قال: «يظهر من زيه أنه من الإفرنج ولا يمكننا أن نحكم على ذلك حكما قاطعا إلا بعد رؤية وجهه وأراه يقترب منا، فإذا دنا رأيناه وعرفناه أو سألناه عن حاله.»
وظل للفارس يقترب منهما حتى وقعت العين على العين فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه إلا العينان، فحياه الراهب فلم يرد التحية، ولكنه تفرس في سالمة وثوبها وفرسها وحول عنان جواده وارتد راجعا إلى الوراء، فلما رأت سالمة ذلك اضطربت وحسبت لذلك الرجوع ألف حساب، وخشيت أن يفطن الراهب إلى ذلك فيسيء الظن بها فتجلدت وتظاهرت بعدم الاهتمام، وقالت وهي تضحك: «يظهر أن الرجل خاف من أثواب الرهبنة؟»
فقال الراهب وهو يظهر الاهتمام: «لا أدري يا ابنتي ما الذي أخافه، ولكنني أعلم أنني تخوفت من رجوعه على هذه الصورة، كأنه جاء للبحث عنا أو عن أحدنا فلما رأى ضالته عاد لإبلاغ النبأ.»
ولم تكن سالمة تظن غير ذلك، ولكنها ظلت على تجاهلها وركزت تفكيرها في محاولة الإفلات مما قد ينصبونه لها من الشراك قبل الوقوع فيها فتظاهرت بتغيير الحديث، فقالت: «وهل نحن بعيدان عن بواتيه؟»
قال: «إذا أسرعنا وسرنا ليلا ونهارا فربما وصلناها في صباح الغد.»
فاستحسنت ذكره المسير ليلا وقالت: «وهل ترى أن نسير ليلا؟ يظهر أنك تستعجل الرجوع إلى الدير لأشغال عندك هناك، فإذا لم يكن علينا بأس من ذلك فلا مانع عندي.»
فقال: «لست مستعجلا وإنما ذكرت لك ذلك على سبيل تقدير المسافة، وأما المسير فلا خطر منه علينا وخصوصا؛ لأني أعرف أهل البلاد ويعرفونني، وزيدي على ذلك أن الليلة مقمرة، فإذا شئنا نزلنا عند العشاء في دير أعرفه بجانب الطريق، فنتناول الطعام ونستريح وننام قليلا ثم ننهض في نصف الليل ونركب توا إلى بواتيه فنصلها في الضحى، وإذا كان ذلك متعبا لك فافعلي ما تشائين؛ لأني إنما أمرت أن أكون في خدمتك إلى حيث تسيرين.»
فأعجبها رأي الراهب وسرها السبيل الذي نفذت به إلى ذلك، وفي اعتقادها أنها متى وصلت بواتيه كان لها من أسقفها ما يقيها غائلة الجواسيس أو غيرهم، وخصوصا؛ لأنها تحمل له وصية من أسقف بوردو، ومتى دخلت القلاية أو الدير الذي فيه الأسقف لا يجرؤ أحد على أن يؤذيها.
فأظهرت أنها تساير الراهب في رأيه، واستحسنت أن يبيتا تلك الليلة في الدير الذي أشار إليه فسار وسالمة تتلفت وراءها خلسة، وهي تتوقع أن ترى أناسا مسرعين في طلبها، أما الراهب فكان مستغرقا في صلاة يتلوها وهو على ظهر بغلته، وقد قضيا بقية ذلك اليوم وهما يركضان الدابتين فغابت الشمس ولم يدركا الدير المقصود، وكان القمر في ربعه الثالث فجاءت العشاء ولم يطلع بعد، فمشيا في الظلام وسالمة تسوق جوادها وراء بغلة الراهب وهي لا ترى الطريق وقد سكتا وسكنت الطبيعة، ولم يكن يسمع هناك إلا وقع الحوافر تارة على الحصى وطورا على العشب وقد تعب الفرس ولم يعد يستطيع العدو، وأما البغلة فظلت نشيطة والراهب يمسكها عن العدو لئلا تسبق الفرس.
الفصل الحادي والأربعون
Page inconnue