وتراه في انتقاله من الفخر إلى الأسف إلى الاستفزاز يسير مع الحوادث متدفقا، مندفعا فوق موج الماضي، آتيا من لا نهايات القدم، كأنما هو قيثارة آلهة ذلك الزمان البعيد، يدفع إليها كل جيل نسائمه، فتتغنى وتشدو بأهازيج النصر تارة، وبترانيم المسرة طورا، وبشجو الألم أحيانا.
1
وللقدم وللماضي على نفس الشاعر أثر يذهب إلى أعماقها، وليس لمثل الآثار المصرية من القدم نصيب؛ فهذه الأهرام ما تزال تحتوي من الطلاسم ما يحار العقل في حله، وهذا أبو الهول في مجثمه بين رمال الصحراء أكثر ثباتا من الليل والنهار ومن الشمس والقمر، وهو في روعة صمته ينطق كل خط خطته الدهور على صحائف جثمانه، بما حوته من عبر أيسرها دوام انهيار الأشياء لدوام تجددها. وهذا الملك الشاب «توت عنخ آمون» نبش قبره النابشون باسم العلم، فإذا فيه من طرف الفن ما يزري بكل فن وعلم. هذه وسواها من الآثار تثير في النفس - إلى جانب صورتها الظاهرة، وما يدل عليه إبداع صنعها ودقة فنها من حضارة كملت لها كل أنواع الحضارة - صورة الماضي الذاهب في القدم إلى أغوار الأزل، وتثير من شاعرية شوقي معاني بالغة في الموعظة والعبرة مبلغها من السمو والعظمة.
وأنت إذ تقرأ قصائده «على سفح الأهرام»، و«أبو الهول»، و«توت عنخ آمون»، يهزك الشعور بصورة هذا الماضي في قداستها ومهابتها، وتمتلكك نفس الشاعر فترتفع بك من مستوى الحياة الدنيا إلى سموات الخلد؛ ذلك بأن شوقي يهديك المعنى الذي كانت تلتمسه نفسك فلا تقع عليه، ويرسم أمامك - بوضوح وقوة وسمو خيال ونبل عاطفة - كل ما ينبض به قلبك ويهتز له فؤادك.
خلع القدم على هذه الآثار معنى البقاء والثبات؛ لذلك كان ما يفيض من الوحي إلى روح شاعر الشرق ثابتا باقيا، لا تزعزعه الحوادث، ولا تعصف به الغير، فأما ما سوى ذلك من شئون هذه العصور الحديثة فشوقي فيه هو كلمة الأمة. وفي هذه العصور الحديثة تغير قدر الناس للحوادث إصغارا وإكبارا، بمبلغ رجائهم فيها، أو خشيتهم آثارها. وقد تعجب إذ ترى قصيدتين من أبدع قصائد شوقي وأحراها بالخلود متجاورتين في هذا الجزء الأول من الديوان؛ إحداهما في وداع لورد كرومر، ومطلعها:
أيامكم أم عهد إسماعيلا
أم أنت فرعون يسوس النيلا
والثانية في ارتقاء السلطان حسين كامل على أريكة مصر، ومطلعها:
الملك فيكم آل إسماعيلا
لا زال بيتكم يظل النيلا
Page inconnue