Sharh Sahih Ibn Hibban - Al-Rajhi
شرح صحيح ابن حبان - الراجحي
Genres
شرح صحيح ابن حبان_المقدمة
ليس هناك سبيل أسلم من التمسك بكتاب الله والاعتصام بسنة النبي ﷺ، فهما طريق النجاة، ولما كانت سنة النبي ﷺ بهذه المنزلة كان من اهتم بها وتعلمها وعلمها من أعظم الناس أجرًا عند الله، وفي المقابل من أهملها بأن حدث عن النبي ﷺ بأحاديث لا يعلم صحتها أو يعلم أنها مكذوبة عليه فهو داخل في الوعيد الشديد.
1 / 1
ذكر الأخبار الواردة في الابتداء بحمد الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الابتداء بحمد الله تعالى.
ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ابتداء الحمد لله جل وعلا في أوائل كلامه عند بغية مقاصده.
أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان: قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي العشرين قال: حدثنا الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أقطع)].
قال شعيب الأرنؤوط: [قال إسناده ضعيف؛ لضعف قرة -وهو ابن عبد الرحمن ابن حويئل المعافري المصري ضعفه ابن معين وأحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وأخرجه أحمد من طريق عبد الله المبارك والنسائي في عمل اليوم والليلة، وأبو داود في الأدب.
ضعف قرة في الحديث ليس شرطًا لضعف الحديث لكن له طرق متعددة، وقد يكون له شواهد، وقد يشهد له ما بعده.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الأمر للمرء أن تكون فواتح أسبابه بحمد الله جل وعلا لئلا تكون أسبابه بترا.
أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان أبو علي بالرقة قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا شعيب ابن إسحاق عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع)].
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف، وهو مكرر ما قبله.
أي: أن إسناده ضعيف لـ قرة كذلك.
1 / 2
ما جاء في الاعتصام بالسنة وما يتعلق بها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الاعتصام بالسنة وما يتعلق بها نقلا وأمرا وزجرا.
أخبرنا أبو يعلى حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: (إن مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش، وإني أنا النذير، فأطاعه طائفة من قومه، فانطلقوا على مهلهم فنجو وكذبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش وأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق)].
قال شعيب الأرنؤوط: [إسناده صحيح على شرط الشيخين.
وفي لفظ (أنا النذير العريان) والنذير العريان هو الرجل البعيد عن قومه، وقد رأى جيش العدو يجتاح قومه فأراد أن يخبرهم بأمر الجيش فجعل يلوح بيده، وخلع ثوبه من شدة المبالغة، ولهذا قال النبي ﷺ: (أنا النذير العريان) فشبه نفسه ﵊ بالنذير الناصح، كالرجل الذي خلع ثوبه وصار عريانًا من شدة نصحه وتحذيره لقومه، فهذا المثل يبين ضرورة الاعتصام بالسنة وبالكتاب وأن من تمسك بها فقد نجا، ومن ترك السنة والكتاب فقد هلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ﷺ: (إن مثل ما آتاني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت ذلك، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعمل ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وقد رواه البخاري من حديث أبي موسى بلفظ: (فعلم وعلم).
فطائفة كالأرض الطيبة التي تقبل الماء فتنبت الكلأ والعشب، قال العلماء: وهذا مثل العلماء الذين تعلموا وتفقهوا وفجروا ينابيع النصوص وحفظوا الأحاديث فانتفعوا في أنفسهم ونفعوا، وقد شبههم الرسول الكريم بالأرض التي تمسك الماء فيأتي الناس وينتفعون بها.
والطائفة الثانية: وصفها الرسول ﵊ بقيعان لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ فلا تستفيد لنفسها ولا تفيد غيرها، وكذلك مثل من لم يستفد ولم يقبل هدى الله وأحاديث الرسول ﵊.
والرسول ﷺ شبه الإنسان في قبوله الحق بالأرض، وهي ثلاثة أنواع فصلها ﵊ في الحديث الذي رواه البخاري: (مثل ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الماء والعشب الكثير، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً) ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميتًا، وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس فيبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه، ويحيا به، ويعلمه غيره، بعد أن يعمل به، فينتفع وينفع.
والنوع الثاني من الأرض هو ما لا يقبل أن ينفع نفسه ولكنه ينفع الناس والدواب وغيرهما بأن يحفظ لهما الماء على سطحه، وهذا مثل أهل القلوب الحافظة، لكن ليس لهم أفهام ثاقبة، فيحفظون الأحاديث ليأتي بعد ذلك طالب متعطش لما عندهم من الحفظ فيستخرج فوائده، وينتفع به.
والنوع الثالث هي الأرض الجدباء لا تنبت فهي لا تنتفع بالماء ولا تملكه لينتفع به غيرها، وهذا مثل من يسمع العلم فلا ينتفع به، ولا يحفظه لغيره.
1 / 3
وصف الفرقة الناجية
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر وصف الفرقة الناجية من بين الفرق التي تفترق عليها أمة المصطفى ﷺ.
أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البرتي حدثنا علي بن المديني حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ثور بن يزيد حدثني خالد بن معدان حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية - وهو ممن نزل فيه ﴿وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾ [التوبة:٩٢]- فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين ومقتبسين، فقال العرباض: (صلى بنا رسول الله ﷺ الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا مجدعًا فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
هذا الحديث يحث على لزوم الكتاب والسنة وفيه السمع والطاعة لولاة الأمور في طاعة الله وفي الأمور المباحة أما المعاصي فلا طاعة لهم فيها، وهذا مقيد في حديث آخر وهو قوله ﵊: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة بالمعروف) وإن كان عبدًا حبشيًا فيجب السمع والطاعة له مادام ولي الأمر قد ثبتت له البيعة بالانتخاب أو بولاية العهد أو بالغلبة والقوة؛ لأن هذا فيه استتباب الأمن، واجتماع الكلمة، أما الخروج على ولاة الأمور فهو مدعاة للفوضى والاضطراب، وإراقة الدماء، وتربص العدو بالبلاد ولهذا كان الخروج عليه من كبائر الذنوب، إلا إذا كفر كفرًا صريحًا واضحًا، ووجد البرهان على ذلك، ووجد البديل واستطاع الناس أن يغيروه فهذا جائز.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو حاتم: في قوله ﷺ: (فعليكم بسنتي) عند ذكر الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنن، قال بها، ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة، جعلنا الله منهم بمنه].
1 / 4
ذكر الأحاديث الدالة على وجوب لزوم السنة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم سنن المصطفى ﷺ، وحفظ نفسه عن كل من يأباها من أهل البدع وإن حسنوا ذلك في عينه وزينوه.
أخبرنا إبراهيم بن علي بن عبد العزيز العمري بالموصل حدثنا معلى بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: (خط لنا رسول الله ﷺ خطًا فقال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾ [الأنعام:١٥٣] إلى آخر الآية).
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن ومعلى بن مهدي هو الموصلي، قال فيه أبو حاتم في الجرح والتعديل: شيخ يحدث أحيانًا بالحديث المنكر.
وفي هذا الحديث دليل على أن الإنسان يجب أن يستقيم على صراط الله وهو الحق، وأن يلزم ما جاء به الرسول ﷺ وهو دين الله الإسلام، وما جاء في الإسلام وهو الطريق المستقيم فمن استقام عليه استقام على الصراط الحسي يوم القيامة وعبر الصراط، والخطوط المتعرجة عن اليمين وعن الشمال التي خطها ﵊ هي سبل الضلال.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر ما يجب على المرء من ترك تتبع السبل دون لزوم الطريق، الذي هو الصراط المستقيم.
أخبرنا علي بن حسين بن سليمان المعدل بالفسطاط قال: حدثنا الحارث بن مسكين حدثنا ابن وهب حدثني حماد بن زيد عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود ﵁ قال: (خط لنا رسول الله ﷺ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو له، ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:١٥٣] الآية كلها)].
1 / 5
إن المحب لمن يحب مطيع
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر البيان بأن من أحب الله جل وعلا، وصفيه ﷺ، بإيثار أمرهما وابتغاء مرضاتهما على رضى من سواهما يكون في الجنة مع المصطفى ﷺ].
إن من آثر محبة الله ومحبة صفيه -أي: النبي ﵊ العمل بأوامر الله ورسوله والانتهاء عما نهى الله أو نها عنه رسوله، هذا هو دليل المحبة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران:٣١] ومن أحب الله ورسوله امتثل لأوامرهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أنس بن مالك: (أن أعرابيًا سأل النبي ﷺ -وكانوا هم أجدر أن يسألوه من أصحابه- فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت) قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام أشد من فرحهم بقوله].
وهذا حديث صحيح، وفيه بشارة لكل مؤمن يحب الله ورسوله، والمحب الصادق في محبته هو الذي يجتهد في العمل الذي كان يعمل به محبوبه حتى يلحق به، فإذا حصل تقصير فإن المحبة تجبر هذا النقص، أما من يدعي المحبة ولا يعمل فليس صادقًا في محبته، وإنما الصادق في محبته هو الذي يبذل وسعه ويجتهد بأن يقتدي بمن يحبه ويعمل به، فالصادق في محبة النبي ﷺ هو الذي يقتدي به ويتأسى به في أقواله وأفعاله، فإذا حصل نقص جبرت المحبة هذا النقص لكنه يبذل وسعه في العمل واللحاق بمحبوبه.
1 / 6
حكم ترك الإنسان لما أباح الله له
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم هدي المصطفى ﷺ بترك الانزعاج عما أبيح من هذه الدنيا بإغضائه.
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة ﵂ قالت: دخلت امرأة عثمان بن مظعون -واسمها خولة بنت حكيم - على عائشة ﵂ وهي بذة الهيئة فسألتها عائشة: ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي ﷺ فذكرت عائشة ذلك له، فلقي النبي ﷺ عثمان بن مظعون فقال: (يا عثمان! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك فيّ أسوة حسنة؟! فو الله! إني لأخشاكم لله وأحفظكم لحدوده) ﷺ] ينبغي للإنسان ألا يترك ما أباح الله له من المباحات، وهذا مثل حديث الرهط الذين سألوا عن عبادة النبي ﷺ، فكأنهم استقلوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: فأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما علم النبي ﵊ بأمرهم قال: (ما بال رجال يقولون كذا وكذا؟! والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فينبغي للإنسان أن يلزم هدي النبي ﷺ، وألا يترك ما أباح الله له فينفذ نوع من العبادة بتكلف ويقصر في الأنواع الأخرى؛ لأن الإنسان إذا انصرف مثلًا إلى صلاة الليل وبالغ فيها أخل بالواجبات الأخرى كالكسب له ولأولاده والتقصير في حق أهله، والضيوف، ولهذا قال النبي ﵊ لـ سلمان لما زار أبا الدرداء وقد آخى بينه وبين أبا الدرداء، فكانت أم الدرداء متبذلة فسألها أخاها سلمان فقالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فزار أبو الدرداء سلمان، فقدم له طعام، قال أبو الدرداء: كل فإني صائم، فقال: لا آكل حتى تأكل فأصر عليه حتى أكل ثم نام من أول الليل، فلما أراد أبو الدرداء أن يقوم قال له سلمان: نم فلما كان ثلث الليل أراد أن يقوم، فقال له سلمان: نم، فلما مضى نصف الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فقال له سلمان: نم، فلما كان آخر الليل قال: قم الآن، فقاما فصليا، ثم قال له سلمان: إن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا، فاعط كل ذي حق حقه، فلما ذهب أبو الدرداء إلى النبي ﷺ صدق سلمان.
1 / 7
الأمر بتحري السنة واجتناب البدعة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الإخبار عما يجب على المرء من تحري استعمال السنن في أفعاله، ومجانبة كل بدعة تباينها وتضادها.
أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ﵁ قال: (كان رسول الله ﷺ إذا خطب أحمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه نذير جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين يفرق بين السبابة والوسطى ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضيعة، فإلي وعليَّ)].
وهذا من أصح الأحاديث وفيه أن النبي ﷺ كان إذا خطب ألقى الخطبة بشجاعة وحماس، ولا يلقيها بتماوت مثل بعض الخطباء الذين إذا ألقى الخطبة فإنه يلقيها وكأنه ميت، فالخطبة تحتاج إلى شجاعة وحماس، فكان ﵊ إذا خطب أحمر وجهه وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم؛ وبهذا يكون كلامه أوقع في نفوس السامعين.
وكان يقول في خطبة الجمعة: (أما بعد: -وهو أولى من قول بعضهم وبعد- فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) والشاهد في الحديث أنه ينبغي لزوم هدي النبي ﷺ، وأن خير الهدي هدي النبي ﷺ، وفيه تحريم البدع وأنها كلها ظلالات، وما قاله بعض العلماء من تقسيم البدع إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ليس بجيد، بل الصواب أن البدع كلها سيئة، وكلها ضلالة، ولا يوجد في البدع شيء حسن.
1 / 8
فلاح من كانت شرته إلى السنة
الملقي: [ذكر إثبات الفلاح لمن كانت شِرَّته إلى سنة المصطفى ﷺ.
أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا أبو خيثمة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شعبة عن حصين بن عبد الرحمن عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: (إن لكل عمل شرة وإن لكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي، فقد أفلح، ومن كانت شرته إلى غير ذلك فقد هلك).
قال في شعيب الأرنؤوط: إسناده الصحيح على شرطهما] ومعنى (شرة) أي: قوة ونشاطًا، وقد يعتري هذا النشاط فترة أي: خمول، وهذا فيه حث على لزوم السنن وأنه ينبغي أن يجعل النشاط والقوة في العمل بالسنة.
قال الطحاوي: فوقفنا بذلك على أن هذه الشدة في الأمور التي يريدها المسلمون من أنفسهم في أعمالهم التي يتقربون بها إلى ربهم ﷿، وأن رسول الله ﷺ أحب منهم فيها ما دون الشدة التي لابد من القصر عنها والخروج منها إلى غيرها، وأمرهم بالتمسك من الأعمال الصالحة بما قد يجوز دوامهم عليه ولزومهم إياه حتى يلقوا ربهم.
1 / 9
سنن المصطفى كلها متلقاة عن الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الخبر المصرح بأن سنن المصطفى ﷺ كلها عن الله لا من تلقاء نفسه.
أخبرنا محمد بن عبيد الله بن الفضل الكلاعي بحمص حدثنا كثير بن عبيد المذحجي حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن مروان بن رؤبة عن ابن أبي عوف عن المقداد بن معد يكرب عن رسول الله ﷺ أنه قال: (إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شعبان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنه ليس كذلك)].
وهذا فيه بيان بأن السنة وحي من الله ﷿، وأنه لابد من الأخذ بالسنة، ومن لم يأخذ بالسنة فهو كافر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، وفي رواية أن النبي ﷺ قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) وهي السنة، يوشك شعبان متكئ على أريكته أي: على سريره، وينكر السنة ويقول بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أي: ولا يعمل بالسنة وبقول الرسول ﵊.
والحديث إسناده قوي، أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والطبراني والبيهقي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أحمد بن علي بن المثنى حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن مالك بن أنس عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا أعرفن الرجل يأتيه الأمر من أمري، إما أمرت به، وإما نهيت عنه، فيقول: ما ندري ما هذا، عندنا كتاب الله ليس هذا فيه)].
وهذا تحذير من رد كلام الرسول ﵊ بحجة أنه لا يوجد في كتاب الله وهذا خطأ، فالسنة وحي من الله من أنكرها كفر.
1 / 10
الزجر عن الرغبة عن سنة المصطفى بغرض زيادة ما ليس فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر الزجر عن الرغبة عن سنة المصطفى ﷺ في أقواله وأفعاله جميعًا.
أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك ﵁: أن نفرًا من أصحاب النبي ﷺ، سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)].
رواه الشيخان في الحث على لزوم السنة والعمل بها، وأن السنة وهدي النبي ﷺ هو أكمل الهدي وأن ما يفعله بعض الناس من زعم أحدهم أنه يعمل عملًا زائدًا عن السنة فهذا ضلال، لكن هؤلاء الصحابة دفعهم باب الاجتهاد فزجرهم النبي ﷺ.
1 / 11
أمر رسول الله أمته بما يحتاجون إليه من أمر دينهم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل ذكر البيان بأن المصطفى ﷺ كان يأمر أمته بما يحتاجون إليه من أمر دينهم قولًا وفعلًا معًا.
أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الدغولي حدثنا محمد بن يحيى الذهلي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ رأى خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنزعه فطرحه، فقال: (يعمد أحدهم إلى جمرة من النار، فيجعلها في يده) فقيل للرجل بعدما ذهب خذ خاتمك، فانتفع به، فقال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله ﷺ].
وهذا فيه تحريم الذهب على الرجال فلا يجوز للرجل أن يلبس الذهب، لكن يجوز له أن يتختم بخاتم من الفضة، فقد ثبت أن النبي ﷺ في أول الأمر كان يلبس خاتمًا من ذهب والصحابة كذلك ثم جاء النهي فنزعه النبي ﷺ، ونزع الصحابة خواتمهم، وحرم بذلك الذهب على الرجال.
وقد نهى ﵊ هذا الرجل عن التختم بالذهب، وهو نهي للأمة كلها؛ لأن الشريعة عامة.
1 / 12
بطلان قول من زعم أن أمر النبي لا يجوز إلا أن يكون مفسرًا يعقل من ظاهر خطابه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن أمر النبي ﷺ بالشيء لا يجوز إلا أن يكون مفسرًا يعقل من ظاهر خطابه.
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (إذا نودي بالأذان أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان، أقبل فإذا ثوِّب بها أدبر، فإذا قضي التثويب، أقبل يخطر بين المرء ونفسه: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر)].
وهذا فيه حرص الشيطان على افساد عبادة ابن آدم، وفيه أن ذكر الله يضايق الشيطان وأنه لا يطيقه، فإذا نودي بالأذان أدبرُ له ضراط حتى يشوش على نفسه فلا يسمع الأذان، ثم يقبل، فإذا سمع التثويب وهو الإقامة -وقيل بأن التثويب: رجوع إلى الإقامة- هرب ثم يقبل فيوحي للإنسان ويقول له: اذكر كذا اذكر كذا، فلا يزال يذكره حتى لا يدري كم صلى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(حتى يظل الرجل إن يدري كم صلى، فإذا لم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس)].
إذا شك في صلاته فيسجد سجود سهو وطالما أن عنده غالب الظن فإنه يسجد سجدتين قبل السلام، فإن لم يغلب عليه الظن فإنه يتم صلاته ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، وجاء هذا في حديث ابن مسعود.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو حاتم ﵁: أمره ﷺ لمن شك في صلاته، فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس أمر مجمل تفسيره أفعاله التي ذكرناها، لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو قبل السلام، فيستعمله بكل الأحوال، ويترك سائر الأخبار التي فيها ذكره بعد السلام، وكذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ الأخبار التي فيها ذكر سجدتي السهو بعد السلام، فيستعمله في كل الأحوال، ويترك الأخبار الأخر التي فيها ذكره قبل السلام].
أي: لابد من ضم الأدلة بعضها إلى بعض.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونحن نقول: إن هذه أخبار أربع يجب أن تستعمل، ولا يترك شيء منها، فيفعل في كل حالة مثلما وردت السنة فيها سواء، فإن سلم من الاثنتين أو الثلاث من صلاته ساهيًا، أتم صلاته، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر أبي هريرة وعمران بن حصين اللذين ذكرناهما، وإن قام من اثنتين ولم يجلس، أتم صلاته، وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على خبر ابن بحينة وإن شك في الثلاث أو الأربع يبني على اليقين على ما وصفنا، وسجد سجدتي السهو قبل السلام، على خبر أبي سعيد الخدري وعبد الرحمن بن عوف وإن شك ولم يدر كم صلى أصلًا، تحرى على الأغلب عنده، وأتم صلاته، وسجد سجدتي السهو بعد السلام، على خبر ابن مسعود الذي ذكرناه حتى يكون مستعملًا للأخبار التي وصفناها كلها، فإن وردت عليه حالة غير هذه الأربع في صلاته، ردها إلى ما يشبهها من الأحوال الأربع التي ذكرناها].
1 / 13
وجوب الجنة لمن أطاع الله ورسوله فيما أمر به ونهى عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر إيجاب الجنة لمن أطاع الله ورسوله فيما أمر ونهى.
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل ببست ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف بنيسابور قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (والذي نفسي بيده! لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد على الله كشراد البعير قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) قال أبو حاتم: طاعة رسول الله ﷺ هي الانقياد لسنته بترك الكيفية والكمية فيها، مع رفض قول كل من قال شيئًا في دين الله جل وعلا بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة، والمخترعات الداحضة].
أي: أن الإنسان عندما يتلى عليه آيات الله وأحاديث رسوله المحتوية على الأوامر والنواهي فعليه أن يقبل الأوامر والنواهي ولا يتأول تأويلات باطلة.
1 / 14
وجوب اجتناب المنهيات وإتيان الأوامر بقدر الاستطاعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر البيان بأن المناهي عن المصطفى ﷺ والأوامر فرض على حسب الطاقة على أمته، لا يسعهم التخلف عنها.
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وسفيان عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)].
وهذا دليل على أن النواهي يجب تركها، وأما الأوامر فيفعل ما يستطيع يقول الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:١٦]، ولقول النبي ﷺ: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب).
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عجلان فحدثت به أبان بن صالح فقال لي: ما أجود هذه الكلمة قوله (فأتوا منه ما استطعتم!)] قال شعيب الأرنؤوط: [إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين ما عدا إبراهيم بن بشار الرمادي وهو حافظ ثقة، أبو الزناد هو: عبد الله بن ذكوان والأعرج هو: عبد الرحمن بن هرمز والطريق الثاني سنده حسن وأخرجه مسلم في الفضائل.
1 / 15
النواهي سبيلها الحتم والإيجاب إلا أن تقوم الدلالة على ندبيتها
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ذكر البيان بأن النواهي سبيلها الحتم والإيجاب إلا أن تقوم الدلالة على ندبيتها.
حدثنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)].
الأصل في النواهي المنع هذا هو الأصل إلا إذا وجد صارف يصرفها، كما ثبت عن النبي ﷺ أنه نهى عن الشرب قائمًا ثم شرب قائمًا في زمزم عندما جاء وهم يسقون، فصرف النهي عن التحريم إلى التنزيه فصار الشرب قائمًا جائز، والشرب قاعدًا أفضل وإلا فالأصل أن النهي للتحريم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا محمد بن حسن بن قتيبة قال: حدثنا ابن أبي السري قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ: (ما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)].
أخرجه أحمد ومسلم.
وهذا دليل على أن المناهي تترك، أما الأوامر فيفعل الإنسان منها ما يستطيع كما رواه ابن ماجة في التخريجة.
1 / 16
وجوب تنفيذ أوامر الرسول المتعلقة بالدين
قال المؤلف: [ذكر البيان بأن قوله ﷺ: (وإذا أمرتكم بشيء) أراد به من أمور الدين، لا من أمور الدنيا.
أخبرنا أبو يعلى حدثنا عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس بن مالك: (أن النبي ﷺ سمع أصواتًا فقال: ما هذه الأصوات؟ قالوا: النخل يأبرونه، قال: لو لم يفعلوا لصلح ذلك، فأمسكوا، فلم يأبروا عامته، فصار شيصًا فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: إذا كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإذا كان شيء من أمر دينكم فإليّ)].
هذا فيه دليل على أن النبي ﵊ إذا أمر بأمر من أمور الدنيا كتلقيح النخل أو غيرها فلك أن تأخذه ولك ألا تأخذه، أما الأمر الديني فهو واجب التنفيذ.
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم وأخرجه أحمد ومسلم.
قال المصنف ﵀: [ذكر البيان بأن قوله ﷺ (فما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) أراد به: ما أمرتكم بشيء من أمر الدين، لا من أمر الدنيا.
أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا عبد الله بن الرومي حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو النجاشي حدثني رافع بن خديج قال: (قدم نبي الله ﷺ المدينة وهم يؤبرون النخل -يقول: يلقحون- قال: فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: شيئًا كانوا يصنعونه، فقال: لو لم تفعلوا لكان خيرًا، فتركوها فنفرت أو نقصت، فذكروا ذلك له، فقال رسول الله ﷺ: إنما أنا بشر، إذا حدثتكم بشيء من أمر دينكم، فخذوا به، وإذا حدثتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر) قال عكرمة: هذا أو نحوه.
أبو النجاشي مولى رافع، اسمه عطاء بن صهيب.
والتأبير هو التلقيح، وهو أن يأخذ شيئًا من طلع ذكر النخل الذكر ويجعله في همتك أنثى النخل.
1 / 17
انتفاء الإيمان عمن لم يخضع لسنن الرسول الكريم
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر نفي الإيمان عمن لم يخضع لسنن رسول الله ﷺ أو اعترض عليها بالمقايسات المقلوبة، والمخترعات الداحضة.
أخبرنا أبو خليفة حدثنا أبو الوليد حدثنا ليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير ﵃ حدثه أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله ﷺ في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرِّح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله ﷺ: (اسق يا زبير! ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال: يا رسول! الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله ﷺ، ثم قال رسول الله ﷺ: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر)، قال الزبير: فو الله لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥] الآية].
وهذا رواه مسلم في الصحيح، وفيه أن الأنصاري اختصم مع الزبير في شراج الحرة، والشراج أي: مسيل الماء من المطر، فيسقون من ماء المطر فالأعلى يكون هو الأول ثم من بعده ثم من بعده وهكذا، فجاء السيل وكان الزبير الأعلى والأنصاري بعده فلما مر ماء المطر على الزبير وهو يسقي قال الأنصاري: سرح الماء، أي: اجعل الماء يمر على حديقتي أو بستاني، فأبى عليه الزبير حتى يرتوي، ثم يرسل الماء فشكاه إلى النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ للزبير: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فغضب الأنصاري وقال: أن كان ابن عمتك، أي: جعلته يسقي ويبلغ الماء الأرض مجاملة له، فتلون وجه النبي ﷺ لما أغضبه الأنصاري، واستوفى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم، ففي الحكم الأول أشار عليه بالصلح قال: (اسق ثم سرح الماء إلى جارك) فلما أغضبه الأنصاري أعطاه الحكم الصريح قال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يصل إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك) والجدر مرتفع بمقدار ما يغطي الرجل، ثم يرسل إلى جاره فيحبس الماء حتى يغطي الرجل، ثم يرسل إلى جاره، فالنبي ﷺ أعطاه الصلح وقال للزبير: (اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى جارك) والزبير لم يستوف حاجته من الماء، فكيف يرسله فلما أغضبه الأنصاري استوفى النبي ﷺ للزبير حقه في صريح الحكم.
قال الزبير: فأنا أحسب أن هذه الآية نزلت في هذا الرجل: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء:٦٥] هذا الرجل يحسب أنه منافق من المنافقين، ويحسب أنه من شدة الغضب تغير وتكدر ولم يتبين ما في هذه الكلمة، والمؤلف ابن حبان حمله على أنه منفي عنه الإيمان وأنه منافق؛ لهذا ترجم للحديث بقوله: ذكر نفي الإيمان عمن لم يخضع لسنن رسول الله ﷺ أو اعترض عليها بالمقايسات المقلوبة والمخترعات الداحضة.
وقد ابتلي النبي ﷺ بهذا الرجل وأمثاله الذين يعترضون عليه، ومنهم من قال: اعدل يا محمد! فإنك لم تعدل، وأن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فإذا كان النبي ﷺ وهو أشرف الخلق يعترض عليه بهذا فكيف يرجو المسلم أن يسلم من الناس.
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة ومسلم.
1 / 18
بدعية من لم ينقد لسنن رسول الله ومن اعترض عليها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ذكر الخبر الدال على أن من اعترض على السنن بالتأويلات المضمحلة ولم ينقد لقبولها كان من أهل البدع.
أخبرنا أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: (بعث علي إلى رسول الله ﷺ من اليمن بذهب في أدم، فقسمها رسول الله ﷺ بين زيد الخيل والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة فقال أناس من المهاجرين والأنصار: نحن أحق بهذا، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فشق عليه، وقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر من في السماء صباحًا ومساء؟ فقام إليه ناتيء العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الوجه، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال النبي ﷺ: أو لست بأحق أهل الأرض بأن أتقي الله، ثم أدبر فقام عليه خالد سيف الله، فقال: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه، فقال: لا، إنه لعله يصلي، قال: إنه رب مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه.
قال: إني لم أومر أن أشق قلوب الناس، ولا أن أشق بطونهم، فنظر إليه ﷺ وهو مقفٍ، فقال: إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية -قال عمارة: فحسبت أنه قال-: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود)].
وأخرجه مسلم والبخاري].
أخرجه البخاري لكن كأن فيه جمع بين حديثين: حديث: (لم أومر أن أشق بطون الناس ولا أن أنقب) ثم قال: (ألا تراه يصلي) هذا حديث آخر غير حديث الذهيبة، فهذا حديث وذاك حديث.
قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين: أبو خيثمة هو زهير بن حرب وجرير هو ابن عبد الحميد وأخرجه مسلم في الزكاة: باب وصف الخوارج وصفاتهم، من طريق عثمان بن أبي شيبة.
وفيه أن هذا الرجل مبتدع وهذا على القول بأن الخوارج مبتدعة، وهو الذي رسى عليه الصحابة وشجعوه وهذا الرجل هو أصل الخوارج، ومن العلماء من كفرهم كالإمام أحمد لقول النبي: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
1 / 19
النهي عن الحدث في الدين
قال المصنف ﵀: [ذكر الزجر عن أن يحدث المرء في أمور المسلمين ما لم يأذن به الله ولا رسوله.
أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه: أن رجلًا أوصى بوصايا أبرها في ماله، فذهبت إلى القاسم بن محمد أستشيره، فقال القاسم: سمعت عائشة تقول: قال رسول الله ﷺ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)].
وهذا رواه الشيخان في التحذير من البدع والمحدثات في الدين، فالواجب على الإنسان أن يعمل بالسنن وألا يتبع البدع، وفي لفظ لـ مسلم: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد).
1 / 20