وكل شيء يدل على أن الله - عز وجل - قد اختار نبيه لجواره، وما زال الأعراب مسلمين لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد، رأوا سلطانا جديدا قد ظهر في الأرض وأظل المدينة ومكة والطائف، وطالب الناس بأن يدينوا دينه، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويؤدوا ما يفرض عليهم من الواجبات.
ورأوا هذا السلطان يعلن الحرب على كل عربي في الجزيرة يستمسك بشركه ولا يذعن لهذا الدين الجديد، ورأوه يحول بين المشركين وبين المسجد الحرام بمكة، ويعلن إليهم قول الله - عز وجل - في سورة براءة:
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا .
ورأوا لهذا السلطان من القوة والبأس - ورأوا فيه من السعة والإسماح - ما رهبهم ورغبهم؛ فأعلنوا إذعانهم لهذا الدين الجديد طائعين أو كارهين.
ولو قد بقي النبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم أعواما كثيرة أو قليلة لكان من الممكن أن تذعن لهذا الدين قلوبهم كما أذعنت له ألسنتهم، ولكن الله آثر لنبيه رحمته ورضوانه؛ ففارق هذه الدنيا راضيا مرضيا، ورأى المسلمون غير المؤمنين من العرب أنه رجل كغيره من الرجال يعرض له الموت كما يعرض لغيره من الناس، وأن الذي نهض بالأمر من بعده ليس إلا رجلا يعرفونه، ويقدرون أنه أجدر أن يعرض الموت له كما عرض للنبي الذي أنزل عليه القرآن وأتيح له ما أتيح من الظهور على كل من خالفه أو ناوأه.
هنالك تكشفت قلوبهم عن دخائلها، وأظهروا أنهم قد أسلموا لسلطان النبي دون أن تؤمن به قلوبهم، فأظهروا ما أظهروا من الردة، وجعلوا يساومون في الزكاة، وتقول وفودهم لأبي بكر: نقيم الصلاة ولا نؤدي الزكاة.
كان المال أحب إليهم من الدين، وكانت نفوسهم أكرم عليهم من أن يؤدوا ضريبة إلى رجل لا يوحى إليه ولا يأتيه خبر السماء.
بل إن ظاهرة أخرى دلت على أن فريقا من العرب لم ينتظروا بجحودهم وردتهم فراق النبي
Page inconnue