المجلد الأول
المقدمة:
أحمد الله ﷾ حمد الشاكرين وأصلّي وأسلّم على المصطفى المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فقد خرجتُ من بعض قراءاتي في مجال العربية وفنونها -في مرحلة الماجستير- بانطباع أثار دهشتي واستثار شفقتي وغيرتي؛ إذ وقفت على عالم مُحقق مدقق، لا يقل عن أشهر النحاة تمكنا ورسوخ قدم في مجال لغتنا العربية وآدابها -تأليفًا وشرحًا- قد غُمِطَ حقّه، وأُهمل ذكره، فلم يحظ من جانب من أتوا بعده من المؤلفين والمعنيين بكتابة السير والتراجم إلا بأسطر قليلة لا تكاد تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بالغرم مما قدمه للغة الضاد من أياد بيض، وما أسهم به في إثراء المكتبة العربية من مصنفات خطية ظلت حبيسة جدران دور الكتب والمكتبات قرابة ثمانية قرون، ألا وهو عالم أستراباذ الجليل ركن الدين الحسن بن محمد الأستراباذيّ، النحويّ، اللغوي، الأديب المتوفّى "٧١٥هـ": حسنة طَبَرَستَانَ وَأوْحَدُ ذلك الزمانِ، على حدِّ تعبير ياقوت الحموي ﵀.
وعندما عقدت النيّة لإعداد رسالة لنيل درجة العالمية العالية الدكتوراه استخرت الله العلي القدير في أن أجعل من ركن الدين موضوعًا لرسالتي، ومن جهوده النحوية والصرفية محورًا يدور
1 / 7
حوله بحثي ودراستي. وقد ارتأيت أن أشفع دراستي هذه بإخراج واحد من أهم كتبه إلى دائرة الضوء، إتمامًا للفائدة من جانب وإبرازًا لجهوده في الميدان الصرفي من جانب آخر، ليكون موضوع الرسالة: "ركن الدين الحسن الأستراباذيّ وجهوده النحوية والصرفية، مع تحقيق كتابه شرح شافية ابن الحاجب".
وقد نوقشت الرسالة في كلية دار العلوم جامعة القاهرة عام "١٩٩٢م" ونال بها صاحبها درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى.
وقد ارتأيت الآن -وأنا بصدد نشر الرسالة- أن أفصل بين قسميها جاعلًا كل قسم منهما في كتاب مستقلّ؛ الكتاب الأوّل وسمتهُ بـ"ركن الدين الحسن الأستراباذيّ وجهوده النحوية والتصريفية".
والكتاب الثاني جعلته خاصًّا بتحقيق كتابه: "شرح شافية ابن الحاجب" ودراسته.
وها هو الكتاب الثاني، وقد جعلته في قسمين؛ القسم الأول خاصّ بالدراسة وفيه فصلان يسبقهما تمهيد؛ تحدثت في التمهيد عن عصره وحياته العلمية. وفيه ألقيت الضوء على الحالة السياسية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والدينية في عصره. وجعلت الفصل الأول خاصًّا بعالمنا ركن الدين، وجعلته في مبحثين: الأول "نشأته وحياته"؛ وفيه سقت ترجمة ضافية له تناولت فيها اسمه ولقبه وكنيته ومولده، ونشأته، وحياته، وموطنه، وتنقلاته، ومكانته العلمية والثقافية، ومذهبه الفقهي، وشيوخه وتلاميذه، ثم
1 / 8
انتقلت إلى المبحث الثاني فتحدثت عن آثاره وبينت الموجود منها، وأشرت إلى المفقود، وأفردت حديثًا لآثاره النحوية والصرفية التي وصلت إلينا.
وجعلت الفصل الثاني للكتاب المحقّق، فجاء في مبحثين: أولهما لدراسة الكتاب، والثاني لتوثيقه والحديث عن مخطوطاته وبيان منهجي في تحقيقه.
وأما القسم الثاني فهو خاص بتحقيق الكتاب.
وختمنا الكتاب بمجموعة الفهارس الفنية اللازمة لتحقيق الكتاب.
ولا يفوتني في هذه المقّدمة أن أشير إلى نقطة مهمة، تتعلق بعالمنا ركن الدين، حيث يلتبس الأمر على كثير من الناس فيظن أغلبهم أن ركن الدين ورضي الدين شخص واحد، معتمدين على أن كلًّا منهما قد شرح مقدمتي ابن الحاجب.
1 / 9
وأبادر فأقول: إن ركن الدين الأستراباذي ليس هو رضي الدين الأستراباذي، ولا يجمع بين العَلَمين سوى نسبتهما إلى بلدهما "أستراباذ" من بلاد فارس وما وراء النهر، تلك البقعة العلمية الحافلة بالعلماء، والتي أخرجت خلقًا كثيرين من أهل العلم في كل عصر.
وبعد: فها أنذا أقدم هذا الكتاب إلى كل من يهمه البحث في اللغة العربية وعلومها، وآمل أن أكون قد وفقت في إخراجه على الوجه المرجوّ؛ فإن كنت قد وفقت فيما سعيت إليه فذلك من توفيق الله عز شأنه وتجلت مشيئته، وإن كانت الأخرى فحسبي أني قد حاولت وكنت صادق العزيمة.
وأختم كلمتي هذه بأن أضرع إلى الله العليّ القدير ... داعيًا أن يوفقنا للعمل لوجهه الكريم في كلّ ما هو خير للإسلام والمسلمين واللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم ... إنه سميع مجيب.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
د. عبد المقصود محمد عبد المقصود
الرياض: التاسع من شهر صفر ١٤٢٥هـ
1 / 10
الدراسة: ركن الدين الأستراباذي: حياته وآثاره
التمهيد: عصر ركن الدين الأستراباذي
أ- الحالة السياسية في عصره:
شهد بداية القرن السابع الهجري مولد عالم جليل من علماء الدولة الإسلامية هو: ركن الدين الحسن بن أحمد الأستراباذي النحوي اللغوي الأديب. عاش في عصر١ كان العالم الإسلامي آنذاك يموج بالفتن والقلاقل والاضطرابات ويعمه الخراب والدمار؛ حيث كان أكثره تحت سيطرة المغول سلالة جنكيز خان، حيث امتد سلطان هؤلاء المغول فيه من حدود الهند شرقا إلى سوريا غربا وسيطروا سيطرة كاملة، فيما عدا فترات قصيرة كانت السيادة المؤقتة في فارس والعراق للفرس والترك.
وكانت العراق وفارس في سلطة الدولة الألخانية، وهي مغولية ثم صارت الأمور إلى الدولة التيمورية، وهي مغولية أيضًا، وتخلل ذلك فترات صارت الأمور فيها إلى دولتين فارسيتين: "الجلابرية، والمظفرية" وأخريين تركيتين هما: "القراقيونلية، والأقاقيونلية".
_________
١ يطلق على هذا العصر "العصر المغولي"، نظرًا لسيطرة المغول آنذاك على معظم الممالك الإسلامية، ويؤرخ له بسقوط بغداد على يد هولاكو سنة ٦٥٦هـ، وحتى دخول العثمانيين مصر سنة ٩٢٣هـ ويطلق عليه أيضًا "عصر سلاطين المماليك" نظرًا لسيطرة المماليك على جزء كبير من العالم الإسلامي، وذلك من حدود سوريا شرقًا إلى حدود مصر غربًا بما في ذلك شبه الجزيرة العربية، ويؤرخ له من سنة ٦٤٦هـ وحتى سنة ٩٢٣هـ بدخول العثمانيين مصر أيضًا.
1 / 11
وكانت تركستان وأفغانستان في قبضة الشغطائية، ثم صارت الأمور إلى التيمورية، وكلتاهما مغولية١.
والذي حدث أن هؤلاء التتار٢ قد زحفوا كالجراد بقيادة جنكيز خان على أواسط آسيا وغربها منذ عام ٦٠٦هـ، فملكوا كثيرًا من البلاد، وقتلوا ما لا يحصى من أهلها حتى بلغوا خراسان فانتزعوها من ملكها خوارزم شاه عام ٦١٧هـ، بعد أن أفنوا عددًا كبيرًا من مسلميها، ثم عبروا نهر جيحون، وقصدوا مدينة بلخ، وساروا إلى نيسابور فملكوها لضعف أهلها عن مقاومة هؤلاء التتر الكفرة المخربين، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم وسبوا نساءهم وخربوا المنازل، ثم سارت طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كما فعلوا بغيرها وخربوها، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء، كما قال المؤرخ ابن الأثير٣.
_________
١ ينظر: تاريخ آداب اللغة العربية: ٣/ ١١٠.
٢ التتار أمم وثنية جاهلة من الجنس المغولي الأصفر، ومنهم الياقوتية والجيرجيزية والساموية. ومساكنهم الأولى الأطراف الشمالية لبلاد الصين، ومنذ الأزمنة السحيقة كانوا يعيشون عيشة البداوة، ويخضعون لأحد ملوك الصين، ثم نجم فيهم رجل قوي الشكيمة شديد البأس، استطاع أن يتملك عليهم، وأن يفوز بعرش الحكم فيهم، ودانت له أمم التتار جميعًا، وأخذ يقودهم من نصر إلى نصر، حتى خضع لحكمهم الأمم المجاورة، ذلك الرجل هو جنكيز خان، ومن صفات هؤلاء التتار الشجاعة وشدة البأس وحب البطش، وكان من أعظم ملوكهم بعد جنكيز
خان حفيده هولاكو خان الذي نكبت بغداد على يديه سنة ٦٥٦هـ، وتيمور لنك الذي خرب بلاد الشام، ومنهم أيضًا أولوغ بك وطغرك بك، وأورخان بك، وغازان، وأبو سعيد، وغيرهم. "نقلًا عن: عصر سلاطين المماليك، المجلد الثالث، ص٧، ٨ بتصرف".
٣ ينظر الكامل في التاريخ: ١٠/ ٤٢١.
1 / 12
وبعد جنكيز خان جاء حفيده هولاكو خان، فاتجه إلى الدولة العباسية ومقرها بغداد وذلك في سنة ٦٥٤هـ، وفي طريقه عرج على قلعة الموت ففتحها، وأخذها منهم، وقتل من فيها ثم استولى على الريّ، ثم عرج على مدينة بخارى، وكذلك مدينتي سمرقند وبلخ فأحدث بها وبأهلها من الدمار والهلاك والخراب ما أحدث بغيرها، ثم قصد بغداد سنة ٦٥٦هـ، فمكن له الوزير الشيعي ابن العلقمي١ وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله٢ من دخول بغداد والاستيلاء عليها وزلزلة الأرض تحت أرجل الخليفة المستعصم٣ وذلك نظرًا للخلاف الذي كان قائمًا بينه وبين الخليفة، أو لنقل: الخلاف الكبير الذي كان قائمًا آنذاك بين الشيعة وأهل السنة، فلما استولى هولاكو على بغداد أباحها لجنده أربعين يومًا، وقتل منها، كما يقول بعض المؤرخين ما يقرب من مليوني مواطن، وخرب عمرانها، ورمى كتبها في نهر دجله٤.
وقد وصف سير توماس أرنولد ما قام به المغول من ضروب الوحشية في غزواتهم للبلاد الإسلامية بقوله: "لا يعرف الإسلام من بين ما نزل به من الخطوب والويلات خطبا أشد هولًا من غزوات
_________
١ في فوات الوفيات فصل عن ابن العلقمي، ينظر في: ٣/ ٢٥٢-٢٥٥.
٢ ينظر ترجمته في البداية والنهاية: ١٣/ ٢٠٤-٢٠٦.
٣ ينظر المصدر السابق: ١٣/ ٢٠٠-٢٠١.
٤ ينظر: ظهر الإسلام: ٤/ ١٩٣، وينظر كذلك: عصر سلاطين المماليك المجلد الثالث، ص٩.
1 / 13
المغول؛ فقد انسابت جيوش جنكيز خان انسياب الثلوج من قُنن الجبال واكتسحت في طريقها الحواضر الإسلامية، وأتت على ما كان لها من مدنية وثقافة، ولم يتركوا وراءهم من تلك البلاد سوى خرائب وأطلال بالية، وكانت تقوم فيها قبل ذلك القصور الفخمة المحاطة بالحدائق الغناء والمروج الخضراء، فبعد أن تحول جيش المغول عن مدينة هراة خرج أربعون من أهلها من مخبئهم فرارًا من الموت، وكان هؤلاء التعساء هم البقية الباقية من سكانها الذين كان يربو عددهم على المائة ألف، ووقفوا مهطعين مقنعي رءوسهم يبكون أطلال مدينتهم، وقد أخذ الهلع والفزع من نفوسهم كل مأخذ١.
والواقع أن غزو المغول للشرق الأدني سنة ٦١٧هـ هو أعظم كارثة حلت بالإنسانية. ويصف المؤرخ ابن الأثير هَوْل تلك الحادثة بهذه الكلمات: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارها لذكرها؛ فأنا أقدم رِجلًا وأؤخر أخرى، ومن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، إلا أنني حدثتني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى، التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال
_________
١ تاريخ الإسلام السياسي: ٣/ ١٤٠.
1 / 14
قائل: إن العالم منذ خلق الله ﷾ آدم إلى الآن لم يتبلور بمثلها لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها ... وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فهذه الحادثة استطار شررها وعم ضررها، وصارت في البلاد كالسحاب استد برتهُ الريحُ"١.
_________
١ الكامل في التاريخ: ١٠/ ٣٩٩.
ب- الحالة الاقتصادية والاجتماعية في عصره: قلنا إن هجوم التتار على المجتمع الإسلامي كان هجوما مدمرًا ومخربًا اجتاح كل شيء أمامه من أخضر ويابس: خربوا الحضارات، وهدموا القصور والمنازل، وفتشوا البيوت وأخذوا ما فيها من أموال وغيره، وشردوا أهلها، وأصبح المجتمع الإسلامي الخاضع لسيطرتهم يعاني من أزمات طاحنة، وتدهورت حالة أفراده الصحية وغير الصحية، وعم هذا المجتمع الخراب والدمار. أما عن حال المجتمع الإسلامي في مصر وشبه الجزيرة العربية، ذلك المجتمع الجديد الذي وفد إليه علماء المشرق الفارون من وجه التتار، ذلك المجتمع الذي وقاه الله شر هجمات التتار المخربين، فكان الوضع فيه مختلفًا؛ حيث كان أكثر غنى وثراء ولكنه كان مُقسمًا إلى طبقات اتسعت الهوة بينها؛ فهناك طبقة رجال الدولة،
ب- الحالة الاقتصادية والاجتماعية في عصره: قلنا إن هجوم التتار على المجتمع الإسلامي كان هجوما مدمرًا ومخربًا اجتاح كل شيء أمامه من أخضر ويابس: خربوا الحضارات، وهدموا القصور والمنازل، وفتشوا البيوت وأخذوا ما فيها من أموال وغيره، وشردوا أهلها، وأصبح المجتمع الإسلامي الخاضع لسيطرتهم يعاني من أزمات طاحنة، وتدهورت حالة أفراده الصحية وغير الصحية، وعم هذا المجتمع الخراب والدمار. أما عن حال المجتمع الإسلامي في مصر وشبه الجزيرة العربية، ذلك المجتمع الجديد الذي وفد إليه علماء المشرق الفارون من وجه التتار، ذلك المجتمع الذي وقاه الله شر هجمات التتار المخربين، فكان الوضع فيه مختلفًا؛ حيث كان أكثر غنى وثراء ولكنه كان مُقسمًا إلى طبقات اتسعت الهوة بينها؛ فهناك طبقة رجال الدولة،
1 / 15
وهي الطبقة المرفهة المنعمة، وهي طبقة سلاطين المماليك والأمراء وأتباعهم من جند المماليك، وهناك طبقة التجار، ثم طبقة الباعة، ثم طبقة الفلاحين، ثم طبقة الفقراء، وهم جُلُّ الفقهاء وطلاب العلم، ثم طبقة الحرفيين والأجراء، ثم طبقة المتسولين١.
هذا وقد انتشر التصوف في المجتمع الإسلاميّ بعد سقوط بغداد وتعددت الطرق الصوفية وانتشرت انتشارًا عريضًا، وتغلغلت في أوساط الشعب والخاصة على السواء، وتعددت أسماؤها وأسماء رجالها وشيوخها، وشاعت فلسفة احتقار الدنيا في كتابات العلماء ورجال الدين والكُتاب، ورجال الأدب.
والتصوف في صورته الاجتماعية مظهر من مظاهر الانصراف عن الحياة الدنيا لحقارتها وخستها، كما يقول تاجُ الدين السُبكي المتوفى سنة ٧٧١هـ٢، والإحساس بحقارة الحياة الدنيا يتزايد في أوقات الشدة والضيق، ولا شك أن ما كان فيه العالم الإسلامي آنذاك هو أقصى درجات الشدة والضيق٣.
_________
١ ينظر: إغاثة الأمة بكشف الغمة، لتقي الدين المقريزي، ص٧٢.
٢ ينظر: معبد النعم ومبيد النقم، ص٩٥.
٣ ينظر: الأدب في العصر المملوكي: ١/ ١٩٨، وينظر كذلك: ظهر الإسلام: ٤/ ٢١٩.
1 / 16
جـ- الحالة العلمية والفكرية والثقافية في عصره:
ظلَّت بغدادُ زُهاء خمسة قرونٍ العاصمةَ الروحيَّةَ والفكرية للمسلمين قاطبة ولكل الناطقين بلغة الضادِ، ينزِح إليها العلماء من أبناء الأوطان الأخرى يشهدون حلقاتها ودروس علمائها ومناظرات أدبائها ومحاورات ظرفائها، ومسابقات شعرائها، ومفاكهات أئمة المجالس فيها، وامتلأت مكتباتها ودور كتبها بذخائر علمية نفيسة، وأصبحت بغدادُ -بحق- دارة العلم وهالة الأدب -كما يقال- واستمرت على هذه الحال إلى أن وقعت فريسة في يد التتار في عام ٦٥٦هـ -كما قلنا- ففرقوا أهلها وقتلوا علماءها وشردوا من نجا منهم من القتل، وألقوا بكتبها في نهر دجلة.
وعندما اكتسح التتارُ الممالك الإسلامية خربوا الحضارات، وهدموا العمارات، وكانت هذه العمارات نتيجة حضارة قرون، وكانت الكتب التي ألقوا بها في نهر دجلة نتيجة ثقافة قرون، والحضارات والعلوم إنما تبنى على ما قبلها، وتؤسس على ما سبقها، وهي كالماء للنبات الغض فإذا حرم النبات الغض الماء ذبل وجف بعد قليل، وكذلك كان العلم والحضارة الإسلاميان، هذا فضلًا عما أصيبت به الثقافة من نكبات للعلماء، فإذا بقي شيء من العلم فقليل يكفى للتقليد ولا يبعث على التجديد١.
وبعد هذه الكارثة العظيمة التي حلت ببغداد وبخارى ونيسابور والري وسمرقند وبلخ، وغيرها من مدن العلم والأدب، انتقل العلم وانتقلت مراكزه إلى القاهرة، وأصبحت القاهرة خليفة بغداد، وعُقد لها لواء الزعامة الفكرية والثقافية منذ منتصف القرن السابع الهجري
_________
١ ظهر الإسلام: ٤/ ١٩٣.
1 / 17
وتوافد عليها علماء المشرق والمغرب من أمثال ابن خلكان الإربلي، وابن مالك الأندلسي، وابن منظور الإفريقي، وابن خلدون المغربي، وغيرهم.
وقد شعر علماء ذلك العصر بنقص الكتب في أيامهم، فقال الإمام السيوطي في المزهر١ بعد ذكر حكاية الصاحب بن عباد، لما دعي للذهاب إلى بعض الملوك فاعتذر بمشقة الانتقال؛ لأنه يحتاج إلى ستين بعيرًا ينقل عليها كتب اللغة التي كانت عنده: "وقد ذهب جُلٌ الكتبِ في الفتن الكائنة بين التتر وغيرهم؛ بحيث إن الكتب الموجودة الآن في اللغة من تصانيف المتقدمين والمتأخرين لا يجيء حمل جمل واحد".
وإذا كان السيوطي ﵀ يبالغ في ذلك إلا أنه إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار قلق العلماء لضياع الكتب بالفتن، ويدل أيضا على كثرة الكتب التي ضاعت، سواء بالحرق أو بإلقائها في نهر دجلة.
وكان إحراق الكتب قد بدأ في المملكة الإسلامية قبل ذلك بسبب التنازع بين الفرق الإسلامية؛ فكل فرقة تحاول إحراق كتب الأخرى؛ كإحراق السلطان محمود الغزنوي لكتب المُعتزلة، وناهيك عمّا أحرق من كتب العلماء المتهمين بالزندقة والفلسفة، وهي كثيرة، ولعل بينها ما ليس مثله بين ما بقي كما قال جرجي زيدان٢.
أما التتار فبالغوا في الإحراق والتخريب؛ قال ابن تغري بردي: "وخربت بغداد الخراب العظيم، وأُحرقت كتبُ العلم التي كانت بها
_________
١ ١/ ٤٩.
٢ ينظر: تاريخ آداب اللغة العربية ٣/ ١١٣.
1 / 18
في سائر العلوم والفنون التي ما كانت في الدنيا، قيل: إنهم بنوا بها جسرًا من الطين والماء عوضًا عن الأجر١.
وإذا كان الغزو المغولي للشرق الأدني قد نتج عنه ذلك الركودُ العلمي والأدبي، إلا أنه كان ركودًا مؤقتًا؛ حيث أخذ النشاط يدب في هذين الميدانين، وذلك بعد أنْ استقر المغول في البلاد التي فتوحها؛ ويرجع ذلك إلى أن بعض المؤلفات العلمية قد نجت من أيدي المغول وبخاصة ما كان منها في المدن الجنوبية من البلاد الخوارزمية.
ثم أخذ المغول يتقبلون آراء المسلمين وأفكارهم، ورغبوا تدريجيا في اعتناق المدنية الإسلامية. ليس هذا فحسب، بل وجدنا الكثيرين من سلاطينهم قد اعتنق الإسلام، مثل أبغا بك، وغازان، وأبي سعيد وغيرهم، وبرز كثير من العلماء والأدباء بفضل تشجيع المغول لهم، ومن أشهر هؤلاء في عهد هولاكو العلاّمة نصير الدين الطوسيُّ أستاذ ركن الدين الأستراباذي. وقد امتاز الطوسيُّ بأبحاثه في علم الفلك فشجعه المغول وبنوا له مرصدا عظيمًا في مراغة بأذربيجان، ومكتبة بجانبه، يقال إنها كانت تحوي أربعمائة ألف من المجلدات.
وقد امتاز الطوسيُّ أيضًا بمؤلفاته القيمة في الجبر والهندسة والطبيعة والحكمة والأخلاق وآلات الرصد، كما اشتهر بترجمة كثير من الكتب اليونانية في مختلف العلوم، وكان من أكبر المشتغلين بالعلوم العقلية بعد ابن سينا.
_________
١ النجوم الزاهرة: ٧/ ٥١.
1 / 19
وقد حاول الطوسيُّ جاهدًا أن ينقذ حياة أكبر عدد من العلماء وأن يحفظ أكبر عدد من الكتب الباقية، لذلك اتخذ من مرصد مراغة حجة لجمع الجم الغفير من العلماء وحمايتهم من القتل، واستخلاص الكتب وحفظها والعناية بها، وكان من نتيجة ذلك أن انقلب الأمر وعاد المغول بعد ذلك مسلمين منافحين عن الإسلام.
ونبغ في هذا العصر علماء كثيرون من بينهم: ابن مالك "ت ٦٧٢هـ"، ومحي الدين النووي: "ت ٦٧٦هـ"، ورضي الدين الأستراباذي: "ت ٦٨٦هـ"، وجمال الدين بن منظور الإفريقي: "ت ٧١١هـ"، وركن الدين الأستراباذي: "ت ٧١٥هـ"، وابن آجروم الصنهاجي "ت ٧٢٣هـ"، وأبو حيان "ت ٧٤٥هـ"، وتقي الدين السبكي: "ت ٧٥٦هـ"، وابن خلدون المغربي المتوفى سنة ٨١٨هـ، ومجد الدين الفيروزابادي المتوفى سنة ٨١٧هـ. وغيرهم.
وبالجملة يمكن القول بأنه بالرغم مما حَلَّ بالأمصار الإسلامية من خراب ودمار على أيدي التتار، فإنّ سند التعليم كان لا يزال قائمًا كما قال العلامة ابن خلدون رحمه الله تعالى١.
_________
١ ينظر: تاريخ ابن خلدون: ١/ ٣٦١.
1 / 20
د- الحياة الدينية في عصره:
كانت الحياة الدينية في بلاد المشرق العربي آنذاك أوفر حظًّا من غيرها من الحَيَوات؛ نظرًا لأن المماليك كانوا يدينون بالدين الإسلاميّ وكانوا يعرفون مدى تأثير الروح الدينية على الناس في الشرق العربي فقد أرادوا أن يتخذوا من الدين دعامة قوية يشجبون عليها كلّ مساوئهم؛ فكانوا يبالغون في الظهور بالمظاهر الدينية؛ من بناء المساجد والزوايا، والاحتفال بالأعياد الدينية وإقامة الموالد والاهتمام ببناء الأضرحة للأولياء.
وكان العلماء النازحون من الأقطار الإسلامية يتفاعلون مع هذا الجو الديني ومع هذه الطبيعة الدينية، وبخاصة أن هؤلاء العلماء المضطهدين الفارين من وجه التتار، والذين كانوا يدينون بالدين الإسلامي الحنيف، كانوا متمسكين غاية التمسك بأصول دينهم ومقررات شريعتهم الإسلامية الغراء، يدافعون عن الإسلام والمسلمين وخاصة في تلك الأوقات العصيبة التي يقفون فيها أمام أعدائهم ممن لا دين لهم ولا خلاق.
في ظل هذا الجو السياسي المائج بالفتن والقلاقل والاضطرابات، وفي ظل هذه الحياة الاجتماعية والاقتصادية القاسية ... وفي ظل هذه البيئة العلمية الناضجة بالتنافس المزدهرة بالتأليف الحافلة بالموسوعات عاش عالمنا الكبير، ركن الدين الحسن بن أحمد الأستراباذي، وسنرى في السطور التالية -إن شاء الله تعالى- مدى التفاعل بينه وبين بيئته مؤثرًا ومُتأثرًا.
1 / 21
الفصل الأول: ركن الدين: نشأته وحياته وآثاره
المبحث الأول: نشأته وحياته
أ- اسمه ونسبه:
هو السيّد أبو الفضائل ركن الدين، أبو علي الحسن بن أحمد١ ابن شرفشاه٢ العلوي٣ الحسيني٤ الأستراباذي٥.
تلك هي رواية العاملي، وقد اخترتها من بين الروايات الكثيرة وهي مع كثرتها نراها تأتلف حينًا وتختلف أحيانًا؛ فتارة تقف عند الأب، وأخرى تقف عند الجّد الأوّل، وثالثة تقف عند الثاني من الأجداد، وهي بين هذه وتلك تضطرب اضطرابًا شديدًا، ولا تكاد تستقر على حال حتى تفجأنا باختلاف يسير أو كثير في صيغ الأسماء وفي الكُنَى والألقاب إلى آخر ما هنالك من خلاف.
والآن -وبعد هذا الإيجاز- آن لنا أن نُدْلِفَ إلى بيان الروايات حسب الترتيب الزمني.
_________
١ أبو علي، وأحمد: من معجم الأدباء "٨/ ٥". وفي أعيان الشيعة "أبو محمد، ومحمد".
٢ وقيل: شرف الدين شاه. وهو لقب جده الأدنى "علي بن الحسين".
٣ نسبة إلى جده الأدنى "علي".
٤ نسبة إلى جده الأعلى "الحسين".
٥ أعيان الشيعة، للعاملي: ٢٣/ ١٤١.
1 / 22
اضطراب الروايات في زاوية الأسماء وما يتعلق بها من الكنى والألقاب:
١- فياقوت الحموي "ت ٦٢٦هـ" وهو أقرب المؤرخين زمنًا إلى ركن الدين، بل عاصره في فترة من حياته، كما سنحقق ذلك عند تحقيقنا للسنة التي ولد فيها ركن الدين -إن شاء الله تعالى- أقول: إن ياقوت لا يذكر إلا الكنية، ويأتي باسم الرجل واسم والده، ثم ينسبه إلى بلده أستراباذ، فيقول في معجم الأدباء١: "الحسن بن أحمد الأستراباذي "أبو علي"".
وسلك مسلكه السيوطي "ت ٩١١هـ"٢، وحاجي خليفة "ت ١٠٦٧هـ"٣.
وحذا حذو هؤلاء من المحدثين عمر رضا كحالة في كتابه "معجم المؤلفين"٤.
ويلاحظ أن هؤلاء جميعًا لم يذكروا اللقب وهو "ركن الدين"، غير أننا رأينا حاجي خليفة "ت ١٠٦٧هـ" في موضع آخر من كشف الظنون٥ يصرح بذكر اللقب، ليس هذا فحسب، بل وجدنا الأب عنده اسمه "محمد" وليس "أحمد"، يقول: "مرآة الشفاء،
_________
١ ٨/ ٥.
٢ ينظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: ٢/ ٢١٨. ط السعادة بمصر/ ط أولى/ سنة ١٣٢٦هـ.
٣ ينظر: كشف الظنون، ص١٢٧٣. ويلاحظ أنه ذكر "حسن" مجردًا من "أل".
٤ ينظر: معجم المؤلفين: ٣/ ١٩٦ -دار إحياء التراث العربي- بيروت، لبنان.
٥ ص١٦٤٨.
1 / 23
في الطب، للفاضل ركن الدين الأستراباذي، الحسن بن محمد١ وهو في النقل الثاني يحذو حذو بعض المتقدمين مما سنذكرهم الآن.
٢- كل أولئك قد وقفوا عند الحلقة الأولى في سلسلة النسب، فلم يذكروا الجد الأول لركن الدين، على حين نرى تاج الدين السبكي "ت ٧٧١هـ"، وهو قريب عهد بركن الدين يطفر طفرة تقف به عند الجد الثالث، فيقول: "الحسن بن شرف شاه، السيد ركن الدين أبو محمد، العلوي الحسيني الأستراباذي٢؛ حيث صرح بنسبته إلى الجد الأول "علي"، وثنى بالجد الثاني وهو "حسين"، ولم يرد ذكر الجد الثالث. فقوله "العلوي": نسبة إلى جده الأول "علي"، وقوله: "الحسيني": نسبة إلى جده الثاني "الحسين".
وبماثله مسلك المقريزي "ت ٨٤٥هـ"، غير أنه قدم ذكر "الحسيني" على "العلوي"، وأتى بلفظة "الدين" بين جزأي لقب الجد الأول، فقال: "السيد الإمام العلامة ركن الدين، أبو محمد الحسن بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي٣.
ويماثله أيضًا مسلك ابن حجر العسقلاني "ت ٨٥٢هـ"، غير أنه اكتفى بذكر لقب الجد الأول ولم يصرح باسمه، وكذلك لم يذكر كنية المترجم له؛ يقول: "الحسن بن شرف شاه الحسيني الأستراباذي
_________
١ المصدر السابق.
٢ طبقات الشافعية الكبرى: ٩/ ٤٠٧، ط. أولى ١٣٨٤هـ.
٣ السلوك لمعرفة دولة الملوك: ٢/ ١٥٨، ط. لجنة الترجمة والتأليف والنشر سنة ١٩٤١م.
1 / 24
ركن الدين١.
ويلاحظ أن السبكي "ت ٧٧١هـ"، والمقريزي "ت ٨٤٥هـ"، وابن حجر "ت ٨٥٢هـ" قد أسقطوا الأب وهو "أحمد"، ولعلهم لم يعمدوا إلى الإسقاط، وإنما جنحوا إلى الإيجاز في سلسلة النسب، كما يحدث في كثير من الأحيان قديمًا وحديثًا ثم جاء ابن العماد الحنبلي بعد ابن حجر بما يقرب من قرنين ونصف القرن "ت ١٠٨٩هـ" فاقتفى أثره وحذا حذوه، في أحد قوليه٢، غير أنه ههنا جود الحسن من "ال".
٣- أما المجموعة الثالثة من الروايات النسبية فهي تختلف عما سبقها من روايات في اسم والد ركن الدين؛ حيث صرحت بأن اسمه "محمد" بدلًا من "أحمد"؛ يقول ابن تغري بردي "ت ٨٧٤هـ": "الشيخ الإمام العلامة السيد ركن الدين حسن بن محمد بن شرف شاه الحسيني الأستراباذي٣.
ويلاحظ أنه قد أسقط الكنية "أبا علي" وأيضًا جرد الحسن من "ال".
وقد حذا حذوه جماعة من المتأخرين، هم: حاجي خليفة "ت ١٠٦٧هـ"، كما ذكرنا، وابن العماد الحنبلي "ت ١٠٨٩هـ"
_________
١ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: ٢/ ١٦، ط. حيدر آباد سنة ١٣٤٩هـ.
٢ ينظر: شذرات الذهب: ٦/ ٣٥ "تحت وفيات سنة ٧١٥هـ".
٣ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: ٩/ ٢٣١ طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، أحداث سنة ٧١٥هـ.
1 / 25
في القول الآخر١. وإسماعيل باشا البغدادي "ت ١٣٣٩هـ"٢ والزركلي "ت ١٣٩٠هـ"٣، حيث جاء اسم الوالد عددهم "محمدًا" بدلًا من "أحمد".
ليس هذا فحسب، بل وجدنا البغدادي "ت ١٣٣٩هـ" يضيف لقبًا أمام الوالد محمد؛ حيث يقول: "ركن الدين، الحسن بن رضي الدين محمد بن شرف شاه الحسيني الأستراباذي الشافعي"٤.
هذه زاوية من زوايا اضطراب الروايات في اسم ركن الدين ونسبه تمخضت عن تقسيمها ابتداء إلى مجموعات ثلاث، بعد أن انتهجنا فيها المنهج التاريخي، وسنتناول بقية الزوايا بالمقارنة والتحليل بعد أن نفرغ من متعلقات هذه الزاوية التي تتصل بأسماء الآباء؛ أعني اسم الوالد:
_________
١ ينظر: شذرات الذهب: وفيات سنة ٧١٨هـ.
٢ ينظر: هدية العارفين: ١/ ٢٨٣، ط١، إستانبول سنة ١٣٨٧هـ.
٣ ينظر: الأعلام: ٢/ ٢١٥، دار العلم للملايين، بيروت، ط. سابعة، سنة ١٩٨٦م.
٤ هدية العارفين: ١/ ٢٨٣.
1 / 26