يا خالد الترك جدد خالد العرب
وإنك لمؤمن حقا بأن هذه القصائد التركية هي أقوى قصائده عن الحوادث وأصدقها حسا وعاطفة.
ولعل مرجع ذلك أن قد اجتمعت في الأتراك عوامل كثيرة كان لشوقي اتصال بها؛ فكانت لذلك تهزه أكثر مما تهز سواه؛ فالترك - فوق أنهم كانوا مقر الخلافة وقبلة المسلمين الزمنية، وأصحاب السيادة على مصر سيادة يشلها الاحتلال الإنجليزي - يجري من دمهم في عروق الشاعر الكبير، ومنهم أصحاب عرش مصر الذين ببابهم ولد شوقي، وفي حماهم شب ونشأ.
وقد بلغ من حب شوقي للترك أن كان يعتبرهم مجموعة فضائل لا تشوبها نقيصة. (5) على أن شوقي - وإن كان شاعر مصر وشاعر العرب وشاعر المسلمين، وكان فيه الازدواج بين حب الحياة ومتاعها والإيمان ونعيمه - له ذاتيته التي لا تخفى؛ فهو شاعر الحكمة العامة، وهو شاعر اللغة العربية السليمة. وإنك لتعجب أكثر الأحيان حين ترى عنوان قصيدة من قصائده ثم لا تجد في القصيدة غير أبيات معدودة تدخل في موضوع العنوان، بينا سائرها حكمة أو غزل أو وصف، أو ما شاء لشوقي هواه. وما أحسب شاعرا بالغ في ذلك ما بالغ شوقي، ولست أضرب لك مثلا لذلك مما في هذا الجزء الأول من الديوان إلا بقصائد ثلاث: لجان التموين، والانقلاب العثماني، وبين الحجاب والسفور. هذا وإنك واجد في غير هذه القصائد الثلاث ما يظهر لك منه ما ألقينا به إليك؛ فشيطان شوقي أشد حرصا على متاعه بالشعر للشعر منه بموضوع خاص. أما القصائد التي يملك موضوعها أبياتها جميعا فهي القصائد التي ملك موضوعها شوقي فأنساه نفسه بما كان له في هذا الموضوع من لذة ومتاع، وما أفاضه على شاعريته من وحي وإلهام.
وحكمة شوقي، وما يصدر عنه من وصف وغزل، وما يميز شعره جميعا، يبدو كأنه شرقي عربي لا يتأثر بالحياة الغربية إلا بمقدار. وهذا طبيعي ما دام شوقي شاعر العرب والمسلمين، وما دام يجد في الحضارة الشرقية القديمة ما يغنيه عن استعارة لبوس المدنية الغربية إلا بالمقدار الذي تحتاج إليه أمم الشرق في حياتها الحاضرة لسيرها في سبيل المنافسة العامة. ولقد ترى شوقي يغلو في شرقيته وعربيته أحيانا، ولقد تراه يتعمد ذلك في لفظه ومعناه؛ وسبب ذلك هو ما يراه من ضرورة مقاومة النزعة القائمة بنفوس كثيرة تصبو إلى نسيان ما خلف السلف من تراث، والأخذ بكل ما يلمع به الحاضر من وراء الغرب.
وقد يكون غلو شوقي أكثر وضوحا في جانب اللغة منه في جانب المعاني؛ فهو بمعانيه وصوره وخيالاته يحيط مما في الغرب بكل ما يسيغه الطبع الشرقي وترضاه الحضارة الشرقية، أما لغته فتعتمد على بعث القديم من الألفاظ التي نسيها الناس، وصاروا لا يحبونها لأنهم لا يعرفونها. ولعل سر ذلك عند شوقي أن البعث وسيلة من وسائل التجديد، بل لقد يكون البعث آكد وسائل التجديد؛ نتيجة ما يوجد من أرباب اللغة ممن يفيضون على الألفاظ القديمة روحا تكفل حياتها. والبعث له إلى جانب ذلك من المزايا أنه يصل ما بين مدنية دارسة ومدنية وليدة، يجب أن تتصل بها اتصال كل خلف بسلفه.
ومن ذا ترى من أرباب اللغة قديرا قدرة شوقي على أن يبعث في الألفاظ القديمة روحا تكفل حياتها في الحاضر، وتفيض عليها من ثوب الشعر ما يجعلها تتسع لما لم تكن تتسع له من قبل من المعاني والأخيلة والصور؟ إن اليونانية ما تزال موضع دراسة العلماء واللغويين؛ لأن هومير كتب بها إلياذته، واللاتينية ما تزال حياتها كمينة وإن تدثرت بحجب الماضي أن كتب بها فرجيل شعره، واللغة العربية هي حتى اليوم لغة التفاهم بين سبعين مليونا من أهل هذا الشرق العربي، وهي حية وستبقى أبدا حية، ولكن كمال حياتها يحتاج إلى أن يبعث الله لها أمثال شوقي؛ ليزيدوا تلك الحياة قوة وروعة وجمالا.
وما أنا بحاجة إلى أن أدل على هذه القوة وتلك الروعة وذلك الجمال؛ فكل أديب أو متأدب يعرف منها ما أعرف، وها هي ذي مجلوة في هذا الديوان بكل ما لشوقي على اللغة والأدب والشعر من سلطان.
كبار الحوادث في وادي النيل1
همت الفلك واحتواها الماء
Page inconnue