فابتسمت مريم ابتسامة أخذت بمجامع قلبه، وتوردت وجنتاها خجلا، وأطرقت إطراق الحياء وتشاغلت بإصلاح ذيل منطقتها.
أما بسطام فكان يراهما يتكلمان، والحنق يكاد يخنقه، وهو لا يجسر على الكلام في حضرة الأمير، ولكنه أضمر لها الشر، وبعد هنيهة جاء الجوادان، فركبت مريم وأمها وساقوا الخيول إلى المعسكر، وكان هانئ لا يرفع نظره عن مريم فرآها امتطت الفرس بأسرع من لمح البصر، كأنها ولدت على ظهور الخيل فازداد هياما بها، ولكنه ظل موجسا خيفة من تلك الخلوة، حتى إذا اقتربوا من فسطاط عبد الرحمن - وهي أكبر الخيام وعلى بابها الأعلام - التفت عبد الرحمن إلى هانئ وقال: «عد إلى تدبير أمر الجند، وكن كعهدي بك فإننا في بلاد العدو.» والتفت إلى بسطام، وقال: «وأنت يا بسطام أمير ذو بطش، فامض إلى شأنك وانس ما دار بينك وبين هانئ إننا مقبلون على فتوح كثيرة، وستصيب من الغنائم والسبايا ما يعوض عليك أضعاف هذه الخسارة.»
فسار الأميران، وتحول عبد الرحمن ودعا مريم وأمها للنزول، فنزلنا ودخلنا الخيمة في أثره، وفي يد الوالدة تلك المحفظة وقد شدتها إلى زندها وقبضت عليها بكفها كأنها تخاف أن يختطفها أحد.
الفصل السابع
الخلوة
فلما دخلوا الخيمة أشار عبد الرحمن إلى من كان فيها من الأمراء والحاشية، فخرجوا جميعا وبقي هو والمرأة وابنتها، وقد تشوق إلى سماع ذلك الحديث، فجلس في صدر الخيمة على بساط ثمين، كانوا قد خصوه به من غنائم ذلك اليوم، وأجلسهما بين يديه فالتفت كل منهما بردائها الأسود، والنقاب الأسود على رأسيهما، فنظر عبد الرحمن إلى وجه المرأة على نور المصباح، فرأى الجمال لا يزال باديا في وجهها مع أنها قد تجاوزت سن الشباب، ونظر إلى مريم، فرأى عينيها الجذابتين وقد زادها التفكير والإطراق هيبة، فسبح الخالق لذلك الصنع العجيب، ثم غلب شوقه إلى سماع تلك القصة، فحول نظره إلى المرأة فرأى الاهتمام ظاهرا في عينيها وهي تنتظر إشارة للشروع في الكلام، فقال لها عبد الرحمن: «ما خبرك يا فتاة؟ وما هو غرضك؟»
قالت: «أما خبري فسأطلعك عليه في فرصة أخرى، وأما غرضي فهو نصرة هذا الجند حتى تتحقق أمانيه.»
فلما سمع عبد الرحمن كلامها، استغرب تلك الغيرة من امرأة لا يعرف من هي، وقد توسم في كلامها - وإن كان عربيا - شيئا من العجمة، فأراد أن يستطلع حقيقتها، فقال لها: «ما الذي حملك على الحماس لنصرة العرب، وكلامك يدل على أنك غير عربية، ومظهرك ولباسك يدلان على أنك غير مسلمة فلا يعقل أن يكون هذا هو هدفك، فاصدقيني.»
فنظرت إليه نظرة استغراب، وقالت: «لم أمثل بين يدي الأمير عبد الرحمن الغافقي لألفق له حديثا مكذوبا، ولا أرى فراسته في صحيحة؛ لأني وإن كنت غير عربية ولا مسلمة، فليس ثمة ما يمنع غيرتي على نصرة العرب أو المسلمين وفي نفس هذه المدينة وغيرها من مدن النصارى والإفرنج من يؤثر انتصار المسلمين العرب على انتصار النصارى الإفرنج لأسباب لم أكن أظنها تخفى على مولاي الأمير.»
فأطرق عبد الرحمن وقد تضاعف استغرابه، ولكنه صبر إلى النهاية لعله يستشف شيئا من حديثها يكشف له الحقيقة فقال لها: «لم أفهم مرادك هل يتمنى أهل هذه البلاد انتصار المسلمين على ملوكهم؟»
Page inconnue