Explication de Bukhnir sur la doctrine de Darwin
شرح بخنر على مذهب دارون
Genres
فدارون في علم الحياة اقتفى آثار ليل في علم الجيولوجيا، وكلاهما فتحا لنا السبيل لفهم أعظم أعمال الطبيعة القائمة على أسباب أو قوى ظاهرها ضعيف وقليل الأهمية، إلا أنها ذات فعل، وإن كان بطيئا فإنه يتجمع مع الزمان الطويل، ويأتي بكل ما نرى.
فالانتخاب الطبيعي أساس مذهب دارون، ولكي يفهم معناه كما ينبغي، لا بد من معرفة الأسباب التي دعته إلى القول به. فهو إنما توصل إليه بدرس علم تحسين الحيوانات والنباتات الأهلية الصناعي، وهذا العلم كما لا يخفى قد بلغ مبلغا عظيما بنتائجه العجيبة، ولا سيما في إنكلترا وطن دارون حيث يوجد أناس متفرغون لذلك. وقد أجرى دارون نفسه امتحانات كثيرة من هذا القبيل، ولكي يتأكد بالعيان فعل هذه الصناعة انخرط في جمعيتين في لوندرة تشتغلان بتربية الحمام، فتحقق بنفسه أن التباينات الكثيرة للحمام إنما أصلها كلها اليمام؛ أي الحمام البري، لأنها قد تحتوي بعض الصفات الخاصة به والدالة على أصلها. وربما اشتبه بها أنها أنواع لشدة الاختلاف بينها، فإنه لا يقتصر فيها على الصفات الظاهرة فقط، بل يتناول أيضا تكوين الهيكل والبيضة وأمر الطيران وغير ذلك. قال دارون: «إني ما كنت أظن قبل تربيتي الحمام أن كل هذه التباينات يجوز أن يكون مصدرها صورة واحدة!»
وعلى رأي دارون إن الإنسان قد بلغ الغاية القصوى في التحسين الصناعي؛ لأنه يستطيع أن يجمع في أصل واحد أقل الاختلافات الفردية بواسطة الانتخاب الصناعي. وميل الصور إلى التغير أو الانحراف عن الصورة الأصلية، يتضح جليا في الأحياء الواقعة تحت فعل التربية أكثر من الواقعة تحت فعل الطبيعة؛ لكثرة اختلافات أحوال الحياة في الحالة الأولى وشدة تأثيرها، كحسن المسكن وغزارة القوت. على أن هذه القابلية - أي الميل إلى التغير - لا تفقد أبدا؛ فإن أقدم نباتاتنا الأهلية كالقمح لا يزال يعطي تباينات حتى يومنا. ومبدأ التحسين الصناعي قد كان معروفا منذ القديم، وكان الرومانيون القدماء والصينيون وغيرهم يعتنون به. ويظهر أنه معروف أيضا عند شعوب أفريقيا المتوحشين. على أن كل إنسان يربي حيوانات ونباتات يستخدمه ولا يدري؛ لأنه يختار دائما للتربية أحسن الحيوانات والنباتات، ككلاب الصيد وجياد الخيل وغيرها. والمتوحشون أنفسهم الذين يجهلون ذلك كليا يستعملونه على غير علم منهم بحقيقته كما في زمان القحط، فإنهم لا يبقون إلا أفضل الحيوانات اللازمة، ويقتلون ما سواها، أو يتركونه وشأنه بلا عناية.
وإذا كان علم تربية الحيوان قد تقدم كثيرا في إنكلترا؛ فلاعتناء أصحاب الحيوانات من ذوي الثروة فيها به؛ فإنهم لامتلاكهم عددا وافرا منها كان أحدهم إذا وجد أحد أفراد القطيع مميزا ببعض صفات حسنة يربيه ويعتني به، حتى يحسن به كل القطيع رويدا رويدا. وهكذا توصل أهل إنكلترا إلى تحسين حيواناتهم الأهلية، بحيث صارت بقرهم المختارة للذبح ذات بطن ضخم، وسيقان نحيفة، ورأس صغير لا قرون لها، وصار لهم خنزير «للجامبن» وللشحم - ويسمى عندهم الممتلئ دما - وغنم للصوف وديوك وكلاب «بلدج» للقتال، وحمام لحسن المنظر، وخيل لحسن الصورة، وأخرى للسباق، وهذه الأخيرة المولدة من جياد خيلهم وخيل العرب تفوق جدا الأصل المولدة منه. وقد توصل الإنسان في تربية الأزهار والأثمار والخضر بواسطة التحسين الصناعي إلى نتائج عجيبة جدا، كالجذر الذي هو في أصله البري يابس وقاس، فإنه اكتسب بالتربية طعمه المعروف. وكل الأثمار اللذيذة نتيجة اعتناء الإنسان بها، وانتخابه لأفضلها على مدة طويلة من السنين. وقد لا يكفي الانتخاب الصناعي وحده، فيقرن بالتصالب بين الفروع للحصول على فرع جامع فيه كل الصفات الحسنة في غيره. على أن الانتخاب وحده إذا اعتني به كما ينبغي فإنه قد يعطي نتائج أغرب جدا من ذلك، ومثاله غنم «أطر» في أميركا، ولم يذكره دارون مع أنه من أعظم الأمثلة على ما يستطيع المربي أن يناله بالتربية، فقد وجد في «مصاشصتس» خروف بدنه طويل جدا، وساقاه الأماميتان قصيرتان فاستحسن فيه هذا التكوين؛ لأنه لا يستطيع معه أن يقفز من فوق سور الحظيرة، فاعتني بتربيته حتى انتشر على قسم كبير من أميركا الشمالية حيث بقي خمسين سنة، ثم جاء غنم إسباني اسمه «مورينوس» أو مور فأزاحه؛ لأن صوفه أكثر من صوفه وأجود منه. وقد ذكر «عذارا» مثالا كذلك في باراجي، حيث قال: إنه ولد سنة 1770 ثور بلا قرون فاستحسنه المربون فربوه، ولم يزل حتى اليوم بقر باراجي البلدية عديمة القرون على شهادة «رل».
فيرى من هذه الأمثلة كم هي متنوعة طرق التحسين الصناعي، ودارون يقول بالاستناد إلى ذلك ما معناه: «كما أن الإنسان في طاقته أن يحسن الفروع صناعيا بانتخابه الأفراد التي يكون فيها بعض الصفات الموافقة لغاية ما، ثم يثبتها إما بالتصالب، وإما باستمرار تحسينها بعد الولادة، هكذا تفعل الطبيعة أيضا؛ فإنها تجمع التغيرات النافعة للفرد، وتنقلها في نسله من جيل إلى جيل، والفرق الوحيد بين عمل الإنسان والطبيعة، هو أن الإنسان يعمل عن علم بالشيء؛ ولذلك كان عمله يتم في زمن بالنسبة إلى الطبيعة قصير، وأما الطبيعة فيلزم لنجاحها زمان أطول من ذلك بكثير.» ويقول - أي دارون - أيضا أنه إذا كان الإنسان يحصل على مثل ذلك في الانتخاب، فكم يجب أن يكون هذا الأمر أعظم في الطبيعة التي لا تنتخب لمصلحتها كما يفعل الإنسان، بل لمصلحة المنتخب نفسه، والتي تشتغل بلباقة أكثر وقوة أعظم منه؛ لذلك فإنها لا تفتر لحظة واحدة عن جعل أقل التغيرات في الأحياء ممكنة، فإن كانت جيدة حسنتها وإلا لاشتها، ولهذا السبب كانت الألوان التي تقي بعض الحيوانات من مطاردة أعدائها لها، وكان رأس منقار صغار الطير الرخص الذي تشق به قشرة البيضة التي تكون ضمنها، ولون ناقر الخشب الذي يتسلق الأشجار، ويفتش على الذباب تحت القشر، وتكوين مخالبه ومنقاره وذنبه ولسانه لمناسبة ذلك لجنس معيشته، ولهذا السبب عينه كانت قوائم المعزى السريعة العدو، وبصر الجوارح الحاد وسلاحها القوي، وله أيضا ولانتخاب يسمى جنسيا قرن الأيل القوي وعرف الديك.
12
وكذلك أيضا طول عنق الزرافة التي ترعى أفانين الأشجار العالية، وهذا المثال ذكر في الكلام على مذهب لامرك، وإذ ذكرناه هنا فلا بد لنا من أن نبين وجه الفرق فيه بين مذهب لامرك ومذهب دارون.
قد تقدم أن لامرك يجعل سبب هذا الطول في عنق الزرافة الضرورة أو العادة التي تضطرها للتطاول إلى الأشجار العالية، وأما دارون فيختلف عنه في التعليل عن سببه، حيث يقول: إن الزرافة الحالية آتية من أصل أصغر منها، وهذا الأصل قد انقرض منذ زمان طويل، فلم يكن عنقها في الأصل طويلا كما هو اليوم، ولا باقي أعضائها ناميا كذلك (بناء على أن الأعضاء متناسبة في الجسم الحي)، وبقيت على هذه الحالة زمانا ربما كان مائة سنة، أو ألف سنة، أو أكثر أو أقل، بدون تغير جوهري فيها؛ لعدم تغير أحوال حياتها حتى حصل يبس شديد ماتت به كل الأشجار إلا أشدها؛ أي أعلاها، فماتت كل الزرافات الصغيرة التي في عنقها قصر يحول بينها وبين الحصول على قوتها، وبقيت الكبيرة الطويلة الأعناق. وانتقل ذلك في نسلها إلى أولادها، وبقيت هكذا حتى أصابها أيضا ما أصابها في المرة الأولى، فماتت قصارها، وبقيت طوالها ... وهكذا. وما زال هذا الأمر يتكرر فيها، حتى بلغ بها في الأدوار الطويلة والأجيال العديدة إلى ما هي عليه اليوم. وليعلم أن مثل هذه التحولات يتم بمساعدة قوة شديدة يسميها دارون النمو المشترك، ويراد به أن أعضاء جسم حي ذات نسبة بينها ثابتة لا تتغير، بحيث لو تغير عضو لرافقه تغير أيضا مناسب له في سائر الأعضاء، فقد شوهد أن طول القوائم يكون مع طول العنق، وأن الحمام القصير المنقار رجلاه قصيرتان أيضا، وأن القطاط التي عيونها زرق هي عادة صماء، وأن الكلاب العديمة الشعر أسنانها ناقصة ... إلخ. وقس على ذلك باقي أمثلة لامرك.
على أنه لا ينبغي أن يظن من ذلك أن دارون ينكر تأثير الأسباب التي يذكرها لامرك، كلا بل بالضد يعترف بتأثيرها ويضعها في مقام رفيع بجانب الانتخاب الذي يعده في المقام الأول. والأسباب المذكورة هي كما تقدم العادة والاستعمال والضرورة، ومن الأمثلة التي يذكرها دارون يعلم ما لهذه الأسباب عنده من القيمة في أمر التغيرات الحادثة؛ فلأجلها كانت عظام رجلي البط الأهلي أقوى، وعظام جناحيه أضعف من البط البري، وكذلك البقر والمعزى التي تحلب دائما فإن حلماتها تصير كبيرة، وأكثر الحيوانات الأهلية آذانها مرتخية؛ لقلة لزوم استعمالها بخلاف الوحشية فإنها شديدة فيها، وكل الطيور من طائفة النعام أجنحتها ضامرة؛ لأنها لا تطير، والخلد لقيامه دائما تحت الأرض هو في غنى عن العينين؛ ولذلك هما أثر فيه، وغير ذلك كثير.
ويعترف دارون أيضا بتأثير الأحوال الخارجية للحياة التي يعتبرها كثيرا جفروي سنتيلير، كالإقليم والتربة والقوت والنور والهواء وأقسام اليابسة والمياه ... إلخ، إلا أنه يجعلها دون الانتخاب الطبيعي؛ فإن تأثير الأشياء الخارجية وتغيراتها الدائمة على سطح الأرض - المتغير على الدوام - كل ذلك مهم جدا، حتى ظن كثير من العلماء أنه يكفي وحده للتعليل عن التغيرات الدائمة في العالم الحي، وما حصل فيه من الارتقاء. فنحن نعلم مع قلة اختبارنا أن كساء الحيوانات متوقف على الإقليم، ولونها على القوت أو النور أو المساكن التي تقيم فيها عادة، وكبرها على كثرة القوت أو قلته وغير ذلك، غير أن هذه الأحوال الخارجية التي سيأتي بيانها مفصلا لا يسعها على رأي دارون أن تفسر المطابقة الكلية في الأحياء للأشياء الخارجية المحيطة بها، ولأحوال حياتها، ولاحتياجاتها ... إلخ، فمثل هذه المطابقة الكلية لا يكون إلا نتيجة الانتخاب الطبيعي الذي هو العامل الأكبر، وأما باقي العوامل كأحوال الحياة الخارجية واستعمال الأعضاء وعدمه، والعادة، والنمو المتناسب، والوراثة، والتصالب إلى غير ذلك فيعمل معه بالاشتراك أيضا.
Page inconnue