قالت: «النهغ الكبير (النهر الكبير) و...
قال: «وما اسمه؟»
قالت: «نهر لوار.» بلفظ الراء غينا، ولم تكد تنطق بهذين اللفظين حتى فطنت للموعد المضروب لاقترانهما هناك، فخجلت وحولت وجهها إلى عرض البر وأرادت تغيير الحديث فقالت: «وكأني أرى جند الدوق شارل آتيا نحونا.»
فبغت هانئ وتفرس في الغبار المتصاعد وراء محلة الدير وقال: «لا أشك أنك ترين معسكر الدوق شارل أما الغبار المتصاعد فوقه فليس نتيجة السير، ولكنهم يلاعبون خيولهم على سبيل التمرين.» قال ذلك وأخذ يفكر فيما يتوقعه من القتال الهائل في تلك الساحة، ولكنه كان شديد العزم قوي القلب؛ لأنه لم يصادف هزيمة في قتال بعد، ولذلك فأول ما يسبق إلى ذهنه عز الانتصار.
الفصل السبعون
سالمة في الدير
وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع جرسا يقرع، فأصاخ بسمعه فابتدرته مريم قائلة: «هذا جرس الدير؛ لأننا على مقربة منه.» وكانت الشمس قد دنت من المغيب ولو التفتا إليها لرأيا شكلها يتجسم، وجرمها يتعاظم، وحدتها تنفثئ حتى يخيل لهما إذا لمساها أنها لا تلدغ ولكنهما كانا في شغل عن ذلك بغبار رأوه يتصاعد في بعض السهول من جهة الجنوب قرب معسكر أود كأن خيالة يسوقون أفراسهم، فحملا ذلك على ما شاهداه من معسكر شارل، ووصلا في الغروب تماما إلى باب الدير فقرعه هانئ فأطل الراهب البواب، فقالت له مريم بالإفرنجية إنها تسأل عن ضيفة هناك، فنزل وفتح الباب ورحب بها واستغرب ملابس هانئ، وخصوصا عمامته؛ لأنه لم يكن رأى عربيا قط، وإن كان قد سمع بمجيء العرب للحرب فترجلت مريم وهم هانئ بوداعها للرجوع، وقلبه لا يطاوعه على ذلك الفراق، وكانت هي في مثل حاله فلما أراد وداعها نظرت إليه نظرة نفذت إلى قرارة قلبه فتحول عن جواده، وهو يقول: «أرى أن أوصلك إلى والدتك، وأطمئن عليها وعليك، ثم أعود.» فاستحسنت رأيه، وابتسمت، ومشت فمشى هو بعد أن أشار إلى أحد خدم الدير أن يمسك الجوادين، فأخذهما البواب إلى الإسطبل، ولما دخلا من الباب الثاني استقبلهما راهب آخر وسألهما عما يطلبانه فقالت مريم: «عندكم نزيلة اسمها سالمة؟»
فابتسم الراهب وقال: «نعم» وأشار إليهما فتبعاه حتى دخلا الدير وصعد بهما إلى علية سالمة، وكانت سالمة لا تزال بعد إرسال حسان منفردة في تلك العلية، تارة تطل منها إلى النهر، وطورا تجلس على الأرض تفكر في مريم، وقد ذاب قلبها لفراقها، وكانت لم تفارقها قبل هذه المرة قط، ثم تنتقل بأفكارها إلى ما تكتمه في صدرها ولم يحن وقت كشفه، وتخشى أن يطول وقته أو تحول الأقدار دون ذلك فتذهب مساعيها أدراج الرياح، ونهضت في صباح ذلك اليوم منقبضة النفس، فنزلت إلى الكنيسة لاستماع الصلاة، وتخشعت في صلاتها كثيرا، ودعت لابنتها بالسلامة ثم صعدت إلى عليتها فأحست كأنها في سجن، مع أنها في أحسن غرف الدير وأكثرها انطلاقا ولكن السجن سجن الإرادة، فقد يحبس الإنسان نفسه بإرادته أياما في مكان مظلم وهو يعد نفسه مطلقا، فإذا حكم عليه بالحبس يوما واحدا ولو في أفخم القصور فإنه يعد نفسه سجينا.
ولما عادت من الصلاة وصعدت السلم، حدثتها نفسها أن تطل على سهل تورس لعلها ترى رسولا قادما، أو تتنسم ريح ابنتها حتى ترى معسكر العرب عن بعد فمشت حتى أطلت من سطح الدير على ذلك السهل، وعرفت مكان كل من العرب والإفرنج فخفق قلبها لما تتوقعه من القتال هناك، ثم عادت إلى عليتها، وقد أخذت هواجسها تتزايد فلما كان الغروب أحست بزيادة الانقباض وشعرت بضيق وقنوط - وساعة الغروب أثقل ساعات اليوم على الإنسان، وهو حر طليق فكيف إذا كان سجينا - فهمت بالخروج للصلاة، فسمعت وقع أقدام على السطح، فخفق قلبها ووقفت لترى ماذا يكون، فلما سمعت الخطوات تقترب نحوها تزايد خفقان قلبها، وأخيرا سمعت قرع الباب وكأنهم قرعوا صدرها، فنهضت وركبتاها ترتجفان وفتحت الباب، فاستقبلها الراهب وأشار بيده إلى رفيقيه، فلما رأت ابنتها صاحت: «مريم» وألقت بنفسها عليها وجعلت تقبلها وتتحسس جسمها، والدموع تتساقط من عينيها، حتى كاد يغمى عليها، ومريم تقبلها وتقبل يدها ودموعها تتساقط بهدوء ثم دخلتا العلية وهانئ لا يزال بالباب فقالت مريم: «هذا هو الأمير هانئ جاء ليوصلني ويراك ثم يعود.»
فرحبت به وأثنت عليه ودعته للدخول فقال: «لا بد لي من سرعة الرجوع؛ لأننا في حال يدعو إلى التيقظ كيف أنت؟ لقد وصلنا كتابك وشكرنا فضلك واهتمامك.»
Page inconnue