وبإشراقك تقلع السفائن رائحة غادية، وتثب الأسماك في أنهارها، ويتلألأ بشعاعك البحر العظيم الأخضر.
يا خالق الناسلة في المرأة، ويا صانع النطفة في الرجل، ويا واهب الحياة للجنين في بطن أمه، تهدهده فلا يبكي، وتغذوه وهو في الرحم، يا واهب الأنفاس ويا محرك العباد! إنه إذا ما خرج الوليد من بطن أمه، فرجت شفتيه لينطق، وسددت له حاجته.
إنك أنت واهب الحياة للفرخ في بيضته، وحافظ له حياته حتى يخرج منها مغردا بكل قوته، ماشيا على قدميه منذ اللحظة الأولى.
زرقة السماء وصفرة الصحراء، هكذا رأى المصري بلاده نورا على نور، فأقام شوامخ الأهرامات والمعابد، وسوامق المسلات والتماثيل، ليصل بين النورين، وجاشت نفسه بما لمسه في الطبيعة كلها من حوله، من صمت رهيب، فتكلم معبرا عما جاش في نفسه، تكلم بلغة الحجر الأصم تماثيل تراها على اختلاف عصورها ذات طابع واحد، هو طابع الجلال الهادئ الرزين الرصين، تراها فتحسبها الرهبان قد ملأتهم السكينة والرضا، وترى على شفاهها بسمات خفيفات هامسات، فيها معنى الإشفاق على من ألهته دنيا العوابر والزوائل؛ هذا الإيمان الصابر، هذا الجلال الصامت، هو المصري من أول عصوره حتى اليوم، وإنما اكتسب المصري القديم فنه من عقيدته، ثم استمد حكمته من فنه، وكلها جوانب من نفسه نشأت حين لمس الوجود لمسة الروحاني الفنان.
وأنظر إلى التصوير المصري على جدران المعابد، أنظر إليه نظرة الفاحص المتأمل، وأعجب أن يمضي على هذا التصوير ثلاثون قرنا أو يزيد، وإذا بالفنان المعاصر - فنان القرن العشرين - يعود القهقرى مع القرون، ليجعل مبادئ فن التصوير كما عرفه المصريون هي المبادئ التي يثور بها على الفن الأوروبي التقليدي، ثم يجعلها هي نفسها المبادئ التي يحتذيها ويسير في فنه الحديث على نهجها.
ذلك أن المصور المصري كان يرسم شخوصه مسطوحة ذات بعدين، ويهمل البعد الثالث الذي من شأنه أن يظلل الرسوم ليجسمها فتصبح على اللوحة كما هي قائمة في عالم الواقع؛ أقول إن الفنان المصري كان يهمل البعد الثالث، لا جهلا منه بقواعد المنظور في الرسم، بل إدراكا منه بجوهر الفن الأصيل، وهو ألا يحاكي الفنان بفنه موجودات الطبيعة الخارجية محاكاة تجعل اللوحة الفنية صورة تطابق الواقع كما يعرفه الإنسان بعقله، لا كما ينطبع ذلك الواقع على حواسه؛ فأنت إذ ترى رجلا قائما أمامك على مقربة أو على مبعدة، إنما ترى منه في حقيقة الأمر مسطحا ملونا، فإذا قدرت لنفسك بعد ذلك أنه جسم ذو أبعاد ثلاثة: طول وعرض وعمق، فإنما تضيف العمق من خبرة أخرى غير الخبرة المباشرة التي تنطبع على شبكية العين عند الرؤية. ولقد أراد الفنان المصري أن يكون أمينا في فنه مخلصا لحواسه، فأثبت على لوحاته رسوم الأشياء وفق إدراك الحس لها لا وفق حساب العقل، وها هم أولاء قادة الفن في عصرنا الراهن «بيكاسو» و«جوجان» و«ماتيس» وغيرهم، يثورون على التقليد الذي كان قائما في الفن الغربي منذ النهضة الأوربية في القرن السادس عشر، ويستلهمون الفن القديم في مبادئه؛ لأنه أقرب إلى الخلق الفني بمعناه الصحيح.
وكذلك لم يكن الفنان المصري - إذ يضع على لوحة عدة أشياء، بعضها قريب منه وبعضها بعيد عنه - لم يكن ذلك الفنان يعبأ عندئذ بقواعد المنظور، من حيث تكبير القريب وتصغير البعيد، بل كان يضع أشكاله كلها في حجم واحد رغم تفاوتها في البعد بعضها عن بعض، فتراه يرصها جنبا إلى جنب، أو يضعها بعضها فوق بعض، كأنما هي كلها في مستوى واحد، ثم لم يكن يعبأ أيضا برسم المحيط الذي تكون تلك الأشياء موضوعة فيه، فلا منظر من مناظر الطبيعة، ولا جدران غرفة ولا أرضية بأي معنى من المعاني ... وهو ها هنا أيضا لم يكن جاهلا بقواعد المنظور، بل كان على وعي كامل بأنه فنان حر في وضع أشيائه، ولا إلزام عليه بأن يجعل صورته تنطق بالمحاكاة الدقيقة للطبيعة كما هي قائمة.
وانظر آخر الأمر كيف كان يرسم الفنان أشخاصه: فالوجه جانبي، ولكن العين مرسومة كاملة على الجانب الظاهر، والصدر متجه كله إلى الأمام، غير ملتفت إلى جانب مع اتجاه الوجه، ثم القدمان متجهتان إلى جانب، على غير اتساق بينهما وبين اتجاه الصدر، ولا مانع عنده من أن يجعل الفخذين ظاهرين كأنهما عاريتان، مع أنه يلفهما بالرداء، فهو يضع الثوب على الجسم، ثم يتجاهل وجوده ليظهر ما تحته، وهكذا وهكذا من ألوان الخروج على قواعد المنظور. لماذا؟ لا لأن الفنان جاهل بتلك القواعد، بدليل أنه يراعيها كلما أراد ذلك، إنما هو يصدر عن مبدأ فني أصيل، وهو أن يبرز «الشكل» (الفورم) على أكمل وجوهه، فخير شكل يبدو عليه الوجه هو الجانب، فيرسمه ملتفتا إلى جانب، وخير شكل تبدو عليه العين هو أن تكون شاخصة كلها إلى أمام، فيرسمها بأكملها على جانب الوجه رغم قواعد المنظور، وخير شكل للجذع هو أن يكون متجها إلى أمام، فليكن كذلك، سواء وافق هذا الوضع وضع الوجه الجانبي أو لم يوافقه، وخير شكل للقدمين هو حين تكون جانبية ليراها الرائي كاملة، وإذن فلتكن كذلك في الصورة، ولا عبرة باتفاق وضعهما مع وضع الصدر والوجه والعين. ثم لماذا يجعل الثوب يخفي الفخذين ما دام هدفه هو أن يبرز شكل الفخذين في استدارتهما واستقامتهما، فليس الأصل عنده هو أن يحاكي الواقع على حقيقته، بل الأصل هو أن يوضح الأشكال في أجمل صورها ... ليس الفنان آلة تصوير تنقل عن الطبيعة وهي صماء بكماء، فتنقلها كما هي، بل الفنان إنسان خلاق يتصرف في خلقه الفني كما يهديه ذوقه وفطرته، ولقد كان الفنان المصري أول من عرفته دنيا الفنون أو يكاد، لكنه كان من سلامة الذوق والفطرة بحيث استطاع أن يقع على المبادئ الفنية التي غفلت عنها القرون الطويلة بعدئذ، حتى جاءت بعض مدارس الفن المعاصرة فالتقطت أطراف الخيوط من جديد لتستأنف السير في طريق شقها ذلك الفنان الأول.
الفصل الرابع
وننتقل إلى الهند فنجد وحدة الوجود بادية في كل كلمة ينطق بها الهندي، وفي كل نفس يتنفسه، نراها بادية في دينه وفي أدبه، فالهندي يمزج نفسه بمحيطه الطبيعي مزجا، ويكتنه الوجود إلى سره الخفي الدفين، فيؤاخي بين نفسه وبين الحيوان كأنهما أفراد من أسرة واحدة هي أسرة الحياة، فليس العالم الخارجي عند الهندي مادة ميتة جامدة تتحرك في فضاء بسرعات معلومة محسوبة، وحسب قوانين محكمة مضبوطة، بل العالم عنده دار تعج بالأرواح الكثيرة التي تستكن في الصخور، وتدب في الحيوان، وتسري في الأشجار، وتكمن في مجاري الماء، وتعمر الجبال والنجوم، فحتى الثعابين والأفاعي مقدسات؛ لأنها آيات ناطقة بالحياة المقدسة، فأقدم آلهة ذكرتها «أسفار الفيدا» هي قوى الطبيعة وعناصرها؛ هي: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء، جعلوا السماء أبا والأرض أما، وكان النبات هو ثمرة التقائهما بوساطة المطر ... فإذا لم يكن هذا شعرا فكيف تكون نظرة الشاعر؟
Page inconnue