وانتبه حافظ إلى صديقه تماما. - ماذا؟ - نويت أن أتزوج نبوية. - نبوية بنت حسنين العكر؟ - هي نعم بنت حسنين العكر. - وأبوها؟ - ماله أبوها؟ - مجرم! - تخافه الجهة كلها. - ولكنه مجرم! - إنه رجل، ليس مثله بين الرجال. - إنه مجرم. - اذكر لي اسما واحدا لا يخاف حسنين العكر، حتى فريد باشا يخافه. - الإجرام ليس رجولة. - فما الرجولة؟ - ألا تخاف أن يصبح أولادك مجرمين؟ - يا ليت. - ستندم. - لا تخف، فليكونوا هم كجدهم، ولا شأن لك، إنني حينئذ سأكون أسعد أب في الدنيا. - وإذا أغضبت نبوية، ألا تخاف أباها؟ - ولماذا أغضبها؟ - بين الزوج والزوجة لا يخلو الأمر من الغضب. - لن أغضبها. - أخاف عليك من هذا الزواج! - يا أخي لا تخف، قل لي مبروك.
وقبل أن يقول حافظ شيئا رأى في أفق الطريق القريب جمعا من الفتيات يقترب إليه هو وصديقه فظل نظره متعلقا بالطريق، في حين راح عبد الصادق يهزه. - مالك، مالك ساكتا، ألا تقول لي مبروك؟ - هه، آه، نعم صحيح، مبروك.
وران الصمت بين الصاحبين، حتى اقترب سرب الفتيات وكانت فاطمة بينهن، أقبلن إلى الترعة يملأن منها الجرار، وكانت الجماعة قريبة من حيث جلس الصديقان وصاح حافظ: ألم تعرف يا عبد الصادق؟ - مالك تصيح هكذا؟ أرأيتني قد فقدت السمع؟ - أنا مسافر غدا إلى المدينة وسأبقى هناك. - عجيبة! - سأذهب لأتعلم في المدرسة. - ولماذا لم تقل لي هذا الخبر المهم من ساعة أن رأيتك؟ وعلى كل حال لماذا تصيح؟ - لن أنساك أبدا يا عبد الصادق. - لن تنساني؟ - لا بد أن تأتي إلى هذه الصفصافة دائما يا عبد الصادق. - أنا؟! حد الله بيني وبين الصفصافة. - إياك أن تترك يوما دون أن تأتي إلى الصفصافة، أنت تعرف كم هي غالية عندي يا عبد الصادق. - وأنا ما لي؟!
ورأى حافظ إجابة كلامه في عيني فاطمة وفي ابتسامتها، فراح يصيح: أحبك.
صرخ عبد الصادق: ماذا؟ - أحبك يا عبد الصادق. - أحبتك العافية. - أنت حبيب العمر يا ... عبد الصادق. - حفظت، والله أخ، أخ والله يا سي حافظ. - أريد أن أقبلك يا عبد الصادق.
واحمر وجه فاطمة وقال عبد الصادق: الله يبقيك، ولكن يعني، لماذا؟ - لأنك ستتزوج، ادع لي أنا أيضا أن أتزوج يا عبد الصادق، تعال أقبلك. - إنك منذ لحظة لم تكن تريد أن تقول لي مبروك، مبروك لم أنلها منك إلا بطلوع الروح، والآن تريد أن تقبلني، ربنا يجعل العواقب سليمة.
وكانت فاطمة قد ملأت الجرة بعد أن نظفتها مرات كثيرة حتى ضاقت بها زميلاتها، وأرادت فاطمة أن تنصرف، فألقت إليه نظرة فيها فهم وفيها ضحكة عميقة فرحانة متألقة، وقال حافظ صائحا ما يزال: مع السلامة يا عبد الصادق. - ماذا؟ وهل أنا المسافر أو أنت؟ - أقصد أفوتك بالعافية، ولا تنس أن تزور الصفصافة. - والله لن أزورها أبدا. - كل يوم يا عبد الصادق، كل يوم، إياك أن تنسى. - ولا يوم وحياتك، إني أجيء معك لأجل خاطرك فقط، أما أن أجيء وحدي فهذا هو المستحيل، وعلى كل أنا سأكون مشغولا بالزواج في الأيام الآتية، الله، معنى هذا أنك لن تحضر فرحي، هه ألن تحضر فرحي؟
وكانت فاطمة قد انصرفت وكانت عينا حافظ متعلقتين بالبقية الباقية البادية من خيالها، وكانت روحه جميعها ترافقها، وكانت أذناه منصرفتين عن عبد الصادق كل الانصراف، لم يعد يسمع شيئا، لا شيء، لا شيء أبدا.
وسافر في غده شابا أسمر اللون، قوي الملامح، بارز الجبهة عميق النظر، أسود الشعر فاحمه غزير الحاجبين، رقيق الشفتين، مفتول الذراعين، ذا مشية ثابتة متطلعة إلى المستقبل في تفاؤل وإصرار، لا هو بالطويل البالغ الطول ولا هو بالقصير الذي تأخذه العين، شابا في مطالع الشباب يبدأ تعليمه في المدارس، فهو متفتح الذهن بما تعلمه من قرآن، متفتح القلب بحبه هذا الذي ينتظره في القرية، قصد إلى المدرسة في هدوء مطمئن ووجد رفاقه أو الغالبية العظمى من رفاقه في مثل سنه إن لم يزيدوا في أعمارهم عليه، وواصل تعليمه حتى نال شهادة الكفاءة وعاد إلى القرية، وجد فايز بك رفيق ملعبه قد تزوج من قريبة له وأنجبا ابنهما طلعت ووجد صديقه عبد الصادق قد تزوج من نبوية فولدت له عتريس، فلم يجد بأسا أن يقصد إلى أبيه: آبا أريد أن أتزوج. - اخترت أم أختار لك؟ - فاطمة بنت الحاج قاسم الطيب. - ونعم ما اخترت يا بني.
وتزوجا، ولم يمكث بالقرية، وإنما اختار أن يعمل موظفا بالقاهرة، لكم نعما بهذه الأيام التي قضياها بالقاهرة، وفيها أنعم الله عليهما بابنتهما الوحيدة فؤادة، فتمثلت الحياة جميعها لهما في هذه الطفلة الصغيرة يهبان لها كل ما يستطيع الأب والأم أن يهبا، واطمأنت بهما الحياة سنوات، سنوات قليلة ثم فجعه الدهر بموت أبيه، نظر إلى الحياة يومذاك فوجد نفسه يقف وحيدا في لقاء الدهر، ترك وظيفته وعاد إلى القرية.
Page inconnue