إنه بفضل هذه النظرة الدينية الصوفية الفنية التي ينظر بها الشرقي إلى الأشياء، يستطيع إدراك الوحدة التي تشتمل الكون على اختلاف ظواهره وتعدد كائناته، فلئن كانت الحواس والعقل معا من شأنها أن تجزئ الأشياء وتجرد العناصر بحيث تجعل من كل عنصر حقيقة قائمة وحدها، فإن الحدس عند من يستطيعه (وأعني بكلمة «الحدس» معناها الفلسفي، وهو اللقانة أو البصيرة) هو الوسيلة إلى إدراك الوحدة في الشيء الواحد، أو في الكون الواحد حسبما تكون الحال؛ فهذه الزهرة التي أمامي الآن لون وشكل وأريج وعود وأوراق، لكنها مع هذه التجزئة زهرة واحدة ذات كيان واحد وروح واحد، وكذلك قل في الكون كله؛ فهذه أنجم لا يحصيها العد، تقع على أبعاد لا يحصيها الحساب، وهذه ألوف الألوف من الكائنات على جرم واحد، هو الأرض التي نعيش عليها، فإن أسلمت نفسك إلى حواسك وعقلك، قلت عن الكثير إنه كثير، لكن أصحاب النظرة الحدسية لا يسلمون أنفسهم إلى حواسهم وعقولهم وحدها، بل يلجئون إلى تلك البصيرة النافذة عندهم، فيرون بها وراء الكثرة وحدة واحدة؛ ومثل هذه الوحدانية في إدراك الإنسان للكون هو الطابع المميز لنظرة الشرقي بصفة عامة، وهو نفسه الطابع المميز لنظرة الفنان، ولست بحاجة إلى القول بأن من أهل الغرب فلاسفة كثيرين - منهم «برجسون» مثلا - قد دعوا إلى هذه النظرة الحدسية النافذة إلى جوهر الحقيقة، لكننا هنا نطلق الأحكام على وجه الإجمال الغالب.
وإذا أراد القارئ أن يفهم المقصود بتوحيد الكثرة في كون واحد حين ينظر إليها بالحدس لا بالعقل، فلينظر إلى ذات نفسه من باطن، فماذا يرى؟ إنه في ظاهر الأمر يدرك سلسلة من خواطر تمر أمام انتباهه عابرة، فلو كان أمينا في وصف ما قد رآه، لقال عن نفسه إنه في الحقيقة مؤلف من حالات كثيرة، وليس أمامه برهان واحد يدل على أنه - رغم هذه الحالات الكثيرة - إنسان «واحد»، لكني على يقين من غضبه وثورته على من يصفه بهذا التعدد والتفكك، وسيصر على أنه - رغم ظاهر الأمر - حقيقة واحدة ونفس واحدة وذات واحدة، فكيف أدرك هذه الوحدانية في نفسه مع أن الإدراك العقلي لا يجد من نفسه إلا حالات جزئية تظل تتعاقب؟ أدركها بما يسمونه «الحدس»؛ وبهذا الحدس نفسه يدعوك المتصوفة أن تنظر إلى العالم بكثرته، فإذا هو أمامك واحد أحد أنت جزء منه مندمج فيه.
نعم، إن صاحب النظرة الفنية - كصاحب النظرة العلمية - يعلم أن لون الزهرة شيء غير شكلها، وهذان يختلفان عن أريجها، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن الزهرة - على اختلاف صفاتها من لون وشكل وأريج - حقيقة واحدة عند الوعي الذي يدركها في جملتها إدراكا مباشرا، وكذلك يعلم صاحب النظرة الفنية - كما يعلم صاحب النظرة العلمية - أن الفرد الواحد من الإنسان سلسلة من حالات وخواطر ومشاعر متباينات متعاقبات، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن هذه الكثرة ليس من شأنها أن تفتت وحدانية الذات الفردية الواحدة، وهو كذلك يعلم - كما يعلم زميله - أن الذات المدركة شيء غير الموضوع المدرك، لكنه يضيف إلى ذلك علما أعلى وأوفى، وهو أن الذات والموضوع كليهما حقيقة واحدة عند الحدس المباشر .
هذه الوحدانية الضاربة في صميم الحقيقة الكونية - رغم ما يبدو للحواس الظاهرة وللعقل التحليلي من تباين واختلاف، ومن تجزؤ وتعدد - هي سر الشرق وروحه، بها نادت دياناته المنزلة وغير المنزلة على السواء، أفيكون غريبا بعد ذلك أن تجيء ثقافة الشرق الأصيلة داعية إلى الإخاء بين الإنسان والإنسان حينا، وإلى الإخاء بين الإنسان والحيوان حينا آخر، بل إلى الإخاء بين الكائنات الحية والجوامد حينا ثالثا:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
وما أجمل ما يقوله حكيم صوفي من الشرق إلى تلميذه: «أن ضع الكوب مقلوبا، فوهته إلى أسفل، وقاعه إلى أعلى، تنحصر بداخل الكوب بضعة من هواء، تحيط بها جدران الكوب فتعزلها عن بقية الهواء، لكن ارفع الكوب تزل الحواجز الفاصلة بين هواء الداخل وهواء الخارج ... وهكذا يا بني، قد ترى نفسك معزولة عن بقية الكون بين جدران جسدك فتظنها فردا مستقلا قائما بذاته، لكن أزل هذه الجدران الحاجزة تجدها جزءا من كل شامل عظيم.»
وبديهي أن هذا الكون الواحد المتصل الدافق السيال، الذي إن استطاعت الحواس الظاهرة أن تتبين فيه صنوفا من تباين الأجزاء، فاللقانة اللدنية المباشرة وحدها هي التي تدرك وحدانيته واتصاله. أقول إنه من البديهي أن هذا الكون الواحد محال على من يدرك وحدانيته بحدسه أن ينقل إلى الآخرين إدراكه هذا عن طريق اللغة. ولا بد لمن يريد أن يدرك هذه الوحدانية الكونية من تذوقها بوجدانه هو، فإذا حاول مدركها أن يصفها لغيره بألفاظ اللغة ليفهمها، فما ذلك إلا على سبيل التقريب والإيحاء؛ ومن هنا جاءت الكتب الأساسية في ثقافة الشرق الأصيلة أقرب إلى الإيماء والإيحاء والتلميح، منها إلى التحليل الدقيق المستفيض. وأي غرابة في ذلك؟ إن هذا الضرب من الإيحاء هو جوهر الفن كله، فقد ينشئ لك الموسيقي معزوفة يقول لك عنها - مثلا - إنها «الفجر»، أو إنها «الغسق»، لكن الأذن العارية وحدها لا تجد فيها فجرا ولا غسقا، والمراد هو أن توحي لك المعزوفة بما قد خبرته أنت بذاتك ساعة الفجر أو ساعة الغسق، إن نقل الخبرة الوجدانية بذاتها من صاحبها إلى غيره ممن لم يكابدها ولم يكابد شبيها لها؛ أمر محال، فليس أمل الشاعر إذا ما بث حزنه أو فرحه في قصيدة، هو أن ينقل إليك هذا الفرح أو ذلك الحزن بعينه وبذاته، بل أمله هو أن يكتب لك الألفاظ على نحو يرجى منه أن يوحي لك وأن يثير فيك خبرات ذاتية لك، قد تشبه من قريب أو من بعيد ما جاشت به نفس الشاعر، ومن هنا كثرة التأويلات للقطعة الفنية الواحدة. نعم، إنه لا أمل ولا رجاء في أن تجيء كلمات الفنان مطابقة لوجدانه، كما تجيء أوصاف العلم لظواهر الطبيعة مطابقة لتلك الظواهر، وإن شئت فقارن بين لوعة الحزين من جهة وبين وصف تلك اللوعة في كلمات، أو قارن صبابة العاشق الولهان بالألفاظ التي تساق وصفا لها، وهل كلمة «النار» تلسع قارئها كالنار نفسها؟ كلا، فإدراك الصوفي للكون لا وسيلة إلى نقله بكلمات اللغة إلى من لم يعان الخبرة الصوفية معاناة ذاتية مباشرة؛ فاللغة قد تكون صالحة لنقل المدركات المجردة، وقد تكون صالحة لوصف الحوادث والأشياء كما تجري وكما تقع في الطبيعة الخارجية، لكنها يستحيل عليها استحالة قاطعة أن تنقل الخبرة الذاتية الباطنية كما يهتز بها وجدان صاحبها؛ ولهذا كان الفرق البعيد في أداء اللغة لأغراضها بين أن يكتب بها كتاب علمي وأن يعبر بها عن خفقات الأفئدة ونبضات القلوب، والثقافة الغربية - على وجه الإجمال - هي من النوع الأول، والثقافة الشرقية من النوع الثاني.
الفصل الثامن
روح الشرق وسره هما في إدراك الجوهر الكوني الواحد المتصل الذي لا تجزئة فيه ولا تباين، ولكن أين عساك أن توجه النظر لترى هذا الجوهر، ألست مضطرا أن تلتمسه في هذه الزهرة، أو في هذا الجبل، أو في هذا العصفور؟ وإذا ركزت انتباهك في جزئية واحدة من هذه الأشياء لتستشف وراءها روح الكون الواحد، أفمستطيع أنت أن تجرد نفسك عن هذه الجزئية التي وقفت عندها متأملا؟ الجواب هو بالإيجاب؛ لو وهبك الله روح الفنان الأصيل، فما روح الفن في صميمها سوى قدرة الفنان على إدراك الحقيقة الكبرى خلال الجزئيات التي يقع عليها بحسه؛ فالفن مزيج متداخل مما هو جزئي ظاهر للعين باد للحواس، وما هو خبيء خفي مستعص على إدراك الحواس، فإذا قال شاعر في هذه الزهرة شعرا، أو إذا رسمها مصور فنان، فهو لا يقف عندها محاكيا ورقة بورقة وعودا بعود، وإلا لأغنت عنه آلة التصوير، بل إنه ليمزج بين خصائصها المميزة الفريدة من جهة، وبين ما توحي له من المعاني التي تكمن وراءها مما هو بطبيعته مفارق للحس، وما دمت قد سرحت مع الفنان بوجدانك فيما وراء الزهرة المصورة، فلا سدود عندئذ ولا حدود، بل ستظل غارقا في بحر الوجدان حتى ينتهي بك آخر الأمر إلى اللامتناهي واللامحدود، إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود.
Page inconnue