Explication de Bukhnir sur la doctrine de Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
17
التي ينشأ فيها المرض المعروف بالجواتر، واللوزتان اللتان قد يسبب ورمهما والتهابهما الاختناق، والزائدة الدودية التي هي في الأولاد منشأ التهابات قتالة، والأعور الذي كثيرا ما تتجمع المواد فيه تجمعا خطرا، والغدد الصعترية والعصعص وأثداء الذكور ... إلخ، وفي الجملة لا يوجد في بدننا عضو لا يرى فيه عند التدقيق، أنه كان يمكن أن يكون أصلح مما هو للغاية التي وضع لها، وإننا نتعجب اليوم من صنع العين الدقيق التي هي أكمل الأعضاء وألطفها، والتي أصلها حسب تعليل دارون نقطة عصبية حساسة، ارتقت حتى بلغت حالتها الحاضرة بعد أن مرت بدرجات من التغير غير محدودة، ومع ذلك فهي ليست في غاية الإتقان والإحكام؛ لأن أحسن العيون لا يمنع تبدد النور. ووضع القناتين الهوائية والغذائية الواحدة بجانب الأخرى، وسد إحداهما بلسان المزمار سدا ناقصا، نقص في التكوين قد يؤدي إلى الإسفكسيا وآفات أخرى بدخول أجسام غريبة في المسالك الهوائية، ولا يعلم سبب ذلك إلا من تشريح المقابلة.
ومذهب دارون يعلل لنا أيضا سبب الأميال والبداهة في الحيوان، التي يعتبرها خصومه شاهدا عظيما على ما أودعته من القصد لغايات معلومة، قالوا: إن الميل للمهاجرة في الطيور غريزي أودع فيها؛ حفظا لها، ومراعاة لأمر راحتها، مع أن سببه طبيعي، وقد تولد من تعاقب الحر والبرد. فإن الشتاء القاسي كان يجعل الطيور السريعة الحركة تنسحب من الشمال نحو الجنوب، فإذا جاء الصيف حملها حب الوطن على الرجوع إلى الأماكن التي نشأت فيها، وتكرر هذا الأمر مرارا كثيرة. وكل سنة كانت الطيور تدفع إلى أبعد لاشتداد البرد، وامتداده نحو الجنوب حتى صار فيها هذا الميل السنوي إلى المهاجرة عادة، والعادة صارت وراثية، فصار هذا الميل كأنه غريزي.
وإلى مثل هذه الأسباب أيضا يجب أن ينسب نوم الحيوانات الشاتية، فإنها لبطء حركتها لم تكن تهرب من أمام البرد، فتنسحب إلى أماكن مظلمة حيث كانت تنام مدة فصل الشتاء، وما زال هذا الأمر يتكرر فيها حتى صار عادة والعادة وراثة .
18
ودارون يذكر غير ذلك أميالا وبدائه كثيرة مثل بديهة الطير لبناء أعشاشه، وبديهة كلب الصيد المكتسبة بالتعويد حتى صارت موروثة فيه، وبديهة الحيوانات الأهلية التي تجعلها شديدة الميل إلى الإنسان، وبديهة الكوكو التي تجعله يضع بيضه في أعشاش غيره، والبديهة العجيبة التي يأسر النمل بها النمل الغريب، والبديهة التي يبني النحل بها خلاياه وغير ذلك من الأميال والبدائه التي جعلوها أدلة على الأسباب الغائية مع أنها نتيجة الانتخاب الطبيعي. على أن هذه الأميال تتغير بتغير جنس المعيشة، وهذا دليل على أنها غير غريزية وغير ثابتة، مثال ذلك ناقر الخشب الأميركاني فإنه فقد هناك عادة التعرش على الأشجار، وصار يصطاد الذباب وهو طائر. وكذلك الكوكو في أميركا، فإنه لا يفعل ككوكو أوروبا؛ أي لا يبيض في أعشاش غيره، وطيور أخرى غيره تفعل ذلك.
ففي ما تقدم من بسط مذهب دارون في انتقال الأنواع ما يكفي على ظني لفهمه، وهذا المذهب يزداد شأنه يوما عن يوم، ليس بالنظر إلى العلم فقط، بل بالنظر إلى فلسفة الكون أيضا. ومهما يكن من أمره في حد نفسه، فشأنه يعظم أكثر باعتبار ما إذا كان يصح على الإنسان، وإذا صح عليه فما هي نتائج ذلك؟ ثم ما نسبته لباقي المذاهب المعول عليها حتى اليوم فيما تعلق بارتقاء العالم العضوي، هل يؤيدها؟ وإذا أيدها فما هي النواميس التي تترتب عليه لارتقاء العالم العضوي عموما، والإنسان خصوصا؟ فهذه المسائل المهمة ستكون موضوع بحثنا في المقالات الآتية.
المقالة الثالثة
مذهب دارون على ما بسطناه في المقالتين السابقتين مهم؛ لأنه يكشف لنا عن أهم الظواهر وأوسعها، ألا وهو: أصل العالم العضوي؛ إذ يهيئ لنا المعدات التي يتيسر لنا بموجبها الحكم بأسبابه، وهل هي في الأسباب الطبيعية أم في الأسباب الغائية المعول عليها حتى اليوم.
ويعظم شأنه أكثر إذا أطلق على الإنسان ليعلم ما إذا كان يصح أيضا عليه، وإذا ما كانت النواميس العاملة في باقي الأجسام الحية هي العاملة في أصله كذلك، أم هو خارج عن حكم هذه النواميس؟
Page inconnue