فتعجب الراهب من جرأتها ورباطة جأشها وحدثته نفسه أن يرفض النجاة بنفسه ويطلب البقاء معها، ولكنه رأى أن بقاءه لا ينفعها، وخشي لوم رئيسه فسكت ليرى ما يكون منهم فإذا بالفارس الملثم قد خاطب كبير الفرسان همسا، فأشار هذا إلى الراهب بالانصراف، وأحاطوا بسالمة وساروا بها ولم يلتفتوا إلى الخلف.
أما هي فلما رأت نفسها في قبضة الإفرنج ولا حيلة لها في النجاة، تذكرت أنها تحمل رسالة من أسقف بوردو إلى أسقف بواتيه، فخشيت إن هم فتشوها أن يعثروا على الرسالة فيقع أسقف بواتيه تحت طائلة الغضب، فاحتالت ورمت الرسالة في مكان بحيث لا يراها أحد ، ثم تذكرت المحفظة وفيها كل سرها فخفق قلبها خوفا من وقوعها في أيدي أولئك الإفرنج، فجرها ذلك إلى التفكير في ابنتها وكيف تركتها في معسكر المسلمين، وتمثلت في ذهنها ميمونة وما كانت تخشاه من دسائسها، فترجح عندها أن ما أصابها إنما كان بإيعاز من ميمونة، إذ ليس في أكتانيا كلها من يعرفها أو يسيء الظن بها سواها ولكنها عادت فتذكرت أنها خرجت في تلك المهمة سرا، ولم تكاشف أحدا بخروجها غير مريم، وقضت سالمة ساعة في تلك الهواجس وهي سائرة على فرسها والفرسان محيطون بها وفي جملتهم ذلك الجاسوس الملثم وكانت تسترق النظر إليه لعلها تستطيع معرفته؛ لأنها لو رأت وجهه لانكشف سر ذلك الأمر، ولكنه كان شديد الحرص على لثامه، على أنها تفرست في ثيابه فرأت بالرغم من أنها تبدو في الظاهر إفرنجية، فإنه يظهر من تحت ردائه القصير أن باقي الثوب ليس إفرنجيا، ورأت أن ما انكشف من ساقيه أسمر اللون، ولون الإفرنج مشرب بحمرة، فتحققت أنه جاسوس من خدم ميمونة، فندمت؛ لأنها لم تكشف أمرها للعرب لينجوا من حبائلها، وأصبحت من جهة أخرى، تخشى أن توقع المسلمين في شراكها أو تفسد أمرهم، فيذهب سعيها في نجاحهم أدراج الرياح، وودت لو أنها تستطيع إبلاغ ذلك إلى الأمير عبد الرحمن، فتأسفت؛ لأنها تركت حسانا في الدير ولا تدري مع ذلك هل شفي جرحه، أم أصابه سوء بسببه، وتصورت كيف يكون حال ابنتها ووحيدتها إذا فشل المسلمون، فتراكمت عليها الهواجس وعظم الأمر عليها وغلبها اليأس، فانخرطت في البكاء خلسة، فلما بكت خف بعض ما بها، ولكن الأمر ما برح عظيما.
وما زالوا سائرين بضع ساعات وسالمة تتهيب مقابلة الكونت أود لئلا يعرفها فيكبر جرمها عنده ويكون ذلك خاتمة المصائب، فلما كثرت مشاغلها وهواجسها أخذ الأمر يهون عليها، وهو لم يهن حقيقة، ولكن الإنسان إذا وقع في مصيبة استعظمها وكاد ينوء تحت ثقلها، فإذا تراكمت عليه المصائب ساعده اليأس على احتمالها فكم من أرملة كان الناس يحسبون أنها ستموت ساعة موت زوجها، فلما مات لم تمت ولكنها أعظمت المصيبة فعزاها الناس ببقاء أنجالها ، ثم أصيبت في واحد منهم، ثم بآخر ففرغت حيل الناس في تعزيتها ولكنهم رأوا أنفسهم - بعد حين - في غنى عن ذلك بما استولى على تلك الأرملة الثكلى من اليأس، كأن القلب يندمل من توالي الأحزان، أو أنه يعتاد المصائب فيستخف بها، وهكذا شأن من تحيط به المشاكل، تراه عند وقوعه في المشكل الأول أكثر ارتباكا وخوفا مما يصير إليه حاله عند تعددها، فكانت كلما تعددت مشاكلها هونت على نفسها.
الفصل الثالث والأربعون
الدوق أود
وفي أصيل ذلك اليوم أشرفوا على كرم وراءه سهل واسع، رأت في منتصفه قصرا كبيرا حوله الخيام وبينها الناس يعجون عجا، وفوق القصر علم عرفت حين رأته أنه للدوق أود فتحققت أنها وصلت إلى المكان المقصود، وأن القصر المذكور لبعض أغنياء البلاد هجره أهله في جملة ما هجروه، فنزل فيه أود وأقام رجاله في الخيام حوله.
وما زال الفرسان سائرين بها حتى وصلوا إلى باب القصر فترجلوا وترجلت، فسلموها إلى الحرس الواقف بالباب، فدخلوا بها إلى القصر وهي ملثمة بثوبها الأسود ومقنعة بخمارها الأسود، مشت بقدم ثابتة بين الحرس حتى تجاوزت باحة البيت إلى قاعة وقف الحرس ببابها، ودخل أحدهم ثم عاد وأشار إلى سالمة أن تدخل.
فدخلت إلى قاعة يظهر من سعتها وما على جدرانها من الرسوم الجميلة أن أصحاب ذلك البيت من أهل اليسار، ولم تر في أرض القاعة طنافس ولا مقاعد غير ما كان يحمله الجند في سفرهم، وشاهدت على كرسي في وسط القاعة رجلا نحيف البدن ممتقع اللون أشقر الشعر أشيبه، أزرق العينين جاحظهما، غائر الفم بارز اللحية، منخسف الخدين بارز الوجنتين، وعلى رأسه قبعة عنابية اللون مزركشة بالذهب وفي مقدمتها فوق جبينه حلية مرصعة بالماس والياقوت بشكل الصليب، وعلى كتفيه بردة مزركشة بالقصب سماوية اللون تغطي ثيابه، وتحت البردة جبة قصيرة من القطيفة حولها منطقة عريضة منسوجة بالذهب على أشكال بعض الطيور، وحول ساقيه لفافة من جلد ملون له أهداب من الفرو، ونعلاه مشدودتان إلى قدميه بسيور من نسيج الشعر المتين ، وقد جلس على كرسي ذي جناحين أسند زنديه إليهما، وقد ظهر من تحت البردة سلسلة ذهبية مدلاة من عنقه وفيها صليب من الذهب، فعلمت سالمة أنه الدوق أود؛ لأنها كانت تعرفه جيدا وتعرف بعض الذين بين يديه من أمراء مجلسه.
وكان أود قبل دخول سالمة قد تناول من أحد جلسائه قدحا فيه خمر وهم بشربه، فلما أمر بإدخالها وضع القدح على المائدة أمامه بين الأقداح الأخرى ومسح لحيته بيده ثم جعل يسرحها بأنامله، فدخلت سالمة وهو على تلك الحالة، وحالما وقع نظره عليها ظهرت البغتة في عينيه، ولولا اصفرار وجهه الطبيعي لبدت أيضا في امتقاع لونه، ولم تكن سالمة أقل تأثرا منه ولكنها كانت قد تجلدت وذهبت بغتتها فوقفت بين يديه وخرج الحرس ثم أومأ أود إلى أهل مجلسه فخرجوا جميعا وبقي هو وسالمة.
فلما رأت سالمة نفسها وحدها زادت تهيبا، فإذا هو قد أشار إليها أن تجلس فجلست على كرسي بين يديه جلوس متحفز للنهوض، فخاطبها أود بالإفرنجية قائلا: «ألهذا الحد بلغ منك الغيظ؟»
Page inconnue