيد الحسان، تموج بالجواري والغلمان، إلى أن بلغنا إحدى الغرف، وكان على بابها غلامان يحرسانها، فوقف الأستاذ ثم سأل أحدهما: أين «تحوت»؟
فأجابه: في غرفة الكتابة يا مولاي.
قال: اذهب فاستأذن لنا عليه.
فدخل الغلام يؤدي الرسالة، والتفت النسر إلي فقال : رأيت جميع الفواجئ فلم أر أثقل على الإنسان من مفاجئ في ساعة الكتابة، وقد استأذنا، فلعل تحوت يأذن لنا!
وما كاد يستتم حتى خرج إلينا فتى مليح الطلعة، حسن الزي، ترى دلائل الذكاء على جبينه الوضاء، فانحنى بين يدي الأستاذ وقال: زارنا خير من نحب ونكرم يا مولاي.
ثم أخذ بيده، فدخلا وهو ينظر إلي ويقول للنسر: لعله هدهدك السحري الذي شاع ذكره في المدينة يا مولاي؟ وليس بمستنكر على من سحر البشر أن يسحر الهداهد!
قال: كيف أنت والملك يا تحوت؟
قال: أفضل مولى هو، فمن لي أن أكون أصدق عبد! يحبني كبعض ولده، ويثق بي كبعض قدماء أصحابه، ويؤدبني بالإشارة الخافية، والحكمة العالية، والنصيحة الغالية.
قال: هكذا عهدناه: إذا صادق أعز، وإذا عادى أذل، وإذا أحب بلغت به المقة، وإذا وثق لا يرجع عن الثقة.
ثم جلس الصاحبان، وطاف عليهما الغلام بشيء من عتيق النبيذ، فسأل الأستاذ صديقه الفتى: من أي الكروم هذا المعتق يا تحوت؟
قال: مما يضن به الملك يا مولاي ولا يوجد إلا في خوابيه، وقد أمر صاحب شرابه أن يملأ دناني منه كلما فرغت؛ وسبب ذلك أن جلالته نزل مرة إلى أن ناولني منه شيئا بيده المقدسة، فدعوت له ثم قلت: أيها الملك المعبود، كانت حلب العنقود فصارت بسرك حلب الخلود، من يذوق منها لا يخرج من الوجود؛ فمن لي بها تنجلي، في كأس لا تفنى ولا تمتلي، أذوقها بلسان رطب عليك ثناء، وأشربها بفم مملوء لك دعاء؟
فسر الملك بهذه الكلمة في شكره، وكان ما كان من أمره.
قال: هكذا الملوك العظماء، يحتالون على الثناء، ويأخذونه من عبادهم الأمناء؛ والآن ائذن لنا يا تحوت إن سألناك ماذا تكتب؟
قال: ولم يا مولاي، وما كتبت في عمري حرفا إلى عرضته عليك؟
ثم مشى الفتى إلى منصة الكتابة، وكانت عليها رسالة من إنشائه، جف مدادها أو كاد، فأخذها ثم دفعها إلى النسر وهو يقول: هذه الرسالة مني إلى أخي، أحد جنود الملك في أسطول البحر الأحمر، أشكو فيها من بطء مكاتيبه عني، وأبشره بمنزلتي الجديدة في الخدمة الشريفة، وأصف له بعض أخلاق الملك.
قال الأستاذ: ما قرأ الكلام مثل كاتبه، فخذ فأسمعنا يا تحوت.
فتناول الفتى الرسالة ثم قال: «يا أخي، ما شغلك عني وأنا المشغول بك، أعتني بأمرك، وأسأل عن خبرك، وأذكرك في السر والعلانية، أأفزع بالشكوى من هذا الجفاء، إلى شيمتك الوفاء، أم أعوذ بهوروس حامي حمى الثغور، ومسير تلك الأساطيل كالجبال في البحور، أن يكون بين جنده من ينسى الصديق وينام عن عهده، وقد عرفت نفوسهم بالوفاء، كما وصفت بالنخوة والإباء؟ ولئن أخذت بقسط من العزة التي هي لجنود الملك بالحق، فإنها لكم جماعة الجند ولنا معشر الحاشية، وما سوانا من الناس فأشباه، إلا من حسب على رفيع ذلك الجاه.
ولعله نمى إليك أني ازددت من حظوة، واستفدت في سبل الفخار خطوة، فجعلت على ملابس الملك أنشرها وأطويها، وعلى جواهره أسهر على حفظ غاليها؛ وقد أشفقت من الأمر في أوله، وحملته وأنا أعلم أنه جسيم، وأني قادم على ملك تام المهابة عظيم، فلا والآلهة ونعمائهم، وآباء الملك وثنائهم، ما سمعت كحديثه، ولا آنست كبشره، ولا رأيت كحلمه، ولا عرفت أقل اغترارا بالدنيا منه، ولا أكثر ذكرا للآخرة، إذا دخلت عليه بثياب الملك قال: ما هذي العواري يا تحوت؟ وإذا حملت إليه التاج قال: ألبسني يا تحوت، فلا تمس يدي شيئا يخرج منها غدا. وسألني جلالته مرة: ما أجمل الثياب يا تحوت؟
فقلت: ما تجمل بالملك!
قال: كذبت ربك! أجملها ما لبس الفقير بعد الغني، وثيابي لا تصلح لفقير بعدي، فمر صناع لباسي ألا ينقشوا رموز الملك على جميعه، وأن يقصروا ذلك على ما أتخذ منه في المحافل. وطلب خاتما له من نحو ألف خاتم في الخزانة، فتشابهت علي، فأبطات ولم أجسر على مخاطبته، فلم أدر إلا به عند رأسي وأنا في البحث عن طلبه، فتبسم ثم قال: الخاتم لك إن وجدته يا تحوت!
فأطرقت هنيهة ثم قلت: في البحار يا مولاي مليكة اللؤلؤ التي لم يهد لها الملوك حتى الآن، وهي لجلالة الملك إن وجدها. فاستضحك ثم قلب طرفه في الخزانة حتى عرف الخاتم، فقال: هو ذا الخاتم، فخذه فهو لك يا تحوت! فقبلت الأرض بين يديه شكرانا لأنعمه، ثم تحول عني فسمعته يقول: أي آمون، جنبني الغضب، وأدبني أحسن الأدب، واجعلني من يثيب لسبب ويعاقب لسبب!
وحسدني حاسد على منزلتي الجديدة في خدمة الملك، فوشى بي عند جلالته، وقال عني إني أذيع كلماته وأنقل ما يدور بيننا من الحديث، فقال له الملك: أنا أعلم بما أقول، وليس في كلمي ما يريب فأكره أن يصل إلى عبادي! ثم أمر بالواشي فطرد من خدمته، وقال: الملوك اثنان: ملك أذنه للمظالم، وهذا سيد الأكارم، وآخر أذنه للنمائم، وهذا عبد الألائم.
ورماني أحدهم عند جلالته بأني كثير الحلف بحياته؛ وهذا كما تعلم محرم على العامة، مكروه صدوره عن الخاصة، فقال: رجل عيشه بعيشي، ولا يثق بصفو الحياة بعدي، له ألف عذر أن يحلف بأيامي. ثم أردف بأن قال للواشي: ونحن معشر الملوك أحوج إلى من تخلص لنا سرائره منا إلى من يرضينا ظاهره؛ نلقى إجلال الناس حيث ملنا، ولا نثق بحبهم لنا ... هذا قليل من كثير من كلمات الملك التي اختصه بها آباؤه، وبودي لو نلتقي على خلوة تطول؛ لأحدثك عن جلالته فتقول زدني من حديثك، ولتعلم أنه ملك الملوك يقينا، ولو نظر إليه عاطلا من أبهة الملك وعظمة السلطان، وأن جنوده ملوك الجنود، فحسبنا شرفا ما أنت فيه يا أخي من إعزاز لوائه والاعتزاز به، وحماية سفنه والاحتماء بها، والحياة في ظل ملكه، والموت دون شرفه الرفيع.»
قال الهدهد: وما كاد تحوت يفرغ من قراءة رسالته، حتى تثاءب النسر، والتفت إلي مثقل الجفنين بالنعاس، فقال: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فالقني غدا في دار الأعمى «بسادر». فخرجت من صفو تلك الأحلام إلى كدر اليقظة بين هذا الأنام.
المحادثة التاسعة
قال الهدهد: فلما كان اليوم التالي قضيت النهار في كد وكدح وتعب حياة، وأشغال دنيا طالبها حائم ، على ماء دائم، وليته دائم، إلى أن كان أوان الموعد، فثرت إلى منف، وأنا لا أستطيع للغيظ كظما، ولا أملك في أمر النسر حلما، ولا أظن أن سأهتدي إلى ذلك الأعمى؛ فلما بلغت بناء «منا» الدائم، وقدمت أم المدن القدائم، نظرت إليها نظرة مرتاح، وقمت لديها على جناح، وقلت في نفسي: صفحا للنسر عن هفواته، إذ كان هذا المنظر من حسناته؛ وهكذا الإنسان ينسى ويذكر، ويكفر أحيانا ويشكر.
ثم فكرت في الأعمى وداره، وما يقتضيني النسر من مزاره، فسألت نفسي: من يا ترى الرجل حتى يزوره النسر، وأي العميان هو، فهم كثر؟ تراه «شمشون» في الهيكل انبعث، أم «المعري» قام من الجدث، أم «يعقوب» ابيضت عيناه من الحزن على فتاه، أم «بشار بن برد» قام من اللحد، أم «أبو العباس» الأعمى، أم «دريد بن الصما»، أم الخليفة «القادر» في أيام محنته، أم «حسان بن ثابت» في آخر مدته، أم «الشطبي»، أم «طوبيا» النبي، أم «هومير» الشاعر اليوناني، أم «ملتون» الشاعر الإنكليزي، أم «مرصفي» هذا الزمان صاحب «الوسيلة» والكلم الثمان، وأول من علم الهدهد البيان،
1
أم «داود الأكمه»، أم «ابن سيده»، أم «الطليطلي»، أم أكمه المسيح، أم أعمى عبس، أم الأعمى الذي قتل البصير في هذا الزمن الأخير؟
2
ولم يبق أعمى في الزمن الغابر، إلا مر ذكره بالخاطر، ثم قلت: لعلها تعمية شاعر، والرجل من عمي البصائر، فتشابه البقر علي عندئذ وقلت: لعله أحد الغز
3
الذين أمنوا لمحمد علي وانتظموا في تلك الصفوف، فلاقوا في القلعة الحتوف، أم كروجر في بلدان الغرب، لا في ميدان الحرب، يظن أن الأقوام منقذوه من الكرب، أو أحد سفراء الدول في بكين، منذ اتفقوا على الثقة بالصين، أم من هؤلاء المهوسين في البلاد الذين يطلبون حق السلطان «مراد» وآونة يبايعون من شاءوا من العباد، ويريدون من «عبد الحميد» - وهو الذي لا يجري في ملكه إلا ما أراد - أن يصبح كهذا الذي قال عن نفسه وأجاد:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
4
قال الهدهد: ولو أردت أن أحصي عمي البصائر - على ذكر الأعمى بسادر - لما استطعت أن أحصي نصف الناس، على اختلاف الأصناف والأجناس، فبينما أنا مفكر حائر، ماض في الجو طائر، إذ طاف بي من الجوارح طائف، فلم أدر إلا وأنا بين جناحي خاطف وهو ينظر إلي مبتسما ويقول: لقد أتعبنا الهدهد بالانتظار. قلت: وبذلك الأعمى في تلك الدار.
قال: أما الأعمى فرمسيس رب هذا الملك، وباني هذه الدولة، عمي إذ بلغ به الكبر، فكانت هذه أبلغ العبر، وأما «بسادر» فمن الأسماء الدائرة، وإنما رميت باستعارته له إلى أن الدهر قد حكم فيه فصار كبعض الناس.
قلت: يا أسفا على ذلك الوعد، ويا حسرتا على تلك الأمنية! لقد أخطأني ما أملت من القدوم عليه، وفاتني ما رجوت من النظر إليه!
قال: ستجده أبصر في العمى وأسمع في الصمم، وتلفيه متلبسا بلباس الفتوة في الهرم، فتعلم أني استأذنت لك عليه وهو على عظمة من قوة الوجدان، تعدل ما بلغ إليه من عظمة الملك والسلطان.
وصاحب لي أعمى
فداؤه المبصرونا
يريك في كل قول
وكل فعل عيونا!
قال الهدهد: فقبلت حكم النسر، ورضيت بهذا القسم النزر، وقلت: قد آن أن ينجز مولاي وعده، فإني أخاف ألا أرى رمسيس بعده، إذ ما بعد العمى والصمم، وتبالغ الهرم، إلا محتوم العدم!
فاستضحك الأستاذ ثم قال: الآن تقدم عليه، فإذا أقامك في الخطاب فبالغ له في التحية، وشبهه بكل قوي في الأرض والسماء، عظيم في الغبراء والزرقاء، واتبع ... حته سنتنا معشر الشعراء من المصريين القدماء، وقل ... الأمم الأربعين، كما قلت في قاهر اليونانيين:
أمولاي غنتك السيوف فأطربت
فهل ليراعي أن يغني ويطرب؟
فعندي كما عند الظبى لك نغمة
ومختلف الأنغام للأنس أجلب
فإن الملك وإن أشرق وجه الأرض من ثنائه، وامتلأ فم الدنيا من مدحته، وسيرت ذكره الأشعار، وبزت أعماله القائلين، وتكاثرت مناقبه على الناظمين، فما زال يهزه المداح وما انفك يطرب للإطراء ويرتاح .
قلت: ستجدني يا مولاي من المحسنين.
وعندئذ حملني النسر إلى القصر، فدخلنا حجرة ليس أجمل منها في الناظر، ولا أجل منها في الخاطر، في وسطها سرير فاخر، وهو يزهو بالجواهر، منضودة من الخشب النادر، اضطجع فيه رجل يغضى من مهابته، ولا تثبت النفس إزاء جلالته، حفظ الزمن الغضاضة على وجهه النقي من الشعر، وعلا التاج منه رأسا ملء التاج، وهو كالتمثال له عينان ولا يبصر.
وكان النسر قد تمثل بشرا سويا، واستأذن في الوصول، فاستقدمه الملك، فحين نقل القدم في الحجرة العالية، استقبل مولاه مستجمعا من الخشوع، غاضا من بصره من المهابة، ثم قال: سلام من هوروس إليه، سلام الآباء والأجداد عليه! أيها الشمس المضطجعة في سرير مجدها وضوءها يغشى البلاد، ويبعث حياة للعباد، هذا هدهد ناطق، انفرد في الآخرين بتقديس ذاتك، والتمدح بصفاتك، والبكاء بعدك على رفاتك، فاستحق أن يحسب على التفاتك.
قال الملك: لعله هدهدك السحري يا بنتاءور!
قال: كذلك لقبوه في المدينة يا مولاي.
فالتفت رمسيس إلي كأنه يراني وقال: ماذا يقال عنا أيها الهدهد في زمانكم النكد، وأيامكم السود، وعهدكم النكر، وسنيكم العجاف؟ وماذا يعلم عنا ذلك الجيل الصغير، والجمع المتفرق، والعقد المتمزق، والنسل الذي سمونا بالبناء والحجر، ولم نسم به في يوم مفتخر؟
قال الهدهد: فعجبت من حرص الملك على ذكره من بعده، وكيف أنه قدم هذا الأمر على غيره في ابتداء الحديث، وعلمت أن حب تخليد الذكر هو رأس المطالب العالية، لا يتأسس بناء في المجد إلا به، ولا تقوم شهرة ثابتة راسخة إلا عليه، وحرت فلم أدر كيف أجيب، أأصدق الملك فأقول له إن القوم ضيعوا عهدكم، وأغفلوا ذكركم، وجادوا للأجانب بكثير مما تركتم، واتخذوا منهم النباشين، واستخدموا منهم الكشافين، واستقدموا منهم العلماء الباحثين، أم أكذبه فأمدحه وأطربه، وأعلي ذكره وأغليه؟
وكان الأستاذ قد نظر إلي نظرة مغضب، كأنه ينهاني عن التردد، فأنشدت:
رمسيس يا كل الملو
ك ويا جميع العالم
يفدي سليل الشمس ك
ل مسلسل من آدم!
والتفت إلى النسر فرأيته يتهلل، فعلمت أن قولي أرضاه، وأن الألفاظ جرت على هواه؛ فأردفت بأن قلت: علمت الأرض يا مولاي أنك خير من ملكها، وأجرى من سلكها، وأفضل من تركها؛ وعلم الأحياء أنك كنت كالفلك لا تسكن، وكالمنية لا تدفع، وكالصخرة لا تستخف، وكالسماء لا تطاول، وكالدهر لا تنام، وكالنجم لا تعيا، وكالسيف لا تروى، وكالدنيا لا تكره، وكالحياة لا تمل، وكالصبح لا تخفى، وكالشمس لا تستزاد، وكالسهم لا ترد، وكالبحر لا تزحم، وكالذهب لا تراب، وكالليث لا تهاب، وكالطيب لا تكتم، وكالنار لا تدنس، وكالعارض لا تعارض، وكالريح لا تستبدل، وكالحق لا تغلب، وكالسعادة لا تعادل، وكالسلامة لا تفاضل، وكالبدر لا تواسم، وكالليل لا يدرى ما تأتي.
قال الهدهد: وخالست الملك وجلساءه النظر، فوجدتهم منصتين لما أزخرف من الثناء، ورأيت النسر يزداد تهللا، فشجعني ذلك على متابعة الخطاب، فقلت: وعلموا يا مولاي عن صباك أنك ملكت الدنيا في رؤيا قبل أن تولد وأن تحيا، ثم ما جاوزت العاشرة حتى الملك بيدك، والأيام من جندك، والخير والشر من عندك؛ فكنت في ذاك الصبا الغض والعمر النضير، وهذا الأمر النافذ والملك الكبير، مثال الملوك المحتذى في كرم الخلال وحسن الأخلاق، يأخذ الكهول منك العلم، ويتعلم الشيوخ منك الحلم، وتغلب النفس على شيمتها الظلم، وتركب الحرب إلى السلم.
هنا أطرق الملك هنيهة، ثم رفع رأسه وأشار بوجهه نحو أصحابه وقال: أتذكرون إذ أزجي الجيوش وأنا طفل، وإذ مثلوني التاج فوق رأسي وأصبعي في فمي ألوكها كما يفعل الصبيان؟ أتذكرون إذ لبست التاج في الهيكل الطيبي وأنا صبي، كالشبل الليبي، من رآني قال: لن يكبر هذا ولن يعمى ولن يهلك أبدا؟ أتذكرون إذ نحن صغار، نصارع بالنهار وحوش القفار، وإذ تجمعنا بالليل والعلماء المسامر، نأخذ من علمهم وآدابهم، ونتلقى عليهم الدروس النافعة؟ أتذكرون إذ أسير في الأرض في سبعمائة ألف مقاتل، وآونة أركب البحر في عدد أمواجه من سفن القتال؛ فملكت المعمور من أفريقيا، وأخضعت المسكون من آسيا، ونشرت أعلامي على الأمم والشعوب، وملأت من آثاري الشعاب والدروب ، فلا جبل إلا لي فيه أثر، ولا بقعة إلا لي عليها حجر؟
قال بنتاءور: نذكر ذلك كله، ونعلم أنه لم ينل ملك ما نلت من صنوف السعادة، ولا أوتي بشر ما أوتيت من بسطة الملك وامتداد السيادة!
قال: لكن وددت لو خلقت ابن راع، أو أحد الزراع، في بعض الضياع، وأني لم أعرف الملك ولم أنل من معاليه ما نلت؛ ذلك من أجل حادثة وقعت في حرب أمة الخيتاس، إذا ذكرتها وأنا في غاية السرور، انقلب سروري انقباضا وترحة، وإذا خطرت على البال وأنا في ذروة المجد وأوج العظمة، صغرت نفسي في عيني واحتقرت في خاطري، واستحييت من الشمس أن ألقاها بوجهي، وهي الملك المسوي القسم بين الأحياء، المنعم لهم بالحياة على السواء؛ وحديث تلك الحادثة أنني أحرجت العدو يومذاك، بعد أن أتم الآلهة لي النصرة عليه، فانساق بين يدي شيوخا ونساء وأطفالا، وأنا أطاردهم وحدي، فأبيدهم بمركبتي تارة، وبسهامي أخرى، حتى صادفوا في طريقهم غابة، فاستعصموا بها فولجتها عليهم، وجعلت أصطادهم في أعالي الأشجار كما تصطاد الطير في الأوكار، غير راث لحالهم، ولا راحم ضعفاءهم، وكان فوق شجرة هناك رجل شيخ أعمى قد تسلقها، وجذبه حب الحياة فعانقها، فرميته بسهم فأصابه، فصرخ قائلا: «أعمى أصاب أعمى يا رمسيس!» ثم سقط يتخبط في دمه، فامتنعت من فوري عن متابعة الفتك، ومواصلة البطش، وكانت نجاة البقية الباقية من أولئك الفارين الضعفاء، على لسان ذلك الشيخ الأعمى، الذي ما وعظني منذ كنت غيره، ولا عرفني قدر نفسي سواه؛ والآن أحس كأن السهم رد إلى مرسله، وأن ذلك الأعمى أصاب هذا الأعمى، فيا أيها المعمرون بعدي، لا تغرنكم الأيام، واتقوا سهام الانتقام!
ثم حول الملك وجهه إلي وقال: وأنت يا صاحب النسر، وشيطان الشعر في عصر غير هذا العصر، اعلم أن المجد والعظم في الدول والأمم ينتهيان إلى بناة الفسطاط، وأنهم خير من ورث النيل بعدي؛ ظلمت وعدلوا، وتطرفت واعتدلوا، وأسرت وأطلقوا، واستعبدت وأعتقوا، وخلدت بعدي الحجر، وخلفوا بعدهم السير؛ ذهبت الديانات ودينهم هو الدائم، وبادت اللغات ولسانهم في مصر قائم، وأريبت كل أمة في وادي النيل، وذكرهم فيه سالم جميل، وشقي الغريب فيه بغيرهم، وغمر من أول يوم بخيرهم، واستوى السوقة والملك على عهدهم، وما تساويا من قبلهم ولا من بعدهم؛ وتكافأ في مصر الخليفة والعامل، حتى لا أدري أيهما الرجل العادل والإنسان الكامل. وإن الذي استنزل روحي من عالم الراحة الكبرى بعد ثلاثين قرنا أو تزيد، وسلط علي من روحه ما يوجد العديم ويبعث الرميم، وحاز لك الدول منذ التأسيس، والملوك من منا إلى أمازيس، في منفيس، على عهد رمسيس؛ لقادر على أن يريك الفسطاط وأهلها، ويشهدك تلك الدولة وعدلها، وأمة العرب وفضلها، حتى إذا قستها بمن قبلها قضيت عليها أو لها.
قال الهدهد: فخشيت أن تنقضي الرؤيا ولما أظفر من ملك الملوك بموعظة، فقلت: أيها الملك، إن بيننا لرحما مبلولة لم تيبس، وإنك لمجد هذه الأمة أولا وأخيرا، فهل نصيحة عالية نسمعها منك، وموعظة غالية نحفظها عنك؟
قال: عليكم بالإقدام؛ فإنه مفتاح الغنى، والطريق المختصر إلى العلياء، والسلاح الأمضى في معترك الأحياء، به سدت، وعليه اعتمدت فيما أسست وشدت، وإنه ليخرج أصحابه من غمار العامة إلى عليا مراتب الملوك، ومن هون الخمول إلى العز والسؤدد والذكر الجميل، ولو لم أكن ابن «سيتي» وعنه ورثت ملك الدنيا، لملكتها بالإقدام.
قلت: زدنا منعما يا مولاي.
قال: قاوموا الظالم ولا يغرنكم ما ترون من قوته وبأسه؛ فمثله كالأسد: لا يزال يفترس حتى تفترسه نهمته.
قلت: الثالثة يا مولاي ولا أزيد.
قال: احفظوا أنفسكم وضيعوا ما شئتم.
قال الهدهد: وعندئذ تثاءب النسر، فتثاءب الملك وأصحابه على أثره، فالتفت إلى الأستاذ فرأيته يغالب الكرى، وسمعته يقول كلمته المعتادة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فإذا كان أصيل الغد فالقني على «المعاهد».
وعند ذلك تبدل الزمان والمكان، فخرجت من مسك الشيطان ودخلت في صورة إنسان، وقد ضمني مبيتي بحلوان.
المحادثة العاشرة
قال الهدهد، جار الأثر، ونجي الحجر، يتطلب فيهما العبر، ويأخذ الخبر عمن غبر: ولما أصبحت أعدت أمس في يومي، كما يفعل قومي، فباشرت أشغالا لا تنفع، وأخذت بأعمال لا ترفع، وأكلت كأمسي، وشربت كالبارحة، ولقيت الوجوه المألوفة، وجلست المجالس المعتادة، وقرأت جرائد مشحونة الصفحات، أفكه ما فيها الإعلانات!
إذا أنت لم تحي الحياة كبيرة
ولم تبق ذكرا في البرية خالدا
وعشت تعيد الأمس في اليوم خاملا
فقد عشت يوما في الحقيقة واحدا!
إلى أن سرى الأصيل، فتنقلت من شاطئ إلى شاطئ، ولفظتني ضفة إلى ضفة؛ وكنت أخذت من كلمة النسر في صرفي، وما رسم له ربه من الوقوف بي على الفسطاط، والإشراف بي على معالمها، واطلاعي على مواكب دولة العرب فيها، أن بساط الرؤيا قد انطوى فيما يتعلق بمنف والدول الأولى، وأنا قادمان على الفسطاط، مستقبلان وجوه العرب، وافدان على هذه الدولة التي وصف الرشيد ما كانت عليه من انبساط الظل، وامتداد النفوذ، واتساع الملك والسلطان، في قوله لغمامة ظللته ولم تمطر، وكان يرجو أن يستدفع الحر بمطرها: «أمطري حيث شئت فإن خراجك سوف يجبى إلي!» وفي ضوء هذا الفخر سرى الإسبانيون في أيام دولتهم، حيث زعموا الشمس لا تغيب عن أملاكهم؛ ثم زالت هذه الكلمة عنهم إلى الإنكليز، فهي آية ملكهم اليوم؛ ثم ترثها أمة غيرهم؛ سنة الله في خلقه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
قال: فلما صرت في منف، رأيت الدهر قد جعل عاليها سافلها، وصيرها كبعض القرى، ولم يبق عليها من أنقاض ذلك البنيان الباذخ، وبقايا تلك العمارة الكبرى، إلا آثارها هنا وهنا؛ منها القائم وكان قاعدا، والقاعد وكان قائما، وبعضها مشوه في أحسن محاسنه، منقوص من أطرافه، أو مفقود تفتش عن مكانه لا تجده، فقعدت أعجب للدهر كيف طال على ذلك الطول، وعلا فوق تلك العلياء، وأتقصى النظر فأرى قصور الرومان موحشة مهجورة، وكانت بالأمس آهلة معمورة، أخنى عليها الذي أخنى على منازل الفراعنة من قبل، وأنظر أكواخ الفلاحين تموج بنسائهم وصغارهم كبيوت النمل، وقد سكنوا إلى الدولة القائمة كما سكنوا إلى الدول من قبلها، فأقول في نفسي: «هكذا الحكماء وإلا فلا، فلو رد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الحياة - وهو أزهد خلق الله في الدنيا - لما أخذ حقيقة الزهد إلا عن هذه الأمة!»
وبينما أنا أنظر حولي بعين تعتبر، وأخرى تستعبر، إذا صوت النسر يستسيرني إليه، فوافيته، وكان عند قدمي رمسيس وهو من حجر، وعهدته بالأمس عند رأسه وهو بشر محتضر؛ فابتدر خطابي يقول: ما بال الهدهد يستعبر؛ أيبكيه من الأيام أن تتصرف بالأنام، ورحاها تطحن على الدوام، وسيفها على رقاب الأقوام في الحرب والسلام؟
انظر يا بني إلى الحسد كيف حمل الأمم على الإزراء بالقوم بعد اندثارهم، والعيث في ديارهم، والعبث بآثارهم، وهدم البقية الباقية من منازلهم؛ فقاتلوا الحجر، وحاربوا الأثر، وسبوا التماثيل والصور، ودخلوا على الأموات الحفر؛ ولو استطاعت إحداهن أن تدعي صنعا لبعض هذه الآثار لفعلت، ولامتلأت منها فارس، فأتينا، فروما؛ فقد صدر عن الرومان أنهم كانوا يستعيرون رءوس التماثيل مما ترك اليونان، لأجسام مما صنعت أيديهم، وبالعكس، ثم يوهمون أن الكل من عملهم، وهذا عند ذكر السرقة غاية. أتى على شيطاني يا بني عشرون قرنا يجاور الآثار، ويندب على طلول الديار، وهي نهب بيد البلى والدمار، فلم أعهد أن أيدي العاثين انتفضت منها، وأكف المخربين انكفت عنها، إلا منذ هبط العرب أرض مصر.
قلت: إنك لتطري القوم يا مولاي.
قال: وإنهم لأهله يا بني، فما حكم بين الناس أعدل من عمر، ولا سادهم أفضل منه، ولئن صدق أن في القول شيئا من القائل فعمر هو الإنسان الكامل، حيث يقول: «رأيت جميع البر فلم أر برا أفضل من الرحمة!» والرحمة في اعتقادي أعلى مراتب الأخلاق، وقد جازت بعض الأنبياء في بعض الأمر ولم تجز عمر في شيء منه.
قلت: إني إذن لسعيد يا مولاي أن أعلم من أمرهم بالمشاهدة والعيان، ما أضيفه إلى معرفتي في التاريخ.
قال: لا نزال في إجلالهم ووقارهم، والاعتناء بأمرهم، والنظر فيما يأتون ويذرون، والسكون إلى ظلهم في مصر، حتى يقتلوا عثمان، ويفتك المصريون منهم بالوقور في الصحابة، الكريم في الأصهار، السمح في الخلفاء، الكبير في الشيوخ؛ فإذا فعلوا ودعنا أيامهم، ونبذنا جوارهم، ووكلناهم إلى السماء تأخذهم بدمه، فتصب عليهم المصائب، وتنزل بهم المحن، وتغمسهم في الفتن، وتبدلهم من الخلافة الحقة بالملك الباطل، وتردهم إلى نعيم الدنيا الزائل!
قلت: لقد رضيت بما رضيت لي يا مولاي، وحسبي أن أعيش يوما واحدا في خلافة عمر، وولاية عمرو.
قال: الآن نتهيأ للزيارة، ونستعد للخروج إلى مقر الإمارة، فسطاط الأمن والعمارة؛ ضالة عمرو التي طالما نشدها، ولم يألها طلبا حتى وجدها.
قلت: أشبه الناس به مسعاة يا مولاي في الزمن الحاضر، اللورد كتشنر، حاكم السودان بالأمس، وسيف إنكلترا العامل في جنوب أفريقيا اليوم؛ فقد علم الخاص والعام، عن هذا الرجل المقدام، أنه نظر في أمر فتح السودان، وهو ضابط ضئيل الشان، قليل المكان والإمكان، ليس له بمثل هذا الأمر العظيم يدان، فجعل يعد له الصبر، ويعمل له في السر، والأيام في هذه الأثناء ترفعه، والسعد إلى السعد يدفعه، حتى انتهت إليه إمرة الجيش في مصر، وآلت إليه السلطة العسكرية في هذا القطر، وأصبح من رفعة المنصب بين رجال الاحتلال، بحيث يسمع صوته في قومه؛ ومن علو الكلمة في الحكومة المصرية، بحيث لا يمانع في أمر يحاوله؛ فثبت عندئذ في نفسه أمر، وتدرج فيما يحاول من السر إلى الجهر، وكاشف الحكومة الإنكليزية بما يريد من فتح السودان ونشر العلم البريطاني في أرجائه، فكانت مشيئتها ما شاء، كدأبها بإزاء رجالها الأمناء؛ وها قد مضى على السودان عامان،
1
يخفق على دور الحكومة فيه العلمان، ويخفق من الحسرة عليه فؤاد «مرشان».
2
قال: كذلك زين عمرو لعمر فتح مصر، وكذلك فتحها؛ والتاريخ - كما قيل - مكرر معاد؛ وقد حدثك رمسيس عن الإقدام، وذكر لك فضله وشرح لك مزاياه، وهذان دليلان قاما عرضا في الحديث على صدق قوله، وصواب رأيه، وما كان رمسيس ليعرف الشوق ولا الصبابة، لولا أنه كابدهما وقاسى، وكان في مقدمة رجال الإقدام، فإن أردتم ببنيكم خيرا، وضعفت قلوبكم أن تتمادوا في الجناية عليهم ، فربوهم منذ الصغر على الإقدام؛ فإنه - كما قال رمسيس - سعادة الأفراد وحياة الأمم.
قلت: أوشك الأصيل يا مولاي أن يفيض ذهبه، فإن أمرت انتقلنا إلى الفسطاط.
قال: تلك مقدمة لم يكن لنا عنها غنى؛ والآن لك أن تطير معي إلى حيث الإسلام يحكم، والأخلاق تسود.
قلت: إن أذن مولاي بدلنا هذا الزي بغيره، لنأمن نظر الرماة، وزجر الجماعات.
قال: الناس والطير وهذه الحجارة - وأومأ إلى الآثار - في كلاءة رجل يتقي الله في السماء، ويخاف عمر في الأرض، فلو نالنا أحد في حماه بظلامة، لفزعنا بالشكوى إلى صاحب الإمامة، ولأنشدناه: «جاءت سليمان الزمان حمامة!» على أنه لا بأس بتغيير الزي؛ فأيهما تختار: آلقبطي، أم العربي؟
قلت: الثاني يا مولاي؛ لأنه لباس الفاتح، وشعار الحاكم، ينبئ عن عز الملك، ويخبر عن سناء الدولة، وقد خلفت جنود «الملك إدوارد» في مصر يتنحى السراة لأحدهم حتى يعبر كأنه في رداء «ولنتون»، أو مطرف «نابليون» وإن مست طرف ثوبه يد مسها السيف.
قال: هذا ليس شأن عمرو وأصحابه في مصر؛ فهم المؤمنون؛ العزة لهم ولمن في ظلهم بالسواء، وقد كان الرومان قبلهم كمن ذكرت من الإدلال على هذه الأمة، والمرح في هذه الأرض، على ما بينهم وبين القبط من مودة في الدين ورحمة، فكان الصليب يعلو على الصليب، والناقوس يخرس الناقوس، والكنيسة تزري بالكنيسة؛ وكان مذهب الرومان في عبارة المسيح هو الدين كله، وما سواه فضرب من الهذيان يسخر من أهله ويعتدى على أصحابه؛ وكان الأمير في القبط يحكم فيه سوقة من الرومان، وكانت الحكومة الكبرى في روما عمياء عن هذا الظلم المبين، صماء عن تظلم المصريين، إلى أن قدم العرب مصر، وتم لهم على الرومان النصر، واطمأن عمرو بالولاية، وسكن أولئك البؤساء إلى حكومته السمحاء، ودخلوا في الإسلام أفواجا، يحببه إليهم تسمح العرب، وتحلم زعيمهم، واجتماعهم على كلمة الإسلام، وتساويهم فيما جاء به من الأحكام، وكونه بينهم كالحقيقة لا تقبل الانقسام، ولا يجادل فيها الخاص فكيف العام! وأن سيرة العامل وأصحابه فيهم هي أقرب مما أراد المسيح عليه السلام من الناس: أن يتساوسوا، ويتصافحوا، ويتعاونوا، وأن يكونوا رحماء بينهم؛ وأبعد عما أراد القسوس بالناس منذ القدم، من شغب التمذهب، وفتنة الانقسام والتفرق إزاء الحقيقة الباهرة. العرب في مصر بضعة آلاف، وفيهم المقاتلة؛ فكيف فتحوا، ثم كيف أصلحوا، ثم كيف وطدوا فيها بنيانهم، وعلموا أهلها لسانهم، ثم كيف استأصلوا الوثنية من هذا الوادي، وزحزحوا منه النصرانية، وأرسوا فيه الحنيفية؟ كل ذلك في أيامهم الأول، بل في حكومة ابن العاص. إذا أضفت إلى ذلك أن الدعوة إلى الإسلام لا تقوم على الحول والحيلة، علمت أن العرب تعلموا حقيقته ثم علموها الناس؛ فكانوا حيثما استعمروا من الأرض كالمصباح النقي، يحمل النور البهي.
وإذا الديانة لم يصنها أهلها
خيفت خفاء النور بعد ظهور
أخفاه مصباح حواه فاسد
فالذنب للمصباح لا للنور
قلت: أرى الحديث فتح بعضه بعضا يا مولاي، فماذا اخترت لنا من الزي؟
قال: قد انتدبنا يا بني للنظر والاختبار، واستقراء أحوال العرب في هذه الدار؛ فما لنا لا نتلبس بلباس المحكوم، ونتردى ثياب المؤتمر؛ لكي ننظر بعينيه، ونسمع بأذنيه؛ فإن كان شقيا بدولة القوم، تعبا بحكومتهم، عرفنا ذلك بالخبر لا الخبر، وشفعنا له عند عمرو أو عمر؛ وإن كان ناعما في ظلهم، راضي العيشة على عهدهم، أخذنا بنصيب من حاله، ووقفنا على حقيقة أمره.
قال الهدهد: وبينما نحن في الحديث لم نبرح المكان، هتف هاتف بالأذان، ودقت بالناقوس يدان، فلم أدر إلا ونحن على الفسطاط، في زي قسيسين من الأقباط؛ فضحكت من نفسي، وعجبت لاختلاف يومي وأمسي، والتفت إلى النسر فرأيته يبتسم كذلك؛ فتمثل بهذا البيت من الشعر، وهو من قصيدة لي في مديح العباس:
قد بشر الناقوس بالمسلم ال
عادل من قبل بشير الأذان
قلت: هذا مما حليت به العباس يا مولاي، فكيف نزعته عنه وكسوته عمرا؟
قال: بضاعة عمرو ردت إليه؛ فلا والنفس والخلود، ودين الآباء والجدود، ما فتح لأبوة العباس في مصر إلا بسر هذه الراية، ولا دخلوها إلا ليعزوا هذه الآية؛ على أن الشعراء كثيرا ما يمدحون زيدا ويعنون عمرا؛ وقد صدق صاحبنا من حيث كذب في قوله:
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة
لغيرك إنسانا فأنت الذي تعني
3
قلت: إنك لتزري بأصحابك يا مولاي.
قال: ما كانوا لي أصحابا وهم ينزلون بالشعر عن رتبته، ويجعلونه حيث لا يرضاه الأدب، لا يمدحون محمدا، ولا يهجون مذمما، ولا ينظمون في الطبيعة والتاريخ اللذين هما أم الشعر وأبوه؛ ويخلطون كلمة باقية، وأخرى فانية؛
4
هذا صاحبك الذي سير الأمثال حكما والحكم أمثالا، وجرى في الشعر إلى الغايات فسبق السابقين وبز القائلين، يقول هذه الحكمة العالية، ويرسل هذا المثل المحكم:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
مصائب قوم عند قوم فوائد
5
وتراه يقول بعد ذلك:
نهبت من الأعمار ما لو حويته
لهنئت الدنيا بأنك خالد
6
وما أحسن هذا الشعر وألطف هذا التصوير، لو لم يتجرد فيه الشاعر من رقة القلب ورحمة النفس وكرم الشيمة؛ فهو يبيح ممدوحه دماء العباد، ويملكه أعمارهم، وينوه بسفح الدماء وسفكها، ويتمنى له بعد ذلك الانفراد بالخلد الذي كرهه أبو العلاء لنفسه حيث قال:
ولو أني منحت الخلد وحدي
لما آثرت في الخلد انفرادا
فهلا هجر أبو الطيب الصناعة إلى الروحانية التي هي حقيقة الشعر ورجاحة الموزون والمراد من المنظوم، والروحانية لا تقوم على مثل هذه الجفوة والقسوة والغلظة، لكن تكون بمثل ما قال في مثل هذا المقام:
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عقاب
تأمل يا بني هذين البيتين، وانظر كيف هدمت الصناعة الأول، ورفعت الروحانية الثاني؛ وأقبح من بيت المتنبي في استباحة دم الأفراد، بيته في استباحة جماجم الملوك:
وجنبني قرب السلاطين مقتها
وما يقتضيني من جماجمها النسر
فما قتلة «كارنو» و«همبرنو» و«إليزابيث» و«مكنلي»، وما اقتضتهم الفوضوية من صدور الملوك والملكات وجنوبهم وأحشائهم، بأشنع ولا أفظع ولا أبغض إلى السموات وما أظللن، والأرضين وما أقللن، من نسر صاحبك؛ وإني لأعجب للفوضويين كيف لم يهتدوا لهذا البيت فيتخذوه شعارهم، أو يتخذوا فيه قرارهم!
قال الهدهد: ورأيت الناس يهرعون إلى صلاة المغرب، فندمت على ما فاتني من المشاهدة والعيان في هذه الزورة الأولى، وقلت للنسر: قد كان لنا يا مولاي غنى عن أبي الطيب وحديثه، والنظر في طيبه وخبيثه، لا سيما وهذا أول أصيل قضيناه على الفسطاط.
فأخذ النسر من عبارتي الغضب، وقال: أحدثك عن شعر العرب وشاعرهم، ونحن قادمون على دولتهم في ابتدائها بمصر فتزعم أنني حدت عن الغرض، وخرجت عن الموضوع! وما الشعر والبيان إلا عنوان الأمم، يستدل بهما عليها.
ثم تثاءب النسر وقال: موعدنا غدا مجلس عمرو. فما هي إلا إغماءة، ثم إذا أنا بحلوان.
المحادثة الحادية عشرة
قال الهدهد: وكان موعدي مع النسر أن نلتقي في مجلس عمرو، فلما كان الأصيل خرجت إلى الفسطاط، في زي قسيس من الأقباط، كما سبق بذلك الاشتراط؛ فحين بلغت مدينة ابن العاص، التي فتحها للإسلام بالرأي قبل الفتح بالسيف، وافيت مقر الإمارة، وهناك ما كان أسهل الوصول، وأيسر الدخول! رفعت الحجب بين عامل عمر وبين الزمر؛ واقتدى به وجوه العرب في سلوكهم؛ والناس على دين ملوكهم؛ فاستقبلت مجلسا أليق بالوعاظ والعلماء منه بالملوك والأمراء؛ وقدمت على أمير تاجه العمامة، ومطرفه القباء، وصولجانه السيف، وكرسيه التراب، وحاشيته الأصحاب، وقصره خيمة ممدودة الأطناب؛ يحيط به العرب وكأنه أحدهم، وهو زعيمهم في مصر وسيدهم؛ وكان النسر بين يديه، قد سبقني إليه، وهو يبالغ للعامل في الخطاب، ويلقي السؤال ويأخذ الجواب؛ فسمعته يقول له: هذه دنياكم يا ابن العاص، لا تغترون بها، ولا تحفلون بحبها؛ وإنها لدنيا العقلاء، وطلبة الحكماء، فكيف دينكم؟
قال: أسهل وأيسر وأسمح: الشهادة وهي كلمة، والصلاة وهي عصمة، والزكاة وهي رحمة، والحج وهو حكمة؛ وما سوى ذلك فزيادة في العبادة، أو بدع تأتي بها الأيام، وأعراض لا يصدأ بها جوهر الإسلام.
قال: نعمت الدنيا لو لم تزل عن الخلفاء، وتئول إلى الملوك والأمراء؛ وحبذا الدين لو سلم من عبث الفقهاء، وعيث الجهلاء.
قال: وما يمنعك أيها القسيس أن تستقبل هذه الدنيا وتدخل في هذا الدين؟
قال: إني أتبع دينا يقال فيه في جملة الدعاء: «إيزيس لو لم تتوحدي لما كانت الأشياء، ولن تصل إلى حواشي حجابك يد الأحياء!» فالمعبود إذن واحد، وإن اختلفت الأسماء.
قال: أي الأديان هذا؟
قال: دين المصريين القدماء.
قال: عجبا! أفي مصر بقية من القوم؟
قال: ليس للظالم دين يا ابن العاص، والرومان قوم ظالمون، دخلوا هذه البلاد فأفسدوا فيها، وهدموا ما بنى أصحاب المسيح عليه السلام بزهدهم وتجردهم وتسمحهم، من بنيان للنصرانية متين، وركن للمسيحية مكين؛ وغادروا مصر لا تخلو من عاكف في خاصة سريرته على دين آبائه وأجداده، وأنا من هذا الفريق.
قال: الآن أنهاك عن عبادة الأصنام، وآمرك بالدخول في الإسلام، فإما أن تقبل، وإما أن تقتل!
قال: القتل أحب إلي يا ابن العاص، ولكن لي كلمة أقولها وأرجو أن تسمع لي.
قال: هات.
قال: على التمسك بالدين قامت دولتنا القرون الطوال، ومن شدة التمسك به أدركها الزوال، فذهبت من أجل «هرر»، وأمست إحدى العبر، ولا أكره أنا أيضا أن أذهب على الأثر.
قال الهدهد: فلم أدر بالأستاذ إلا وقد عاد سيرته الأولى، فإذا هو نسر يطير بين أعين القوم، وهم من أمره في أعظم الدهش، فلحقت به؛ وما زلنا ننفذ الأفق حتى هبطنا ناحية من الفسطاط، فتمثلنا كما كنا قسيسين من الأقباط، وهناك التفت إلي وقال: كيف وجدتني وصاحبك؟
قلت: ألان لك وجه الأمر وخاشن آخره.
قال: بالحق ألان، وبالحق خاشن؛ لأن مقاومة الوثنية فرض على نصراء العقل وحماة الحقيقة، وقد تكفل بها الإسلام لسائر الملل.
قلت: قد كان لك غنى يا مولاي عن التكشف له، وإطلاعه على حقيقة معتقدك.
قال: أردت أن أريك كيف يحفظ القوم دينهم في الكبيرة والصغيرة.
عجبا لكم معشر المصريين، أنتم أمة التاريخ وليس لكم فيه كتاب! هلا تشبهتم بآبائكم الأولين! فلقد كان الواحد منا أحرص الناس على حديث بعده يؤبده في حجر يشيده، وذكر مع الزمن يخلده، في أثر ينضده؛ وكان أحب الأعمال إلى ملوكنا وضع التاريخ وتدوين السير، لعلمهم بأن التاريخ دليل الأمم، ومرشد الشعوب، وإن قوما لا يعرفون ماضيهم لا يكون لهم بحاضرهم اعتناء، ولا في آتيهم رجاء، أليس عارا عظيما على الشرقيين، وفيهم اليوم العالم الذكي، والكاتب الألمعي، ألا يعلموا من سيرة «الأمير عبد الرحمن» المتوفى بالأمس، غير ما تنقله صحف الغربيين ومجلاتهم.
وإني أسترعيك لقضية لا تفوت أهل النظر في أحوال البشر، والباحثين في طبائع الاجتماع.
قلت: وما تلك يا مولاي؟
قال: يدهش الناظر المتأمل، والباحث المدقق، لما يرى من التفاوت البين في الأخلاق، والتباين الظاهر في الطباع بينكم معاشر النازلين هذا الوادي في شمال أفريقيا، وبين أمة البوير سكان الجنوب؛ ويحار فلا يدري بأي الآراء الثلاثة يأخذ، وإلى أي المذاهب الثلاثة يرجع: أيذهب مع القائلين بفعل البيئة في الأمم، وتأثير الإقليم في الشعوب، وسلطان المقام على المقيم؛ فيحكم أن جار الليث أسد، وجار العير وتد؛ أم يجاري الذاهبين إلى أن اختلاف الطبائع ليس إلا نتيجة اختلاف الأجناس؛ أم يعتمد على رأي القائلين بأن العقل البشري - وهو مركز القوى المدركة في الإنسان، والنفس - وهي مهبط الفضائل أو الرذائل فيه - ليسا إلا هبتين يشترك فيهما أصناف العباد، وإن تفرقوا في أطراف البلاد، وإنما يصح العقل بالتعليم الصحيح، وتقوم النفس بالتربية الحقة؟ على أنني إلى هذا الرأي الثالث أميل، وعليه في اعتقادي المعول؛ فعليكم بالعلم، خذوه نافعا دافعا، واهجروا منه ما يميت إلى ما يحيي، واطلبوه لدنيا تعملون لها كأنكم تعيشون أبدا، أو لآخرة تعملون لها كأنكم تموتون غدا، وعليكم كذلك بالتربية، فإنها باب مدينة العلم، لا تدخل إلا منه؛ خذوا صحيحها ولا تأخذوا فاسدها، واطلبوها لأنفسكم؛ فإن كبرت عنها فلأبنائكم، فإن لم تكمل لهم كملت لأبنائهم من بعدهم؛ وكونوا الحفظة الذين تكرم عليهم بلادهم في الشدة أضعاف ما تكرم عليهم في الرخاء؛ يبكونها بالدموع آونة، وفي القلوب آونة؛ لا يغفلون لها عن حرمة، ولا يقصرون لها في الخدمة؛ حبها لهم العشق، لا التفات فيه إلى ملامة، ولا قيمة معه للسلامة.
أعمار الأفراد قصار، والأمم طويلة الأعمار؛ وآمال الواحد الفرد تفوت بموته وآمال الجماعة لا تفوت، وإنما هي لهم مثل الورق للشجر: ينزعه حينا ويكساه حينا؛ وما بنى قوم بناءهم في المجد ولا قامت سعادة أمة إلا على العلم والتربية؛ وهما إنما يحصلان في المدرسة، وليس ما يمنعكم من إنشائها؛ فإذا أنشأها غنيكم غير مسرف، ودخلها الكهل بالليل غير مستنكف، ولزمها الصبي بالنهار غير متكلف، وأخذتم العلم فيها كما يريد زمانكم الذي أنتم مخلوقون له أن يؤخذ، فقد استقبلتم الحياة من وجهها الحق، وأخذتم في التقدم العصري بالسبب الأوثق.
اللغة رأس مال الأمة في العلم والعرفان، والدين رأس مالها في التربية والأخلاق؛ فاجعلوا المحل الأول في مدارسكم لهذين؛ فالثمرات إنما تأتي بقدرهما. الإنسان إذا علم كان إنسان العين، وإذا جهل كان إنسان الغابة؛ والعلم إن لم يتأسس بالتربية كان لحامله محنة، وللناس فتنة؛ فاجمعوا بينهما في الدار، ثم في المدرسة، ثم في الحياة؛ تلك المدارس الثلاث الكبر؛ فأما الدار فالأستاذ فيها المرأة، وأما المدرسة فالمعلم فيها الرجل، وأما الحياة فالمربي فيها الزمن؛ فابدءوا بالنساء فعلموهن في الصغر يعلمنكم في الكبر، وربوهن في الطفولة يربينكم في الكهولة، ولا تنشئوا مدرسة واحدة للرجال إلا وقد أنشأتم مدرستين اثنتين للنساء.
إذا اشتغل الحليم بالسفيه شارف على السفاهة، وإذا اشتغل العالم بالجهول شارف على الجهالة، وأكثر ما ينتشر السفهاء والجهلاء، وأشد ما يكون إفسادهم وإيذاؤهم في الأمم وهي في بداية نهضتها؛ فمثلها عندئذ كالأنهار الكبيرة في أزمنة الفيضان: تسوق الأقذار فتساق بتيارها، ويختلط الخبيث بالطيب، ثم لا تلبث أن تلفظ الفاسد وتستبقي الصالح، فينصلح الماء وتفيض الخيرات على البلاد والعباد؛ فلا يثبطن لئامكم كرامكم، ولا تلقوا للصغائر مما يحدثون بالا، واعملوا كل بما تعلم من علم أو صناعة، وأتقنوا العمل؛ فإن إتقانه يلقي عليه اليمن والبركة، ويولد بين العاملين المنافسة والمسابقة والمزاحمة، وعلى هذا تقوم حياة الأمم كما تقوم حياة الأفراد على دورة الدم.
ليس بين دبيب الحياة في الأمة وبين ظهورها كاملة الأدوات تامة الصفات، إلا مثل ما يخفق فؤاد الجنين لأول وهلة، ثم تمسك الحياة فيه بعضها بعضا وينمي بعضها بعضا؛ فلا تزال به حتى تخرجه إلى الوجود فيؤدي فيه وظيفته، ويستوفي فيه برهته؛ ولا أجد مثلا لما أصف إلا أمة اليابان، وإنها لدليل حاضر، وشاهد معاصر، على أن الحياة ربما كانت أسرع جريا بالأمم منها بالأفراد؛ فقد جاوز اليابانيون أطوارها الأول إلى هذا الشباب المرجو المخايل، المبشر بأبرك أعمار في المدنية والحضارة، في نحو ربع قرن من الزمن؛ وهي برهة قد لا تكفي الواحد من الأفراد ليبلغ في الصبا أملا، أو يحسن في الحياة عملا.
قال الهدهد: كان النسر يتكلم وكأن كلامه حديث الجيبة، تأخذه الآذان، وهو يأخذ الوجدان، بيد أنه حكم غرر، وحقائق كبر، تستوجب النظر؛ حتى أمسك عن الكلام فوددت أنه لم يمسك، وقلت له: لو خيرت يا مولاي فيما أريد لما اخترت إلا أن يبعثك الله فتمشي في القوم خطيبا هاديا، وطبيبا مداويا، تتتبع أقصى الداء، وتصف عزيز الدواء.
قال: ليكونن لي ولكم شأن يوم تجمعنا القاهرة.
قلت: ومتى تدخلها يا مولاي؟
قال: يوم يقتل عثمان ويصير أمر العرب من الخلافة إلى الملك، فهناك أنفض يدي من دولتهم، وأصدر بك عن الفسطاط وأرد القاهرة، عاصمة مصر الحاضرة.
ثم أخذت النسر الإغماءة المعتادة، فتثاءب وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، وموعدنا غدا دار العجوز.
وأصابني مثل ما أصابه، فما هي إلا غمضة عين ثم انتباهة، حتى رأيت الفسطاط أطلالها، وحاذيت في القطار تلالها، فعجبت للحال وتحولها والروح وتنقلها، وأخذت في نفسي على النسر هذا الرجوع إلى الخلط في المواعيد، وإتعابي بدار العجوز أنشدها ولا أنشدها:
أهلا بدار سباك أغيدها
المحادثة الثانية عشرة
قال الهدهد: خرجت في أصيل الغد إلى الفسطاط، في الحلة التي قضاها الشيخ لي واختارها، وأنا لا أعرف العجوز ولا دارها، ولا أدري كيف أملك مزارها، أو أجد من يحدثني أخبارها؛ وأنكر على الأستاذ هذه التعمية، وأعذله على اختياره النعت على التسمية، فجعلت أمشي قلقا في هذا البلد، غريبا في ثيابي، تزدحم شفاه العامة على يدي بالتقبيل، ويتنحى الخواص حيث أسير، وأنا أغبط في نفسي رؤساء الديانات بهذه المكانة في النفوس، وأحسدهم على هذه المنزلة في القلوب، وأنظر سلطان الرغبة كيف يعلو على سلطان الرهبة، وأرى الملك الكبير لمالك السريرة لا السرير؛ وقد راقني وأدهشني أني لم أر عربيا ظهر لقومه - أو للمسلمين من أهل البلد - في مظهر رئيس روحي، أو مسيطر ديني، وفي الفسطاط كثير من صحابة النبي الذين يتعلم الدين في بدايته منهم، وتؤخذ أصوله على حقيقتها عنهم، بل وجدتهم كسائر العرب في مصر: جنود الخلافة، وأنصار الإمامة، وأعوان الحكومة الإسلامية، يعزون الإسلام آونة بالجهاد، وآونة بحسن السيرة في العباد؛ لا يلتمسون الكرامة في تكبير العمامة، ولا يوسم أحدهم بولاية، وهم مصابيح الهداية، وعلى عهدهم ظهرت الآية؛ دائبون في خدمة الدين لا يألونها صبرا، يغتربون من أجله، ويقاطعون الدنيا في وصله، ويعلقون بيض الأيادي وكرائم الصنائع في أعناق الأمم ممن يأتي بعدهم؛ قدم في الشام وأخرى في العراق، ولواء في سماء النيل خفاق، ويد لها بالأمر في الروم انطلاق، وحكومة تنتظم سائر الآفاق؛ وهكذا العلماء لا يغني عنهم علمهم، ولا تثبت لهم هذه الصفة العالية في نظر الجماعة، حتى يجمعوا بين المدارك والهمم، وتنقاد بأزمتهم الحياة العملية في الأمم، يرشدون الناس بالعلم مرة وبالعمل مرارا، ويعرفونهم كيف تطلب الدنيا بالعقل، وتركب الحياة إلى المحيا السهل، وتتزود النفوس من المجد والفضل.
للعلم أهل ليس يألونه
أخذا وردا في شئون العباد
لهم مراد لا ينالونه
حتى ينالوا غايتي الاجتهاد
العلم في أنواعه كلها
والعمل الموصول فيما أفاد
في خلفاء الله من قبل ما
ينبيك أن العلم للخلق هاد
كانت تفيض الأرض من علمهم
في الحكم أو في الوعظ أو في الجهاد
فما باله أصبح يحمله من لا يبذله، وصار يدعيه من ليس يعيه، وما للمسلمين مختلفين فيه، فريق يرى النافع الرافع منه ما كان مقصورا على الشريعة، منحصرا في فقهها، مردودا إلى المذاهب الأربعة فيها، والتقي النقي من هذه الفئة من عادى لغات الغربيين، وهي التي ينهى بها فينا معاشر الشرقيين ويؤمر، واحتقر علومهم وفنونهم، وهي التي نفاضل بها فنفضل، ونقاوم بها فنخذل، وتقتلنا كل يوم بلا قتال؛ وفريق يهجرون علوم الدين وآداب اللغة العربية إلى لغات لم تجر بها ألفاظ آبائهم، وآداب لم تقم عليها حياة أجدادهم، ولم تؤلف بعد في بلادهم؛ وإن أمة لا تجتمع على لغة، ولا ترجع إلى جامعة من الآداب القومية، ولا رابطة من الأخلاق الملية، ليست على شيء من الحياة، وإن جمعت فيها معاني الفضائل:
أرى جوامع الشعوب أربعا
أمرهم بدونها لن يجمعا
الدين في آدابه متبعا
والجنس لا حتما ولا مضيعا
والعلم يهديك إلى ما نفعا
ولغة يفهمها من سمعا
تكون في الغالب والعلم معا
قال الهدهد: وما زلت في تنقل واستقراء، وتجول واستجلاء، ومشي على قلق وعناء، حتى أعييت بضالتي طلبا وسعيا، فصحت: لا نشدت تلك العجوز ولو أنها الدنيا. وهناك مرت يد على كتفي، فالتفت فرأيت النسر يعتذر عذر البريء، وسمعته يقول: نعم هي الدنيا وأنت في الطلب، وستراها وتسمع حديثها من كثب. فقضيت من مقالته العجب، وقلت: إذن أغفر لك إبطاءك، ولا أستنكر استهزاءك، ومن لي أن أجتمع بفاتنة الأنام، التي ما رؤيت إلا في الأوهام، ولا تمثلت إلا في الأحلام؟
قال: وهذه دارها. وأشار إلى خربة على الطريق من بقايا الرومان.
قلت: وما يلجئها إلى هذا الانعزال والاستتار، ولو شاءت لسكنت الأسماع والأبصار؟
قال: ليس لها إلا ما تسترد، وشيمتها أن تسترد النعم حتى تحولها إلى نقم، تعطي القصور عالية، وتأخذها أطلالا بالية.
قلت: ونحن نتقدم إليها الآن يا مولاي؟
قال: ادخل عليها هذا الأثر، وأنا على الأثر؛ وتدلل عليها في الخطاب، ولا تخشها؛ إنها في سجن ابن الخطاب.
قال الهدهد: فتقدمت وحدي حتى جئت بابا صغيرا، فلم أطرقه بل عالجته، فانفتح من نفسه، فإذا أنا لدى عجوز أكل الدهر لحمها، وأدق عظمها، وجمع كالقوس جسمها، وشيب كل شعرة في بدنها، حتى شعرات في أذنها، وهي تنوء بسلاسل الحديد، وترزح في أسر شديد؛ فضحكت من منظرها وبادأتها بالخطاب، فقلت : أيتها الأمة المضطهدة، والعجوز المقيدة، كيف حالك وعمر، لقد انتقم منك للزمر، ونهى عليك بعد النبي وأمر؛ لئن حبسك فطالما حبست رزق الرجل الفاضل، وقيدت نفس الحر العاقل، وملكت الناقص رزق الكامل.
فاستضحكت العجوز ثم قالت: من هذا الذي شمت بجدة الناس، وأم الكل في الأجناس، إلا اثنين: ابن الخطاب صاحب هذا الأمر، وابن عبد العزيز، عذر بني أمية لو قام لهم عذر؟
قلت: ولا ناس إلا من ذكرت، ولا أناسي إلا من سميت!
قالت: لا يغرنك أيها الفتى أن الذل شعاري، وأني عاجزة عن فك إساري؛ فوالذي سلطني على عباده ليبلوهم أيهم أصدق عزما، وأجمل صبرا، وأقصد إليه سرا وجهرا، ما ملك عمر إلا الظواهر، ولي التسلط على السرائر، والسيطرة على الضمائر؛ وليس هذا الذي ترى في ملك ابن الخطاب من زهد في، وتجن علي، وإساءة إلي إلا غاية وتنقضي، وحال من أكره لا من رضي؛ عمال في مداراة الخليفة، يوجسون منه خيفة؛ ورجال يلبسون لكل دولة لبوسها، يأخذون نعيمها ويذرون بوسها؛ زهاد في دولة الزاهد، شياطين في زمان الفاسد.
وبينما نحن في الكلام، دخل النسر فوقف بين المهابة للعجوز والإكبار؛ ثم خاطبها فقال: أيتها الحاكمة في البشر، من غبر منهم ومن حضر، والآتي منهم والمنتظر، ما لقيت من عمر، في ظلمات هذا الأسر؟
قالت: أضيق الأمر، وأعظم الأسر؛ لكنها حال تحول، ونازلة عما قريب تزول، ثم أفتك في هذه الأمة فتكا، وأصير هذا الأمر ملكا، تقتتل عليه القبائل، وتتلاعن من أجله البطون، وتتفانى في طلبه الشعوب؛ ولا أزال كذلك حتى أشقى مرة أخرى في زمن ابن عبد العزيز، ثم يخلو لي الجو إلى الأبد، وأحكم في المسلمين على الأمد.
قال: بحق عمر عليك إلا ما وصفت لي الأربعة الخلفاء.
قالت: أما أبو بكر فأخذني كما تؤخذ الإماء، وخرج مني خروج الأنبياء؛ ضرب على يدي أن أفسد هذا الأمر حين الفرصة سانحة، والصفقة رابحة، والأمة جامحة، إلى الفتنة جانحة. وأما هذا الذي أعذب في أسره، وأبلو المر من معاملته ، فأشدهم إعراضا عني، وأكثرهم فرارا مني، لم يرضني أمة تشرى، ولا قبل بي طريقا إلى الأخرى، ولا يزال حتى يخرج مني خروج الأنبياء. وأما ابن عفان فأتقرب إليه بقرابته، وأمهد للفتنة تمهيدا في خلافته؛ ولا أزال به أتنازعه أنا ودينه حتى أزول عنه إلى علي؛ أزهد الناس في، وأكثرهم إساءة إلي، يفضحني في كلمه، ويقبحني في حكمه، ولا يرضى بي لنفسه قسما، ولا للغير غنما، ينافس في معاوية، ونفسه عني راغبة سالية، ولا يزال يجعل همه في جمع أمر الأمة، وحفظ إمرة المسلمين في بيت النبوة، وأنا أروغ بالنفوس منه، وأحيد بالقلوب عنه، حتى يخرج مني وليس في يده مني هباء، كما خرج من قبل الأنبياء.
قال النسر: فكيف أنت بمعاوية؟
قالت: فطن داهية، مختلف في السر والعلانية، لا يزال يهجرني إلى الدين ويهجر الدين إلي، وهو في خاصة نفسه أحرص الناس علي، يتسع من نعيمي لنفسه، ولذريته من بعده، ويتخذ الآخرة طريقا إلي وكنت طريق السلف إليها، حتى أجتمع له ولآله وأعوانه، ثم أزول عنه وقد استرقني لبني أمية يصيبون بي خيرا كثيرا، ويتوارثونني ملكا في الأرض كبيرا.
قال: وأنت ظل الملك؛ حيث كان كنت، وأين سكن سكنت.
قالت: أنا الملك والملك أنا، وما نهض به في الأرض من آذاني بشامل عدله، وساءني بحسن سيرته، إلا زلت عنه على عهده، أو قاطعت ذريته من بعده، وهذا هو السر في كون الملوك الصالحين العادلين في التاريخ لم تستقم لأكثرهم الحال في أواخر حكمهم، ولم يقم من عقبهم من أحسن السلوك، أو سار سيرة تليق بالملوك.
قال الهدهد: ثم التفت النسر إلي وقال: دونك أيها الهدهد هذه الصحيفة الناطقة، وهذا التاريخ المتكلم، فسل ما شئت، واستفسر عما شئت، من فائدة تستجلبها، أو حكمة تأخذها.
فاستقبلت العجوز وأنا أعجب من حفاوة الأستاذ بها، وأستغرب منه هذه المبالغة في خطابها، ثم قلت: صفحا أيتها الدنيا عن هفوتي، وانسي لي جفوتي، وخبريني أي الناس أحب إليك وأيهم أبغض عليك؟
قالت: أحب الناس إلي أبغضهم إلى الله، وأبغض الناس إلي أحبهم إلى الله!
قلت: ومن أبغضهم إلى الله ومن أحبهم إليه؟
قالت: أبغضهم إلى الله العالم المفتون، وذو الصنع الممنون، ومؤتمن يخون. وأحبهم إليه العامل عن علم، المتواضع في رفعة، العافي على مقدرة، الذاكر الموت المستعد له؛ فهذا الذي يرجى لعظيم الأعمال في الدنيا، ولصالحها في الآخرة.
قلت: عظيني أيتها العجوز.
قالت: خلقت أضل ولا أدل، وأفسد ولا أرشد؛ وما مثلي إلا كالنار تهدي الناظر من بعد إليها، وتحرق المتهافت عليها.
قلت: أي الأمم بك أعلم، وأي الحكماء في وصفك أحكم؟
قالت: الأمة التي جاء في كتابها المنزل بلسانها في جملة وصفي:
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، والتي يقول في شاعرها:
وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
قلت: عرفيني بعض صفاتك، وصفي لي شيئا من آفاتك.
قالت: أنا المانحة المانعة، الواصلة القاطعة، أقبل لا شاملة ولا كاملة، وأدبر لا منذرة ولا معذرة؛ صفوي عند كدري، وكدري عند صفوي؛ أونس الملك فيشقى، وأمني السوقة فترضى، وآتي الآمن المطمئن من حيث لا يتقي، وأصيب اللاهي الناعم فيما يؤنسه في خاصة نفسه، لا ما يظهر للناس من أنسه؛ ألسنة الناس في سبي، وقلوبهم مملوءة من حبي، يغالط بعضهم في بعضا، وما أضمر أحدهم لي كراهة ولا بغضا، من زلت عنه استعاد، ومن اتسع مني استزاد، ولا حي إلا له في مراد؛ العاقل من أخذني أخذا، أو نبذني نبذا، ولم يقف في طلبي بين التقنع والجهاد؛ فمن أخذني فبالمراد الغزير، والجهاد الكثير؛ ومن نبذني فبالاعتقاد المستقر، والسلوان المستمر؛ لا يرغب مع الآخرة في ثمين، ولا يؤثر عليها المال والبنين؛ ومتى كان ذلك فله لا للمتنبي أن يقول:
كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كراهتها قدما
قال الهدهد: وكنت أصوب النظر في العجوز وأصعده، فأراها تلبس حالا عن حال، وتصير من غايات القبح إلى نهاية الجمال، ثم نهضت من السلاسل والأغلال، وتمثلت لي وللنسر غادة كالمثال؛ فلما رآها الأستاذ دق يدا على يد وقال: قضي الأمر، وقتل عمر، واستقبل العرب الدنيا واقتتلوا على الملك، وجاءتهم الفتنة من كل مكان. قالت: كذلك هم مذ الآن، ولا أزال حتى أجمعهم على سب بيت منه خرجوا، وفي ظله دبوا ودرجوا، وبه ظهر عزهم، وعليه بني ملكهم، ثم لا أزال حتى يحكم فيهم من يزري بالقرآن، ثم لا أزال حتى يغلبهم الهمل من العجم على أمرهم، ويسلبوهم ما بأيديهم؛ ثم لا أزال حتى يتفرقوا في البلاد، ثم لا أزال حتى يمسوا كأن لم يكونوا شيئا مذكورا، ويبقى قرآنهم ولسانهم خالدين على الأمد، منشورين إلى الأبد.
قال الهدهد: ثم انطلقت الدنيا من أسرها، وتركتنا نقضي العجب من أمرها، فالتفت النسر إلي وقال: لا خير في هذا الأمر بعد عمر، ولا مقام لنا في ملك هذا الذي يموت عن عبيد وإماء، وضياع وثراء، وأثاث وكساء، بعدما ظلم أبا الزهراء، وآثر على الخليفة الخلفاء، وأراق ما شاء من دماء، ثم ألقى المعذرة والدنيا مدبرة، وطلب المغفرة حال الغرغرة.
قلت: ومن تعني يا مولاي؟
قال: ابن العاص.
قلت: ذاك الذي أبلى بالأمس في الجهاد، وجلس للحكم بين الناس مجلس الزهاد؟
قال: كانت نفسه إلى الدنيا مغلولة إلى حين، ثم فكت بموت أمير المؤمنين.
وتثاءب النسر عند ذلك فخشيت أن تكون هذه النومة الكبرى، وأن لا أراه مرة أخرى، فسألته عن الملتقى؟ فقال: بمصر، بين الجزيرة والجسر. فسررت بالموعد، وبشرت نفسي بآصال مستعادة، أقضيها مع النسر في استقراء واستفادة.
المحادثة الثالثة عشرة
قال الهدهد: لما كان الغد، خرجت إلى الموعد، ألاقي النسر في مصر، بين الجزيرة والجسر، وأنا مسرور بلقائه في وطني، والاجتماع به بين قومي؛ لعله ينفعني بالتنبيه والإرشاد، ويفيدني الملاحظة والانتقاد، فيما خفي علي من خلائق الرجال، وما غاب عني من حقائق الأحوال؛ لأن الغريب حريص على الصغيرة والكبيرة، يرى من كل بلد يحله، ما لا يراه أهله، كالتمساح لا يبصر في الماء وهو موطنه الذي يعيش فيه، فإذا خرج منه كان أحد الحيوان لحاظا، فكيف به مثل الأستاذ واسع العلم والدراية، متقادم العهد على صحبة الزمان وأهله.
فبلغت النهر وكان الأصيل على سمائه ذهبا، والريح على مائه لعبا، والمنظر على فضائه عجبا؛ وكان الناس يخرجون إليه موكبا موكبا، تجري بهم المركبات من كل طراز وشكل؛ فمن «بسكليت» كبساط الريح لا تراها، وتنظر من أجراها؛ تمرق كالسهم مروقا، وتخفق كالريح خفوقا، وتنساب فوق طريق الناس، فتصوت كالأفاعي ذات الأجراس، ومن «أتوموبيل» كجني عنيف، ذي هبوب وعزيف، صوتها أنكر الأصوات، وفيها جمعت المزعجات، وراكبها لا في الأحياء ولا الأموات؛ ومن «ترامواي» تنقل الأقوام من شاطئ النهر إلى الأهرام، وهي تمضي بصاحبها ثم تمضي عليه، بخلاف الأيام فيما ذهب الشاعر إليه:
ما أسرع الأيام في طينا
تمضي علينا ثم تمضي بنا
ومن مركبات تنقاد بأعنة الجياد، منها ما لا تسمع لها حسا ولا جرسا، كأنما يهمس في أذن الأرض همسا؛ وبعضها كالدار طبقات، تتبوأ مقاعدها فيه الجماعات، وبعضها قليل الحجم يجره فرد ويركب فيه فرد؛ وبالجملة وجدت منازه الجزيرة والجيزة حافلة بصنوف المحدثات، جامعة لأنواع المخترعات، كأنها غاب «بولونيا» الشهير في باريس، لولا أن القوم عليها كشكول ملل ونحل وأجناس وأزياء وألوان، وقد ذهبت أيام الحمير، وتصرمت دولة البغال، فنسي الشيخ في مركبته ذكر بغلته، وكانت مجلى زينته، في ذهابه وجيئته؛ وهجر السيد الحمار إلى «الدوكار»، وبرز الكبراء للناس في «الأتوموبيل»، وكانوا ينكمشون وقارا في «الكوبيل»، وألهت «البسكليت» الخصي عن جواده العربي، وسرجه الفضي، وكانا زينته بالغداة والعشي، وركبت السيدات في مكشوف المركبات، تجري بهن بين أعين الجماعات، وكن في مثل هذه الأحوال لا يملن حيث يميل الرجال. عادات بدلت، وأحوال تحولت، وآية للغرب في الشرق علت، وألقاب حضارة ومدنية، لا شرقية ولا غربية.
قال: فلما صرت على الجزيرة تقصيت النظر أنشد النسر عليها، فرأيت من بعد درويشا قد خلا بنفسه في ناحية، وهو يستقبل النيل ويديم النظر إليه؛ فوجدت ريح النسر لأول وهلة، وتقدمت إليه فقلت: سعد النيل بشاعره في الزمان الأول يا مولاي.
قال: وسعدنا به يا بني؛ إنه سموأل الأنهار، الوافي على الأدهار، الجاري بالليل والنهار؛ عبد قديما وأله، وقدس وجه الدهر ونزه، وآوى النبيين في المهد صبيين؛ فجرى التابوت فيه بموسى، وبلغ الفطام لديه عيسى؛ ولا يعلم إلا مجريه كيف انفجر، ثم جرى وانحدر، ثم كفلته الشمس والمطر، وكم قرية عمر، وأخرى دمر، وهيكل نثر، وديانة قبر، وكم أفنى من زمر، ممن نهى وأمر، وتكهن وسحر، وفتح وانتصر؛ ألا وإنه المنهل العذب، اقتتل عليه القاهرون فوق البشر، فانتهى إليه قمبيز بغاراته، فالإسكندر بفتوحاته، فقيصر بانتصاراته، فابن الخطاب بغزواته، فسليم بحملته، فنابليون بتجريدته؛ هذا يا بني حظه من التاريخ، لا ينافسه فيه نهر، ولا يزاحمه عليه بحر؛ على أن حظه من الطبيعة أوفر، وقسطه من نعمائها أكبر؛ شمس تزهر، وأفق أنضر، وواد أخضر، وجو لا يستعر ولا يخصر، ونسيم يخطر، ومطر يندر، ورزق بأيسر السعي يحضر، وسهل صعب على العدو، ولجة تستعصي عليه على ما بها من هدو، لو وجد من يمنعه من الدنو؛ وفوق هذا وذاك هو القائم على هؤلاء الناس بالأقوات؛ إذا فاض أحيا وإذا غاض أمات، ولا يزال يأخذ من البر للبحر، فتتسع مصر بفضله من سهل وواد، وقرى وبلاد.
قال الهدهد: فشفتني هذه الكلمة في النيل، وودت لو لم يختصر النسر من هذا البحث الجليل، وإن يك أتى بالكثير في القليل. وكان قد التفت فرأى المراكب تموج على تلك المروج، فسألني: لعل هذه مصر القديمة ونحن على نقراطيس.
قلت: وما نقراطيس يا مولاي؟
قال: ثغر كان لنا على البحر، قامت «فوة» مكانه اليوم، وكانت للأجانب، لا يؤذن لهم أن يسكنوا سواه، ولا يسامحون في الخروج منه إلى غيره من نواحي القطر.
قلت: بل نحن في عاصمة البلاد يا مولاي، وهؤلاء مترفوها من أهلين وأجانب.
قال: وما هذه المطايا التي لا تجوع ولا تظمأ، وكيف تسمونها؟
قلت: هذه محدثات الغربيين، تجلب إلى مصر فيتهافت الأغنياء على اقتنائها، ولم يتفق علماء اللغة على تسميتها حتى الآن، ولعلهم لا يتفقون، فإن القوم اخترعوا «الأتوموبيل» من كل حجم وشكل، واتخذوا منها دوارع في البر، ونحن لا نرضى عمن سماها السيارة، ولا عمن دعاها بالجوالة.
قال النسر: اللسان يا بني، من حيث هو مضغة، مرآة الصحة؛ ومن حيث هو لغة، مرآة الأمة؛ ولا غرابة في أن تقعد بكم اللغة وتخونكم في ميسور الأمر وعسيره؛ فهي إنما تأخذ بنصيب من هذا النقص العام، وتتأثر بهذا العجز الشامل؛ لأنها للعلم مثل الظل للشبح يتضاءل بتضاؤله، يطول بطوله؛ والعلم في التجارة وفي الصناعة وفي الزراعة، مثل ما هو في الشروح والمتون، وفيما يسمونه الفنون الجميلة؛ فكلما ظهرت آثاره على هذه الأشياء في مجموعها اتسعت اللغة من مادة، وازدادت من حياة، وتهذبت على الزمن، وحسبت على ناموس الارتقاء، يقتادها بأزمته، ويجري بها في أعنته؛ هذه يا بني هي الحياة الحقيقية للغات، وما سواها فتوهم، ووجود أشبه بوجود الأجسام المحنطة، يظن بها حفظ وهي وإن طال المدى ستبيد.
قلت: إنك لتنعي يا مولاي!
قال: ومن أنعي؟
قلت: اللغة العربية؛ فقد حيل في التعليم بينها وبين العلم الذي تزعم أنه للغات كالروح للجسم.
قال: وماذا يحول بينهما؟
قلت: الحكومة في مدارسها، والكتاب في منشآتهم، والعلماء في مؤلفاتهم، والجرائد فيما تنشر كل يوم؛ فأما الحكومة فقد استقر عند القابضين على أزمة التعليم من رجالها في السنين الأخيرة، أن اللغة العربية لحقت باللغات الغابرة، وأنها في واد وعلوم هذا العصر في واد، ولا يزالون على هذا الرأي وفي هذا السعي حتى ييبس ما بين اللغة العربية وبين العلم، ولا يكون بعيد حتى تعدم من يعلم قواعد الحساب فيها أو يعلمها الناس بها؛ وأما الكتاب فقل من جمع منهم بين العلم والبيان، وهم المشهورين منهم بالإجادة في الوصف والتصوير، انتقاء اللفظ والاحتيال على المعنى، واتباع الشعراء في الهيام، ومزاحمتهم على الخيال؛ حتى ضاع محل الكتابة العلمية بين منشآت الكتاب، وخلا أكثرها من حقيقة التاريخ وروح الفلسفة، ونبذت فيه العلوم الطبيعية، وهجر الطب والفلك وغير ذلك مما له في اللغة العربية آساس طال عليها الأبد وغيرها الترك والإغفال.
1
وأما العلماء في مصر فأبعد الناس عن معرفة في اللغة، أو تمكن من أدبها، يمتلئ دماغ أحدهم من العلم، ويتغرب في سبيله، وينفق الأيام في تحصيله؛ وإذا ألف بعد ذلك لم يؤلف فيما يعرض على أبناء العربية بين صحة التقرير وسلامة التحرير؛ ولا أستحي يا مولاي أن أختص بالذكر في هذا المقام أولئك الألوف ممن خرج أو يخرج من الأزهر، وهم علماء الدين المتفقهون فيه، أحوج ما كان الخواص والعوام إلى كتاب منهم مجيدين، يبينون للأمة مواضع الحكمة في أحكام الدين، ليقروها في أذهان الخاصة، ويقربوها من عقول العامة؛ ومع ذلك لم يقم من بينهم حتى الآن إلا ثلاثة أو أربعة يرجون لمثل هذا النفع، ومن البلية أنهم بهذا الفضل محسودون، ومن أجله ممقوتون. رب مدرس يا مولاي تقلب على أعمدة الأزهر، وأفنى الطلبة طبقة بعد طبقة؛ وإذا أراد أن يكتب إلى ولده في بعض الشئون خانه القلم، وكتب ما لا يفهم، وكان في رسالته أنكر خطا وأكثر خطأ من شاب أرسل إلى الغرب في أول الصبا، كلما دعاه داع ليكتب إلى أبيه بالعربية.
وأما الجرائد يا مولاي فمشغولة في الغالب بسفاسف السياسة عن كل شغل، منصرفة عن وجوه الخدمة الحقيقية، لا يهمها إحياء اللغة، ولا يعنيها نشر العلم باللغة؛ وشتان ما بينها في ذلك وبين الصحف الغربية، التي هي من التمكن وكثرة الانتشار بحيث تلحظ أحوال الزمن كل يوم، وتنظر في سياسة العلم بأسره، ومع ذلك فالأهم عندها، المقدم من واجبات الصحافة، إنما هو ترقية الآداب، ونشر العلم بين الجماعة، والبحث فيما يجد منه ويكتشف فيه بحثا مدققا ربما كانت فيه من قرائها بمنزل الأساتذة من تلاميذهم.
قال: الآن علمت أن الفاس في الأساس. ثم التفت والتفت، فبدا له وراء النهر قصر، عليه بهاء ورونق، وإن لم يكن بالسدير ولا الخورنق، فأومأ إليه وسألني: لمن الدار؟
قلت: لزعيم الاحتلال، والرقيب على جماعة الرجال، يعده الإنكليز في جملة عظمائهم، ويختلفون إلا فيه، ويرمقون بناء لهم في الاستعمار يبنيه؛ تخير هذه البقعة ثم بنى فوقها تلك الدار، فبنى الكثيرون على الآثار، حتى جاورها من ليس لها بجار، وكثر عليها في الزيارة من كان يجادل فيها الزوار، وأصبحت هذه الناحية وفيها اعتبار، ها هنا الفلاح المصري وهنا المستشار.
فلم يكن من النسر إلا أن تبسم ثم قال: لا احتلال ...!
فدهشت من هذا الجواب وقلت: أمازح يا مولاي أم أنت لم تفهم مقالي؟
قال: بل أنت الذي لم تفهم، فلا تجادلني حتى تعلم.
وفي هذه الأثناء مرت مركبة صغيرة، يجرها جواد واحد، يمسك عنانه شاب من الإنكليز، لا أبهة على ركابه، ولا زخرف على ثيابه، فيه حشمة ووقار، وعليه للتواضع آثار، حمل على إحدى عينيه زجاجة فأبرقت تحتها، وترك الأخرى تتمثل بقول المتنبي:
هو الجد حتى تفضل العين أختها
فجعلت أنظر إليه، فسألني النسر: من هذا الذي شغلتك رؤيته؟
قلت: هذا مستشار المالية يا مولاي، له المحل الثاني في الاحتلال، وهو على خزائن مصر يدبر المال، ويشرف على الجليل والحقير من الأعمال.
فتبسم النسر ثم قال: لا احتلال ...!
فقضيت العجب من هذا الإصرار على الإنكار، وقلت: أتريد يا مولاي أن آتيك بدليل على النهار؟
قال: لا، بل أريد أن تصبر معي.
وهناك اقتربت منا مركبة فيها ضابطان، كأنهما ساريتان، عليهما حلتان حمراوان، وهما يشيران بوجهيهما نحو السماء تعاظما وعزة، فسألني النسر: ممن الجند؟
قلت: وما انتفاعك يا مولاي بسؤالي إذا كان الجواب لا يقنعك؟
قال: لعلهما من جيش غريب!
قلت: وهو جيش الاحتلال، له في كل ناحية من القاهرة معسكر، وكل واحد من جنوده علم إنكلترا الذي لا يمس، وسيفها الذي لا يجس، وقد بولغ لهم في الرعاية والحيطة فجعلوا فوق القوانين كلها في البلاد، وأنشئت من أجلهم محكمة مخصوصة يحاكم المعتدون عليهم أمامها.
فتبسم النسر كعادته ثم قال: لا احتلال ...!
فكتمت غيظي، وغلبت النفس على غضبها، وقلت: لا سبيل يا مولاي إلى الجحود، بعدما رأيت الجنود.
قال: مثل البلاد تراها أنت بعين، وأنظرها أنا بعين، كالمريض بين العائد والطبيب: ينظر الأول إلى جسمه الناحل، وقوته الواهنة، وعينه الغائرة، وشفته الذابلة، وعرقه المتصبب، ويسمع زفراته المتصاعدة وأناته المتتابعة، فيرق له ويرثي ويتوجع، ثم يخرج من عنده وليس المرض في اعتقاده إلا ما رأى بعينه وسمع بأذنه، فإذا سأله سائل: ماذا بصاحبك؟ قال: بجسمه نحول، وبشفته ذبول ... ووصف سائر ما شاهد من الأغراض؛ ويكون الطبيب في هذه الأثناء قد نظر لسان المريض، ثم جس نبضه، ثم قعد يقرع ويتسمع، ثم انصرف يقول في نفسه: داؤه كذا، ودواؤه كذا. وقد كنا يا بني أمة تسعد يوما وتشقى يوما، وكانت لنا دولة تعلو حينا وتسفل حينا؛ حكم الأجانب فيها مرارا، فلا أذكر أنهم حكمونا يوما ونحن أمة كملت فيها أدوات الحياة، أو سلبونا دولتنا وهي في منعة وإمكان، قائمة على حقيقة الملك والسلطان؛ فعلل الأمم إذن باطنية، لا يرجى فيها الشفاء حتى تعالج في مواطنها؛ وما قام هذا العالم منذ قام إلا على هذه القاعدة: «كل ضعيف الركن مضطهد.» وهي تسري على الجماد والنبات، كما تسري على الإنسان والحيوان؛ فالجبل يجذب إليه الذر ولا يجذب هذا إليه الجبل، والسرحة تزهق الحشائش ولا تزهقها هذه، والذئب يفترس الحمل ولن يكون له فريسة؛ وكذلك الناس؛ جهلاؤهم لعقلائهم تبع، وضعفاؤهم لأقويائهم خدم؛ سنة الدهر في بنيه، وشيمة قديمة فيه؛ فالأولى بالذين يتصدون لفك الأمم المسترقة، وتحرير الشعوب المملوكة، أن يعلموها أن قيود الحديد لا تعالج إلا بمبارد الحديد؛ فالعقل لا يقاوم إلا بالعقل، والقوة لا تستدفع إلا بالقوة، والناس مذ وجدوا رأس وذنب، والدنيا مذ كانت لمن غلب.
قلت: أفدت يا مولاي وأرشدت؛ ولكن هذا كله لا ينفي وجود احتلال أجنبي في البلاد، أريتك آثاره فأنكرتها، ولم تذكر السبب في الإنكار.
قال الهدهد: فجعل الأستاذ يتثاءب ويدخل في السنة المعهودة، ثم قال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين. وسألني بعد ذلك: أين الملتقى غدا؟
قلت: على الأزبكية يا مولاي.
قال: الآن لك وكر ولي وكر، فلن يجمع الليل الهدهد والنسر. ثم احتجب عيانه، وذهب شيطانه، فانثنيت فيمن انثنى من الجزيرة، وأنا أذكر ما كان، وأخشى أن يكون في البلاد احتلال ثان، من روس أو ألمان، أو صين أو يابان؛ وهي بحمد الله مذ كانت لا تضيق بنازل، ولا تبكي على راحل؛ ولكن قلت في نفسي: ليس بعد خفي الإشارة، إلا جلي العبارة، وما تجاهل النسر إلا وفي نفسه أمر؛ فقد عودني منذ انعقدت بين شيطانينا الألفة أن يجد فأحسبه يهزل، ويهزل فإخاله يجد، وأن يتوضح آونة ويتكتم آونة، ويقتضب تارة ويسترسل تارة، ويعلم حينا ويتجاهل حينا؛ وأنا إنما أتأدب بأدبه، وأذهب بالمحادثة في مذهبه، وأصبر على مرافقته وموافقته؛ لأنه عالم يصحب على علاته، وحكيم يحب في جميع حالاته، وإذا نقلت إلى الناس أحاديثه فإنما أنقلها كما هي، ليأخذوا الدر ويذروا المخشلب، ويدخلوا ظلمات المعدن على الذهب؛ على أني أنبه من تهمهم هذه المحادثات من القراء إلى أيام النسر في مصر؛ لأنها إنما تتناول الحالة الحاضرة، ولا مستقبل لقوم لا يهمهم حاضرهم.
المحادثة الرابعة عشرة
قال الهدهد: لما كان الغد قصدت الأزبكية لملاقاة النسر، وإذا هي كما عهدت بهجة هذا البلد، لها المحل الأول فيه، ولا تناظر بناحية من نواحيه؛ ابتسمت أرجاؤها بالمنظر الضاحي، وانتضدت عليها الدور العالية، تحتها بيوت التجارة من الطراز الأول، تتخللها الأندية العمومية تموج بالخلق الكثير؛ وكانت قد أخذت كعادتها لليل أهبته، وبرزت لأهل ودها مرموقة بعين الرضى، كريمة الثناء في الخواطر، فبعد أن كانت دار الماجن والخليع، وقرارة المدمن الصريع، ومسلك التهم في اعتقاد الجميع؛ وكانت مراح الفاجر ومغداه، ومصبح المقامر وممساه، وسامر المنكت ومن راعاه، وبعد أن كان الخروج إليها خروجا من الحشمة والوقار، حتى مات أناس من أهل الكمال ما عرفوها، وبقيت منهم بقية لم ينظروها، أمست مسحب ذيل الوزير، ومستقر أتوموبيل الأمير، ومجلس القاضي والمدير، ومسامر الكتاب والشعراء، ومنتدى العلماء والفقهاء؛ وأصبحت مقعد المتقاعدين، ومستودع المستودعين، ومدرسة الناشئين، ورواق المجاورين، وديوان الموظفين؛ تجمع الكبير والصغير، وتخلط الرفيع والوضيع، وتحل محل «المندرة»، وتقوم مقام «السلاملك»، وتغني عن «الديوان»، وتغص الأندية العمومية فيها بالجموع من كل الطبقات، وكافة الأجناس؛ فترى عليها كبار الموظفين عند «الذوات» المتقاعدين.
يليهم ألاف الجرائد ينتهبونها كمال اليتيم، ويقرءونها عارية بالمليم، فالزاجرون الشاة الآكلون الفيل من عشاق الشطرنج، فأصحاب النارجيلة تفنيهم على الزمن كما يفنونها نفسا في نفس، وتمر هناك على أركان الغيبة والاعتراض، من أهل الفراغ والبطالة، وبجماعة المقاولين من كل ذي لقب، أو عاطل يذم الرتب، وتلوي على عصبة المحررين والمكاتبين في الجرائد اليومية، أدرك أصحابها النشب، وأدركت أصحابنا حرفة الأدب، وتعثر فيها كذلك على أعضاء الجمعية العمومية ومجلس الشورى، آتين من أقاصي البلاد لزيارة المستشارين، وبعمد الأقاليم وأعيانها، كثروا على الأزبكية في هذه السنين الأخيرة زيارة وانتيابا، وجيئة وذهابا، وكانوا إذا ظفر أهل الكسب فيها بواحد منهم أحلوه بين السمع والبصر، وأجلوه كأنه المهدي المنتظر، وبالجملة يتعاقب على هذه الناحية ما بين حاشيتي النهار وطرفي الليل - عدا هؤلاء - خلق كثير من حساة الراح، وعباد الميسر، والأغرار من أهل الثروة الموروثة، والناصبين لهم الحبائل من أهل عشرتهم، ومما يبكى منه ويضحك، ولا يرى له مثيل في مدينة من مدائن الأرض، أن هذا العالم المنصب في الأزبكية بالليل والنهار، الباذل فيها قليل المال وكثيره كل يوم إنما يلقي أساس الثروة، ويرفع عماد البيوت لهذه الأمة الصغيرة الكبيرة المجتهدة المقتصدة، أمة اليونان في مصر، لا في تجارة تحتاج إلى عظيم مهارة، ولا في صناعة تستلزم كبير براعة، لكن في تجارة للهو والطرب.
قال: وكان النسر قد سبقني إليها، فاعترضني في هيئة وزي هو فيها أشبه بسائح أمريكاني، أو إنكليزي: قامة طويلة، لكنها ضئيلة، وعارضان كثيفان، لكن لا يلتقيان، وثياب لا يشتكى منها طول ولا قصر، ولا ضيق ولا سعة، وهو يتشمخ بأنفه ويختال في مشيته، فضحكت حال رؤيته، وقلت بعد تحيته: قد كان لك غنى عن هذا الزي يا مولاي.
قال: ولم ذا؟
قلت: لأن في طباعي النفار من صحبة أهله؛ لا عن حقارة ولا كراهية، ولكن أربأ بنفسي أن أحتقر، وأن أصحب من لا يعدني من البشر.
قال: ومتى احترم القوي الضعيف؟! إنك يا بني تحاول من النفس غير شيمتها، وتكلفها ضد طباعها؛ وأنا ما اتخذت هذا الشعار إلا لعلمي أن فيه السلامة، ومعه الكرامة، في بلد ليس لي بدار إقامة. ثم التفت حوله وسألني: بأي مكان نحن؟
قلت: على الأزبكية يا مولاي، وهي قسم من القاهرة ليس كسائر الأقسام؛ كان وجه القرن الماضي مجر عوالي الحوادث، ومجرى سوابقها؛ أقام به نابليون ومن معه، ولا يزال منزله عليه قائم الجدار، معدودا في جملة الآثار؛ وفيه ألبس محمد علي ثياب الولاية، واتخذ عليه بعد ذلك مسكنا يتردد إليه في تراوحه بين شبرا إيوانه، والقلعة ديوانه، وما زال الأجانب يكثرون على الأزبكية في السكنى، وهي تأخذ من سعودهم وتشاطرهم دنياهم المقبلة، حتى أكرمها فيهم الخديو إسماعيل في زمن اهتمامه بهذه العاصمة واعتنائه بأمر إصلاحها وتحسينها، ففتح فيها الشوارع، وأنشأ فيها الميادين، وآثرها بالأوبرا الخديوية، دار التمثيل الكبرى في البلاد؛ ثم ما زالت حتى أصبحت كما تراها تضارع كثيرا من مشهورات النواحي في الغرب، حركة وتجارة، ورونقا ونضارة، وعمارة ويسارة.
قال: وما هذا السوق القائم، والدولاب الدائر؟ ولمن هذه التجارة الواسعة، وتلك الدور الرفيعة؟ ومن هؤلاء الشامخون بالأنوف فوق سلم النزل، كأنهم الفراعنة في بهو الإمارة وعند رفرف الملك؟
قلت: أبديت لك يا مولاي أن هذه الناحية من القاهرة تكاد تكون للأجانب بأرضها وسمائها؛ فهذا السوق القائم سوقهم، وهذا الدولاب إنما يدور بهم، وهذه التجارة الرابحة لهم، وتلك الدور الرفيعة مساكنهم وعقارهم، وهؤلاء المدلون المختالون هم السياح من الأوروبيين، يأتون مصر رحلة الشتاء في كل عام، فيقضون بها ما شاءوا من أيام، مثل الملوك في مشاتيهم من ممالكهم وبلادهم، بين إجلال الخاصة ومهابة العامة.
استأثر الأجانب بفوائد التجارة، واختصوا بمنافعها، وقبضوا على أزمتها، حتى أصبحت هذه الحوانيت الكبيرة وتلك المخازن المشحونة ولا منصرف عنها لمصري يحيا حياة سهلة، من أقصى الريف إلى أقصى الصعيد؛ فما من بيت في الأرياف أهله على شيء من الثروة إلا ومن الأزبكية زيتهم ودقيقهم، وكأسهم ورحيقهم، وطستهم وإبريقهم؛ وإذا بنى أحدهم بالغ في البنيان، ومثل في القرية الحقيرة الإيوان؛ لكي يقال أتى بما لم يستطعه فلان؛ ثم لا تسل عن الأثاث والرياش، وما يجلب منه من القاهرة لائقا لشاهقة القصور، ضافيا على وسيع الدور، صالحا لجلوس المدير والمأمور؛ حتى ليجد الإنسان في كثير من مدائن الأقاليم وقراها، من هذه المساكن من الطراز الأول، ما لا يجد له مثيلا في ضياع أصحاب الملايين من الفرنساويين، بالرغم مما عهدت القوم عليه في تلك البلاد، خصوصا كبار الزراع منهم من الميل إلى المعيشة السهلة في المكان الطيب، ولكنهم لا يسرفون في البناء إذا بنوا، ويختصرون من الأثاث والرياش إذا اقتنوا، ويعتمدون في تشييد الدور وتزيينها على سلامة الذوق وحسن الاختيار، بحيث ترى المغنى الصغير فتأخذه عيناك على قلة حجمه، كأنه بيت من الشعر أو بيت من الشعر؛ وليس ذلك إلا من حب الاقتصاد الذي لا تقوم حياة الزراع إلا عليه، وقد تدرج الأجانب يا مولاي من الاستئثار بتجارة القطر، ما جل منها وما قل، والانفراد بالصناعة فيه، ما علا منها وما سفل، إلى مزاحمة الوطنيين على تجارات وحرف لم يكن يخطر على بال أنها تخرج من أيديهم يوما؛ ولا أستحي أن أضرب لك مثلا هؤلاء الأطفال من اليونان والأرمن، منتشرين في الشوارع والأندية العمومية، يسابقون فقراء الغلمان من المصريين والبرابرة إلى النعال يمسحونها، والأحذية ينظفونها؛ ثم أرتقي عن هذا المثل الأدنى إلى آخر أعلى، فأبدي لك أنه لا يقام في مصر عظيم احتفال، ولا تحيا فيها بالأفراح ليال، إلا رأيت المحل الأول للأجانب، ووجدت الربح من وراء ذلك لهم؛ فالآنية من «جيس»، والطعام من «فلوران»، والشراب من «ووكر»، والحلوى من «ماتيو»، والغلمان من «الكونتيننتال»، والنور من معامل الكهرباء، والصدر في المهرجان لمن حضر من القوم ولو بغير دعوة، والقدم السابقة إلى المائدة قدمهم، والغناء مناوبة ومطارحة، تخت لهم وتخت لنا، ومغنية منهم ومغن منا، يزهقون صنعة الطاهي ، ويبيرون تجارة الفراش، ويرخصون أسعار المغني، وقد عاشت هذه الحرف الأهلية زمنا طويلا في مأمن من منافسة المنافسين، ومزاحمة المزاحمين، إلى أن قتلها سراة مصر في هذه الأيام، وأصبحنا نخشى أن يتكفل لنا القوم بالمآتم والأتراح، كما دخلوا علينا البيوت في الأعراس والأفراح، والقوم يا مولاي فوق هذه البقعة وغيرها من نواحي القطر، في شعب من حمى كليب عزا ومنعة، تسهر المحاكم المختلطة على حفظ حقوقهم، وتلاحظ عيون الامتيازات كرامتهم، ويشفق القناصل عليهم في المهمات، فكأنهم وراء هذه المعاقل والحصون أسود الغاب في الغاب، لم يكفها تلك القوة وذلك الإقدام، فاستعصمت بالآجام، وفوق هذا وذاك تراهم قد ألقي عليهم للخواص محبة، وملئ العوام منهم مهابة، وصح في الأذهان أن العقل لا يجوزهم، والذكاء لا يحل دونهم، والهمة لا تتعداهم؛ واستقر عند الذين يرجون للنهوض بهذه الأمة من عثرتها، ويطلب منهم أن ينفخوا فيها من كل روح جديد، من أهل الحل والعقد وناس الأحلام والأقلام، أن أوان العمل قد فات فلا يستدرك، وبرهة الأمل قد ولت فلا تعود، وأنه لم يبق للمصريين إلا أن يودعوا أيام الحياة وداعا.
ومن عجيب أمر هذا الفريق العالي في الأمة يا مولاي أنهم متحزبون متفرقون، يعتقدون ذلك في أنفسهم ويقولونه بألسنتهم، ثم ينتدبون لقيادة الأفكار متباغضين متحاسدين متخاذلين، كل له أمل يسعى ليدركه من وراء سكرة الخاصة، وغفلة العامة في هذا البلد الأسيف؛ أولئك هم القواد فيما زعموا، لكن لا تراهم إلا في ظل القصور الشاهقة، ولدى الأبواب العالية، ولا تلقي بهم إلا في مجالس اللغو والغرور والنفاق والرياء، لا يجولون في الصفوف جولة، ولا يعيرون الجنود نظرة؛ وإذا مر أحدهم على جيشه الموهوم، وفيلقه المزعوم، كان في خيلائه وكبريائه كالملك الصغير المتوج، ورث لقب القائد العام فيما ورث من ألقاب المملكة، فتكلف طلعة على جيوش لا تعرف له فضلا، ولا تذكر له بلاء، وإن هتفت بتحيته واصطفت بين المهابة فيه والإعظام.
قال الهدهد: كنت أتكلم والنسر مطرق يصغي لما أقول؛ فلما انتهيت رفع رأسه ثم قال: هذا يا بني هو الاحتلال.
ففهمت عندئذ معنى إشارته في سالف عبارته، وقلت: لكم معشر النسور كيد لا يبور، ونظر بعيد في الأمور.
قال: دع عنك يا بني ما تسميه المحاكم المختلطة، وما تدعوه الامتيازات؛ ودع القناصل وما تزعم لهم من حول وطول، واسحب ذلك على أولئك القواد من أهل العبث وطلبة المظهر الكذب والشهرة الباطلة؛ وهب أن الملك إدوارد وقيصر والملوك الآخرين ملكوا عليكم البحر بالأساطيل، ثم ملكوا عليكم البر بالجيوش زاحفة، أكانوا قادرين على إذلالكم إن كان لكم من أنفسكم عزة، أو تفريق كلمتكم إن كان لها منكم جامع، أو تضييع حقكم إن كان له منكم طالب؛ أم كانوا ضاربين على أيديكم أن لا تتداولوا أشياءكم فيما بينكم، تنشطون الصانع منكم بالإقبال، وتشجعون التاجر بالتهافت على بضاعته. إن علمتم على أهل الصناعات منكم نقصا فتجملوا بنقصهم حتى يزول فتتجملوا بكمالهم؛ فإنكم لا تزالون عراة حتى تلبسوا مما حكتم وخطتم، ولا تزالون حفاة حتى تنعل أيديكم أرجلكم، ولا تزالون مشاة حتى تركبوا فيما صنعتم، ولا تزالون تتوسدون الثرى حتى تسكنوا ما بنيتم؛ وليس هذا الذي ترى يا بني، من ثياب يزهو بها الجماعة، ومواكب يختالون بها، وقصور ينعمون فيها، وما هي من صناعة البلاد في شيء، إلا مقابح ترى على الأمة في مجموعها وإن توهمها بعض الأفراد محاسن؛ إذ جملة ما يقال عنها: أمة عارية، كل أشيائها عارية!
واعلم يا بني أن الاحتلال الذي تستعظم أمره وتقول وجوده حقيقة وأقول وجوده توهم، لا يضيق ذرعا بمن ذكرت من قادة الأفكار، ولا يتأثر بسحبان لو رد إلى الحياة فخطب، ولا بعبد الحميد لو بعث بعد ممات فكتب؛ ولا يتعب بمعارض قوال، ولا يشقى بمعاكس فعال، عشر معشار ما يقيمه ويقعده، ويضايقه ويحرجه، أخذكم بالصناعة والتجارة أخذ الأمم الناهضة الراقية؛ لأن الإنكليز وغيرهم من أمم الحضارة الحاضرة يذهبون من التملك والاستعمار في غير المذهب القديم؛ فلا يدخلون البلاد فاتحين يقبضون نفوس أهلها ويسلبون من ذوي الأملاك أملاكهم ، لكن كما يدخل التجار الأسواق، همهم الاستكثار من الثروة، والاتساع في التجارة، والتقدم على سائر الأمم في هذا السبيل بحق الحكم وفضل الاستعمار؛ فكل بلاد يحكمها الأجنبي في هذا الزمن إنما يحكمها في الحقيقة بذراع مرتفعة من الصناعة، ويد قوية من التجارة، بحيث يصح أن يقال عن عصركم هذا: لو كان رجلا لكان تاجرا.
قلت: أفدت يا مولاي وإن لم تزدني علما بزمني وأشيائه، لكن من أين لك هذه النظرات وأنت غريب في هذا الزمن، أجنب عن أهله، نكرة في هذه الثياب؟
قال النسر وهو يبتسم: ما غرك بشيطان بنتاءور فأنكرت عليه بعد النظرة، واستغربت منه صدق الخطرة، وقد كنا يا بني نمشي في البلاد المحكومة ونخطر بين الأمم المقهورة، فلا نرى إلا معسكرات مشحونة، ولا ننظر من مظاهر الدولة الحاكمة، ودلائل الحكومة القائمة غير الجنود الفاتحة، يحمل الناس كبرياءهم في كل مكان، ويصبرون لاعتدائهم في كل آونة، أما اليوم فليست المعسكرات إلا هذه الحوانيت، وليس الجند إلا هؤلاء التجار؛ فإن قالوا إن الهند مثلا يحكمها سبعون ألفا من جنود الملك إدوارد، فقل إنما ناصيتها بيد سبعة من ملوك التجارة في لندره.
ولقد أتى لكم معشر المصريين أن تؤمنوا فيمن آمن بهذه الآية، وتعتقدوا أن العز في هذا الزمن قبة لا تضرب على قوم حتى يمدوا لها الطنبين: الصناعة والتجارة، ويرفعوا لها عمودا من الهمة والإقدام.
قلت: كل ذلك قيل للأمة يا مولاي، ودعيت إليه بألسنة قائلة، وأصوات مرتفعة، ولكنها لم تر فيه رأيا، ولم تدبر لها أمرا حتى الآن؛ على أن ذلك لا يثني مولاي عن الاشتراك مع الناصحين في مقالة يقولها ربما نجحت في رجل واحد ممن تصل إليهم، فتكون قد غنمت أجرا، وبلغت عذرا.
قال: لا رأي لي يا بني حتى أرى، ولا حكم لي حتى أنظر وأخبر، وستكون لي معك خطبة وداع حافلة بالنصائح والعظات.
قال الهدهد: ثم تثاءب النسر كعادته، وقال كلمته المعهودة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين. فسألته: وأين الملتقى غدا يا مولاي؟
فأشار إلى الكونتيننتال وقال: في هذا النزل.
المحادثة الخامسة عشرة
قال الهدهد: لما كان اليوم التالي أتيت نزل الكونتيننتال فجلست فوق ذلك البهو العظيم، أرقب طلعة النسر من بين صفوف المارة؛ وكان السياح قد خرجوا إليه من غرفهم، فجلسوا كل جماعة في ناحية، يستمتعون بالشتاء تحت سماء القاهرة، وينظرون الحديقة وهي تتحلى بذهب الأصيل، وتتجلى بالمنظر الجميل؛ وكان يخالطهم هناك نفر من شبان أبناء الكبراء في العاصمة، تدل عليهم طرابيشهم، وما سواها من الأشياء فهم والقوم فيه سواء، وما هو إلا أن اطمأن بي المجلس حتى تراءى النسر يصعد السلم مبديا عزة شماء، ومشيرا بأنفه نحو السماء، كأنه روزفلت يستعرض في البحر، أو غليوم يستعرض في البر، أو هو المتنبي في هذا البيت من الشعر:
تغرب لا مستعظما غير نفسه
ولا قابلا إلا لخالقه حكما
فلما لمحني أقبل نحوي بتهلل، وأنا أضحك من هيئته، وأستعظم كيد شيطانه؛ فقدمت له كرسيا، فجلس جلسة استكبار واستخفاف، كأن لم يقدم على أحد، فازددت ضحكا من سيرته وقلت: هلا تواضع الحكيم، وتأدب الرجل العليم!
قال: وهلا تلطفت في الخطاب، فما كنت أستوجب هذا العتاب. انظر إلى القوم، هل جلست إلا كما يجلسون، أو فعلت غير ما يفعلون؟
قلت: صدقت يا مولاي، ولكن القوم في موقف احتقار لما حولهم، ومن احتقر استهتر؛ فهم لا يعلمون من أمر هذه الأمة إلا أنها أشبه شيء بهؤلاء الحمارة.
قال: إذن فما عمل هؤلاء الشبان، وهم فيما أظن من المصريين؟
قلت: هؤلاء أبناء كبراء القطر يا مولاي، صار لهم عادة في هذه الأيام أن يتنافسوا في معرفة السياح، ويتهافتوا على صحبتهم، ويستبقوا مرضاتهم!
قال: فما بالهم لا يشرفون أقداركم عند أصحابهم؟
قلت: وكيف وهم إنما يتعرفون إليهم بالتبرؤ منا، ثم لا يرونهم من أشيائنا إلا ما يغرهم بهذه الأمة ويخرجهم من وقارها؛ فإذا كان النهار أنشئوا لهم النزهة حوالي الأهرام يوما، وعلى النيل يوما، من مثل ما اعتادوا في بلادهم، وألفوا في ديارهم، من مركب ومأكل، ولهو وقصف؛ وإذا كان الليل دلوهم على عورة العاصمة، وخرجوا بهم إلى كل مكان، يصان عن ذكره اللسان، ولو كانوا على شيء من الأدب أو قليل من العقل لوجدوا في هذا البلد القديم العظيم، من محاسن الآداب، وغرر المناقب، وكرائم الأشياء، ونفائس المآثر، وكثيرا من الحياة الشرقية تجلى بها في أحسن صورها وأجمل معانيها، مما تسر السياح رؤيته، وتهمهم معرفته، وتنفى به التهمة عن أدب المصريين، ويحمل هؤلاء الأجانب على العدول عن البغض والحقارة، إلى الحب والكرامة.
انظر يا مولاي إلى هذه القبعة بين تلك الطرابيش؛ هذا شاب من نوابغ الفرنساويين في الأدب، قدم مصر في هذا العام سائحا، وهو يراسل الصحف السيارة في بلاده، وينشئ لقومه الروايات التي لا تفرغ الملاعب من تمثيلها، عرفني به أحد هؤلاء الشبان عفوا في هذا النزل، فجلست معه برهة، ثم تركته ولقيت صاحبي بعد ذلك فقلت له: ألا تجمع هذا الشاب الفرنساوي بأبيك الباشا في معاهد عزه ويساره، ومجالس جلاله ووقاره؛ فإنه أحوج إلى الوقوف على شيء من مظاهر الحياة الشرقية، منه إلى إنكليزيتك وفرنساويتك وأتوموبيلك؛ فاستضحك ثم لم يزد في الجواب على أن قال: وماذا في أبي مما يروق أو يسر؟! أتريد أن تضحك الإفرنج منا؟! مع أن الباشا المشار إليه ممن امتد بهم الزمن في خدمة هذا الملك، ومعاشرة كبار الموظفين من الأجانب، ومخالطة السفراء سفيرا بعد سفير؛ وبيته في مصر رفيع العماد، يصلح ليقصده الملوك في جملة القصاد.
قال الهدهد: فما كدت أستتم حتى نهض النسر مغضبا، ثم قال: هذا يا بني هو الاحتلال، فاخرج بنا من هذا المكان؛ فللضر أهون منظرا عندي من هؤلاء الشبان.
فبرحنا النزل على هذه الصورة، وجعلنا نتمشى حتى مررنا بتجارة واسعة على الأزبكية لمصري من ذوي اليسار، عظيم القدر بين التجار، فدللت النسر عليها، وحدثته حديث صاحبها، فتهلل واهتز، ورغب في الدخول فدخلنا؛ وكان رب هذا البيت التجاري العظيم جالسا في ناحية، لا يلقي بالا لمن دخل، ولا يهمه من خرج؛ اتكالا على من معه من ذويه وغلمانه ؛ فحولت نظر النسر إليه، فغضب غضبة فرعونية وقال: متى جلس التاجر لأهل الرغبة في بضاعته جلوس الملك والحاشية قيام؟
قلت: لعل له على هؤلاء الشبان اتكالا يا مولاي.
قال: بل هو يدعوهم بهذا الربوض إلى الكسل، ويعديهم منه الخمول، ألا ترى المحل على سعة أطرافه، وكثرة مشتملاته، خلوا من الحركة العظيمة، عطلا من الحياة الكبيرة؟
قلت: لا أزال أمهد عذرا للرجل يا مولاي؛ فقد كان محله صغيرا فكبره، وكان ماله قليلا فكثره، وكان ذكره خاملا فأظهره، ثم أقصر دون التناهي؛ وهكذا تعود المصريون من دهرهم: يكتفي أحدهم بسبب من الغنى عن سائر الأسباب، وتهيئ السعادة له دارا فيقف دون الباب؛ وليس ما ترى في صاحبنا من الانقباض والانكماش والتثاقل عن إظهار تجارته، وإدارة هذا المحل العظيم حق إدارته، إلا دلائل الإقصار، وعلامات الاستغناء؛ وتلك خلة يشاركه فيها سائر الموفقين السعداء من المصريين في الزمن الحاضر.
قال: بئست الخلة، ولا بد لي أن أتقدم إلى الرجل ببعض النصح والإرشاد في هذا ومثله من شئون عمله.
قلت: وأين تعلمت التجارة يا مولاي حتى تعلمها رجالها؟
قال: التاجر يا بني تلميذ في محله، كل الواردين أساتذته، تعلمه المرأة البلهاء إذا تقدمت إليه في شراء إبرة، ويؤدبه الطفل الصغير إذا تعلق به في طلب لعبة؛ فكيف لا يرشده الرجال وهم في شغل مع التجار بالليل والنهار، يرون من أحوالهم وسيرتهم في محالهم ما لا يرى التاجر من أخيه، ولو كان جاره الذي يليه.
قلت: إن كان لا بد يا مولاي، فهذا الشاب المتوقد ذكاء، المتدفق حياة، الممتلئ من حب التجارة، أولى بغالي نصحك، وأحق بثمين إرشادك؛ لأنه من جهة في أول الشباب، وإنما يستثمر غرس التعليم في هذا العمر النضير، ومن جهة أخرى هو مخلوق لزمن خلق هذا الشيخ لما قبله.
قال: صدقت؛ فتوجه بي إليه، وأعد ما أقوله لك بلسان الشياطين عليه.
قال الهدهد: فقصدنا قصد الفتى، وكان جالسا فنهض نشطا ينتظر الإشارة، فقال له النسر بلساني وهو هش به بش: اعلم يا بني أن التاجر الحق يدخل الحانوت ليباشر عمله، فلا يزال فيه على قدم حتى يخرج منه ليرتدي لباس الليل؛ لأنه في هذا الموقف بين يدي الرازق، وهو يحب المتأدبين، وينفخ من روحه في الناشطين، فإن كان المشتغل بالتجارة صاحبها، وجده المعامل حاضرا، ووجده العامل ساهرا، ووجد نفسه صابرا على العمل قادرا؛ وإن كان من الأجراء فيها بلغ عند رئيسه منزلة في الحب والثقة، وتحبب إلى الناس بأدبه، وتقرب إليهم بنشاطه، فإذا وفق يوما ما لإنشاء محل وتأسيس تجارة مال الناس إليه، وأقبلوا عليه، وكانت سيرته المعلومة عندهم، وأخلاقه المعروفة لديهم، خير ما يعلن به أمره، مهما كثرت أساليب الإعلان في هذا الزمان.
قال الفتى: أعتذر إليك يا سيدي، وأشكرك على هذه النصيحة. والآن ماذا تأمر؟
قال النسر: أريد دواة، ولا أكتمك أنني كثير الكتابة، فلا أصبر على دواة واحدة.
فجاءه الفتى بها غالية، من صنعة عالية، فقلبها ثم ردها إليه وتبسم فقال: لو استوصفتني يا بني كيف أريدها، وبأي ثمن، لكفيت نفسك تعب الرجوع بها من حيث جئت، وإنه لأجلب لراحة المشتري أن يكثر عليه التاجر في الأسئلة حال الطلب من أن يملأ الحانوت بين يديه بضاعة، ويضيع عليه جانبا عظيما من زمنه في بحث وتنقيب، وتأمل وتقليب؛ على أنني عرفتك بخفي الإشارة ماذا أريد، إذ قلت لك إني كثير الكتابة لا أصبر على دواة واحدة؛ ومن كان كذلك لا يقتني هذه الأداة من ذهب ولا فضة، بل ربما استكثرها لنفسه من الخشب والنحاس.
قال الفتى: أشكرك يا سيدي على هذه النصيحة بعد النصيحة. ثم إنه عرض على الأستاذ دواة كبيرة الحجم قليلة الثمن، فرغب عنها؛ فجاءه بأخرى أقل حجما وثمنا، فقلبها ثم دفعها؛ فأتاه بثالثة فردها كذلك، ثم ما زال حتى بدا عليه الملل وظهر عليه الغضب، وأحس الأستاذ ذلك منه، فقال يخاطبه: لعلك من الملائكة يا بني؛ فقد صبرت لنصيحتين، وأراك على استعداد لقبول الثالثة بالرغم مما بدا عليك من دلائل الضجر؛ وقل من صبر من الناس لنصيحة واحدة.
فاعلم يا بني أن بيوت التجارة لا تعمر ولا يرفع لها عماد حتى تكون أوسع من صدر الحليم، وأرحب من فناء الكريم، تخف بالثقلاء، ويدارى فيها السفهاء، ويعالج البخلاء، ويصبر للأغبياء، ويتهافت على الغلظاء، ويحمل فيها الكبرياء؛ والتاجر يا بني قد يساوم ساعة في الخرزة ثم لا يبيع، وقد لا يساوم لحظة في درة يبيعها؛ وفي هذه الحالة يكون قد خسر في الأولى أضعاف ما ربح في الثانية؛ إذ جملة ما يقال عنه: ليس في حانوته خرزة تشترى! ثم يناقش هو نفسه فيقول في خاصتها: عجزت عن بيع خرزة.
ألذ الجدال يا بني وأطيب المناقشة وأشهى المغالطة، ما كان بين البائع والشاري؛ لأنهما في الحقيقة خداع تجاه خداع، يصدم الحرص بينهما بالحرص، ويحارب الطمع بالطمع، ويقاتل الغش بالغش، ولا ينفع التاجر في هذا الموقف ولا يظهره على قرنه إلا الصبر؛ فلعلك بعد هذه النصيحة من التجار الصابرين!
قال: سأصبر يا مولاي حتى تراني أرضي المريض والأفين، والشحيح الضنين.
قال: بورك فيك يا بني؛ والآن عندي نصائح أخر ربما نفعتك في عملك هذا، فهل لك فيها؟
قال الفتى: هات يا مولاي، فإني مستمع إن شاء الله متبع.
قال: التجارة يا بني آية عصركم هذا الكبرى، أعلى الممالك ما قام عليها، وأوسع الدول ما اتسع منها، وما من ملك ولا أمير ولا حاكم ولا وزير عرف الغنى في هذا الزمن إلا عرفه من طريق التجارة؛ فهي صيد يطلبه الجميع، غير أن الشباك مختلفات.
أغنياء هذا العالم يتاجرون بمالهم في السر، وأنتم معاشر العمال تتاجرون بعملكم في الجهر؛ أنت تعمل لمستأجرك هذا، وهو يعمل لأناس هم أوسع منه تجارة، وهؤلاء يعملون لبيوت التجارة من الطراز الأول في العالم، وتلك تعمل لأصحاب الملايين من بيوت الملك والإمارة وأسر المجد والشرف وجماعة الساسة والقواد وسائر عظماء الرجال، سواء اشتهر عنهم أنهم من أصحاب الأموال، أو خفي أمرهم على الناس. إذا علمت ذلك يا بني عرفت نفسك قدرها؛ إذ يرسخ في اعتقادك أن الملك والتاجر ربما كانا شريكين في تجارة ولا يعلم أحدهما بالآخر، هذا يؤسس الشركة بماله وسلطانه في الخفاء، وهذا يقيمها بعمله وأمانته في الجهر.
ومتى احترم الإنسان عمله تولد عن هذا الاحترام حب العمل، وهو سر النجاح؛ فأحبب يا بني التجارة تجد عناءها مع الحب راحة، وتلف صعبها معه سهلا؛ واجعل الأمانة فيها رأس مالك، ولو كان لك شم الجبال من رءوس الأموال؛ لأن دولاب التجارة يدور بالمال مرة، ويدور بالأمانة والذمة ألف مرة، وكن يا بني في هذا المحل كأنه لك في اعتقاد، وكأنك تمر به مرا في اعتقاد آخر، وبعبارة أصرح: كن كثير العمل، كبير الأمل، لا تقف في الغنى عند نهاية، ولا تتمهل في المجد عند غاية.
واعلم أن كل ما يفيض عن قدر الإنسان وشخصه من سعة الثروة ورفعة الذكر إنما يفيض على وطنه وقومه؛ وإن طالبتني بمثال حاضر فهذا «كارنجي» الأمريكي، جمع بالأمس سفن التجارة في لجج الغرب وبحار الشرق تحت راية أمريكا التجارية؛ مع أن المجد والثراء من أن يستزاد هذا الرجل براء.
وإذا ذكر التوفيق يا بني أو خطرت السعادة على بالك، أو حدثوك عن قيام الجد ويمن الأمر وإقبال الدنيا، فقل: ذلك فضل السماء تؤتيه من تشاء، وكن كربان الباخرة: ملأها فحما، واستوثق من استقامة إبرتها، وسلامة آلاتها، وكمال أدواتها، ثم خرج بها إلى عالم الماء غير آخذ موثقا على الرياح والأنواء، ولا في يده صك بالوصول من القضاء.
قال الهدهد: وبينما الأستاذ ينثر من حلى نصائحه ودرر وصاياه على سمع الغلام، وهو يصغي لما يقول ويفهمه فهم ذكي في طباعه حب الاستفادة، انسلخ رب التجارة من كرسيه ثم تقدم نحونا وسأل الغلام: من هذا الذي شغلك ساعة زمان، وماذا يريد؟
قال: يريد دواة ولا يكاد يجد طلبته.
فاستحوذ على التاجر الغضب وقال يعنف الفتى: أمن أجل دواة تؤخر شغلك ساعة، وتنقطع لهذين دون الجماعة؟
فعبس الأستاذ وتولى، وهمس في أذني بأن قال: هذا يا بني هو الاحتلال!
ثم خرجنا فاندفعنا نمشي حتى مررنا بمجلد كتب على الأزبكية أيضا، فاستوقف النسر حقارة حانوته ومنظره الزري، فسألني: لمن الحانوت؟
قلت: لرجل منا يا مولاي.
قال: ما يصنع فيها؟
قلت: تجليد الكتب وتغليف «الرسائل» لكي تحفظ زمنا طويلا، وتكون للمكاتب زينة.
قال: هل لك في الدخول؟
قلت: انظر ماذا تأمر يا مولاي؟
قال: انظر إلى الشمس كيف مالت، وإلى دولة النهار كيف زالت؟ ثم تمطى كعادته وتثاءب، وقال كلمته المألوفة: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، فإذا كان الغد فالقني في أصيله عند باب هذا الحانوت. •••
قال الهدهد: ثم لم أر لذلك الشبح أثرا، فمضيت في سبيلي وأنا أذكر التاجر والغلام، وروحانية ذلك الكلام، وأشتهي على العناية أن تستخر لعوام هذه الأمة من خواصها مرشدين، وتبعث لجهلائها المصابيح من العلماء الهادين، وأسأل الله أن يخرج عباده من الظلمات إلى النور. (تم)
Page inconnue