الجزء الأول من شرح الرسالة الناصحة
بسم الله الرحمن الرحيم
[ديباجة الكتاب]
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى([21]).
الحمد لله الذي قهر سلطان الملوك سلطانه، وعلى شأن الجبابرة شأنه، فكل مالك([22]) سواه مملوك، وكل قاهر ما خلاه مقهور، ليس له شبيه في ملكه، ولا نظير في سلطانه، كل غني([23]) سواه فقير إلى ما صار به غنيا، وكل ملك غيره ينقلب عما قليل لا يملك من الأمر شيئا، تمت كلمته، ونفذ أمره، وعظم شأنه، وارتفع ذكره، عم الأحياء بنعمته، واختص ما شاء برحمته، فالكل من بريته كامن([24]) في ظل إحسانه، وراتع في روض إنعامه وامتنانه، فالشكر واجب على الجميع، والناس بين عاص ومطيع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مقرونة بالإخلاص، مؤدية بالخلاص.
Page 38
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ابتعثه من أعز جرثومة([25])، وأطيب أرومة، وأشرف خؤولة وعمومه، إختصه بالنبوة من بين تلك الأعارب، وأوجب تصديقه وطاعته على أهل المشارق والمغارب، والأباعد من خلقه والأقارب، فصدع -صلى الله عليه وآله وسلم- بالرسالة، وأدى ما حمل من الأمانة([26])، والناس يومئذ مكبون([27]) على حجارة منحوتة، وعيدان منضودة، يعبدونها ويعكفون عليها، لا يعرفون ربا، ولا يدينون دينا، ولا يطلبون دليلا، ولا يهتدون سبيلا، يأكل قويهم ضعيفهم، ويهضم كثيرهم قليلهم، فأنقذهم الله سبحانه به -صلى الله عليه وآله وسلم- من الضلالة، وهداهم بنور علمه من ظلم الجهالة، فجزاه الله عنا وعنهم أفضل ما جزى نبيا عن عترته، ورسولا عن أمته.
وأشهد أن الإمام بعده بلا فصل، أخوه وابن عمه، الفارج الكرب عن وجهه، وأول من قال لاإله إلا الله معه علي بن أبي طالب -عليه سلام الله وصلواته-([28]).
وأشهد أن الإمامة بعده في ولديه النجيبين الطاهرين، الزكيين، العلمين، العالمين، العاملين، الشهيدين الحسن والحسين ابني رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وسيدي شباب أهل الجنة، إلا ما جعل الله -سبحانه وتعالى- لابني الخالة([29]).
وأشهد أن أمهما الزكية الأمينة، والجوهرة المكنونة، فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، وسلام الله عليها وبركاته- سيدة نساء أهل الجنة، إلا ما جعل الله -سبحانه- لمريم ابنة عمران -عليها السلام-.
وأشهد أن الإمامة بعدهما، فيمن طاب وزكا من ذريتهما، وسار بسيرتهما، وهدى بهديهما، وسلك منهاجهما، وحذا بحذوهما.
Page 39
وأشهد أن الله -تبارك وتعالى- اصطفاهم لذلك من بين البرية،
واختصهم بالكون من تلك المغارس الزكية، فعليهم سلام الله ورضوانه من عترة طاهرة مرضية، ورحم أتباعهم وأشياعهم من جميع البرية، هذا موقع شهادتي، وغاية إرادتي، فمن شهد بما شهدت به كان شريكا في أجر ذلك وفخره، ومن كاع([30]) عن هذه الشهادة كنت عنه نائبا، ولما أعد الله -سبحانه- لمن شهد بها وارثا وطالبا، وكان مخصوصا بعار ترك ذلك ووزره.
[ذكر الدافع له -صلوات الله عليه- إلى إنشاء الأرجوزة]
وبعد ذلك: فقد سألني بعض من يعز عندي مسألتة، وتلزم إجابته،
أن أعمل أرجوزة وجيزة أضمنها أصولا في الدين، وردا على من أنكر فضل عترة محمد خاتم النبيئين -صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين-، من الرفضة المعاندين، وإخوانهم الناصبين، فأجبته إلى ذلك رجاء لما يحصل له فيه من المنفعة، ويدخر لي من الأجر والمثوبة، وجعلتها تذكرة للمنتهي، ووسيلة للمبتديء، ومن الله -سبحانه- أستمد المعونة، وأسأل التوفيق والهداية، وشرحت تلك الأرجوزة شرحا وجيزا إلا فيما لا بد من ذكره، من دليل يحتاج إلى تفصيل، وشرح طويل، فإن ذلك موضع الإقصاء([31])، إلا أني اختصرت الشواهد على غريب لغتها، والإتيان على جميع أدلتها، وقصدت بذلك تخفيف مؤنتها، وتعظيم معونتها، وهي هذه:
[مقدمة الأرجوزة وشرحها]
[1]
الحمد للمهيمن المنان .... جم النوال باسط الإحسان
ذي الطول والعزة والسلطان .... لكل ذي شدق وذي لسان
من غير تقريظ ولا سؤال
(الحمد): هو التعظيم لمن أضيف إليه هذا اللفظ، ولا يجوز إلا لمن استحق ذلك، ولا أحق به ممن ابتدأنا بأصول النعم([32])، ومن هو مختص بصفات الكمال وليس ذلك إلا الله -سبحانه-.
ومعنى الحمد: قريب من معنى الشكر، إلا أن بينهما فرقا من حيث أن الشكر: هو التعظيم مع ذكر النعمة التي شكر عليها.
Page 40
والحمد: لا يفتقر إلى ذلك، فمن عظم غيره ولم يذكر منه نعمة عليه كان حامدا ولم يكن شاكرا.
و(المهيمن): هو الشاهد.
و(المنان): هو المعطي، والعطية: هي المنة، و(المن): هو العطاء بغير تنغيص ولا تكدير.
(الطول): هو إتساع القدرة وتمكن البسطة.
(العزة): هي المنعة، والتعزز: التمنع، والعزيز: هو الممتنع الجانب.
(والسلطان): هو القدرة ها هنا.
(والجم من كل شيء): هو الكثير، (والنوال): هو العطاء، (والبسط): هو التوسيع.
ومعنى الإحسان والإنعام: واحد.
(الشدق): هو شق الفم، قال بعض الصالحين: (إن من شق الأشداق، تكفل بالأرزاق)، (واللسان): هو العضو المخصوص المعروف.
(والتقريظ): -بالظاء معجمة من أعلى-: هو المدح والتعظيم بالقول،.
(والسؤال): هو الطلب، وهذه صفة الباري -سبحانه- مع الخلق، فما
به مخلوق إلا وقد أحسن إليه بغير مدح ولا طلب، فسبحانه من كريم ما أعظم أياديه، ومتفضل ما أسوأ أدب من يعاديه.
[باب إثبات الصانع]
[2]
مركب الأرواح في الأجسام .... مجري الرياح منشئ الغمام
كالبرك من سائمة الأنعام .... من الحنين الجم والارزام
فاعتبري يا أمة الضلال
(الأرواح) ها هنا: جمع روح، والروح: هو النفس المتردد في مخارق الحي عند أهل العلم واللغة، ومنبعه من القلب، وليس للإتساع في ذكره ها هنا وجه، وقد قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (صلوات الله عليه)([33]): (وعلق في صدره قلبا، وركب فيه لبا، وجعله وعاء للعقل الكامل، وحصنا للروح الجائل).
Page 41
[ذكر طرف من كلام الناس في الروح والعقل]
وإذا قد ذكرنا الروح والعقل فلنذكر طرفا من كلام الناس فيهما:
إذ قد وقع بين الناس في أمرهما إختلاف.
[الإختلاف في الروح]
إعلم: أن من الناس من نفى أن يقع العلم لأحد من المكلفين بماهية الروح، وتعلق بظاهر قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا(85)} [الإسراء]، مع قولهم: إن الروح أمر واحد.
وفي الناس من يزعم أن في الإنسان نفوسا وأرواحا، وأن النفوس نامية، وحسية، وشهوانية، وناطقة، وغضبية، وأرواح وقوى، وجواهر بسيطة لا حجم لها ولا كثافة فيها، وكل واحدة لها عمل عندهم، فالنامية تنمي النبات والحيوان، والحسية بها تدرك المدركات، والشهوانية بها تراد المرادات، وبها يطلب الغذاء والمؤانسة والمحافظة، والناطقة بها تحصل العلوم والمعارف، ولا خلاف بين أهل هذه المقالة أن الإنسان إذا مات وذوي الشجر تلاشت هذه النفوس، فلا إعادة فيها أصلا إلا الناطقة فقد وقع بينهم الخلاف فيها : فمنهم : من قال بتلاشيها، ومنهم من قال تبقى لا في شبح ويستحيل عليها الفناء، وهذا القول ينسب إلى قوم من الأوائل، وربما قال به قوم من الباطنية([34])، وإن كانوا لا يثبتون على قول يستمر حكايته عنهم، إلا أنهم يقولون: إن الذي فينا بعض من كل، فإذا تخلصت الأرواح من الأجساد لحقت العوالم من هذه بعالمها وبقيت بقاء لا انقطاع له وصارت ملكا وصورة روحانية، والجواهر تحير ولا تهتدي المسالك، فتبقى تحت الفلك في حيرة، وهذا قريب من قول بعض الفلاسفة في النفوس وإن لم يحصلوا ذلك التحصيل، والكل عندنا باطل بما يأتي إن شاء الله -تعالى- من الدليل على إثبات صانع موصوف بصفات الكمال، عدل حكيم، بعث فينا رسولا، لا يجوز عليه الكذب، أخبرنا بالأمور مفصلة، فوجب علينا القول وترك التكمه([35]) بغير دليل، فحينئذ الكلام في هذه المسألة ينحسم([36]) بالكلام في ذات الباريء وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز في ذاته وأفعاله وأحكام أفعاله، وأن ما يدعون من النفس الكلي والعقل الأول لا أصل له، إذ لا طريق من طرق العلم يوصل إليه.
Page 42
فأما النمو فإنما يقع بزيادة الباريء في الأجسام، وإنما اختص الحيوان والنبات لأنه -سبحانه- أجرى بذلك([37]) وجود الحياة وهي المصححة للشهوة والنفرة، والداعي يشمل الأمرين.
وفي الناس من زعم أن الروح في الإنسان الدم وفي كل حيوان، وجعل الروح غير النفس الناطقة، وهذا يروى عن جالينوس، وعمدته: أن الإنسان يموت بنزف الدم وتفريغه منه.
ومنهم من يزعم أن الروح في قلب الإنسان وهو([38]) حي عالم، وهذا يروى عن النظام([39]).
ومنهم من يزعم أن الروح جسم لطيف مؤلف تأليف الإنسان إلا أنا لا نراه، وهذا القول يروى عن قوم من الإمامية وأصحاب الحديث.
ومنهم من يقول: إنها خلقت قبل هذه الأجساد وعرض عليها التوحيد لقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف:172]، إلى خرافات ينسبونها إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا طريق إلى تصحيحها، ولا ملجئ إلى الكلام فيها.
فأما هذه الآية في قوله تعالى: {ألست بربكم}[الأعراف:172] فظاهرها يقضي بتقدم الأجساد على الأرواح؛ لأن الظهور لا يكون إلا في الأجساد، فإذا أخرجت منها فهي قبلها، والأصل في تشعب هذه المقالات إهمال العقول، وإطراح الدليل، ومخالفة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- في أمر هذه الأمة بالرجوع إلى أهل بيت نبيها، الذين شهد لهم بملازمة الكتاب، إلى يوم الحساب، وأخبر أن فيهم العلم والصواب؛ لأن أهل هذه المقالة لايجدون إلى ما يدعون منها دليلا، ولا يهتدون له سبيلا، ولو كان لهم دليل أو شبه([40]) دليل لتكلمنا عليه، فالحمد لله الذي جعلنا لذلك أهلا، وموضعا ومحلا، وكفى بالمذهب فسادا أن لا يقوم عليه دليل.
Page 43
[أقوال العلماء في الروح]
فأما قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} [الإسراء:85]، فللعلماء فيه أقوال كلها توافق أدلة العقول.
منها: أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- لما ادعى النبؤة وأنكرت قريش ذلك فزعوا إلى اليهود لأنهم أهل الكتاب، فقالت لهم اليهود([41]): إسألوه عن ثلاث مسائل: عن أصحاب الكهف([42])، وذي القرنين([43])، وعن الروح ما هو؟
Page 44
فإن أجاب عن الجميع فهو كاذب، وإن كف([44]) عن الجميع فهو كاذب، وإن أجاب عن أصحاب الكهف وذي القرنين وأجمل الجواب عن الروح فهو نبي صادق، فأتوا إليه فسألوه، فأمره الله بما حكى في كتابه، وأمسك عن الروح، فلزمت الحجة لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- الفريقين من قريش واليهود، ولا يمتنع في الحكمة أن يصرفه عن الجواب فيما يعلم الله لحصول مثل هذا الغرض العظيم، كما منع زكريا عن الكلام آية له وقد كان مقدورا له قبل ذلك.
ومنها: أنهم لما سمعوه يقرأ : {يوم يقوم الروح والملائكة صفا} [النبأ:38]، قالوا: ما هذا الروح الذي يقوم صفا والملائكة صفا؟!
فأخبرهم أنه خلق من خلق الله عظيم، فاستعظموا ذلك، فأمره الله -تعالى- أن يجيبهم عن إستعظامهم بقوله : هو {من أمر ربي} [الإسراء:85]، أي من خلق ربي، لأن الأمر قد يعبر به عن الخلق يقول: هذا أمر عظيم، كما يقول: هذا خلق عظيم، يقول: ربي قادر لذاته، فلا يمتنع عليه ما يشاء فلا تستعظموه، فليس على قدرته عظيم.
ومنها: أنهم لما سمعوا قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين(193)} [الشعراء]، قالوا: من هذا الروح؟! وما صفته؟!
فأمره الله أن يجيبهم بقوله: {قل الروح من أمر ربي}[الإسراء:85].
ومنها: أنه لما سمى الله القرآن روحا بقوله تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا}[الشورى:52]، سألوه عنه، وأمره الله -تعالى- بإضافته إليه، وأنه لم يأت به من تلقاء نفسه.
Page 45
وقد رأيت لبعض آبائنا صلوات الله عليهم أقوالا تدل على تبقية الجواب فيه على الإجمال في هذه الآية إتباعا للظاهر، فإذا سئلوا عن تفصيله أجابوا بما قلناه أولا كما حكيناه عن الهادي -عليه السلام-.
ولا فرق عند أهل الشريعة بين الروح والنفوس، وطريقهم إلى العلم بذلك السمع من الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم}[الأنعام:93]، أجمعوا أن المراد بذلك أرواحهم، وإن كان لفظ النفس يخرج على معان([45]) كثيرة لا يحتمل هذا المختصر الكلام فيها.
Page 46
والروح في الشريعة ورد أيضا في المعاني([46]) التي قدمنا ذكرها إلا أنه إذا أضيف إلى الإنسان لم يفد إلا ما ذكرنا.
فأما من طريق العقل: فقد تقرر في العقول أن الحي بحياة لا يكون حيا إلا لمعنى يحله وأن ذلك المعنى لا بد له من شروط ولوازم: منها: ما هو ثابت بمجرى العادة من القديم سبحانه، ومنها: ما يجب حصوله ولا بد منه من جهة العقل، وموضع تفصيل الكلام في هذا كتب الكلام البسيطة فلا وجه لذكره ها هنا.
Page 47
[الكلام في العقل وماهيته]
فأما الكلام في العقل وماهيته:
فالكلام فيه يقع بيننا وبين قوم من الأوائل([1]) والمنجمين([2]) وأصحاب الطبائع([3]) في ثلاثة وجوه:
في محدثه، هل هو مختار أو موجب؟
وفي ذاته، ما هي؟ وفيه هل يحل أم لا يحل؟، وإن حل فأين محله؟
فأما تسميته، فالأمر فيها فيما يخص الإنسان أهون، ولكن يعظم في مدبر العالم؛ لأن من الأوائل من زعم أن المدبر جوهر بسيط يعلم ذاته ويعلم ما دونه جملة وتفصيلا، ولا يعلمه مفصلا إلا هو، فلإحاطته بالأشياء سمي عقلا، وربما عبروا عن النفس بالعقل الثاني، كما أن العلة في النفس هي العقل الأول، فإذا كان ذلك كذلك لم يمتنع ما قالوا، بل وجب أن نسمي ما به يعلم الإنسان نفسه، وما يشاهده، وما ينهيه إليه الدليل، وما يتسق به التدبير عقلا، ونحن لا نسلمه ؛ لأن الأسامي المعتمدة شرعية ولغوية، ولا دليل في الشرع على تسمية الباريء -سبحانه- عقلا، ولا في اللغة على ما يأتي بيانه، وكل ما لا دليل عليه يجب القضاء بفساده، ولا يترجح إثباته على نفيه، فسقط.
وفيهم من يقول: ما في الإنسان من العقل -مع الإختلاف في حلوله ومحله وما هيته- جزء منه -أعني من العقل-.
ومنهم من يقول: أثر منه.
Page 48
فأما أهل النجوم: فيضيفون السداد من الأمور، وما نسميه عقلا، إلى تأثيرات الكواكب، وسعادة الموالد في أصل الخلقة.
وأما أصحاب الطبائع: فأضافوا العقل الحاصل للعاقل أو فيه -
على حسب الخلاف في ذلك - إلى إعتدال المزاج على غاية الكمال، فحينئذ تتولد هذه القوة المميزة على قدر الإعتدال في الكمال والنقصان، وهي التي سميت عقلا.
[ذكر قول أهل الحق في بيان العقل]
والذي ذهب إليه أهل الحق من الأئمة الأعلام -عليهم أفضل السلام-، والمحصلون من علماء أهل الكلام : أن العقل مجموع علوم يحدثها الله -تعالى- في الإنسان من أول نشوئه إلى لزوم التكليف له شيئا بعد شيء فإذا كملت كمل عقله، وإن لم تكمل لم يكمل عقله، وإن لم تحصل فلا عقل له، وإن حصل بعضها دون بعض فهو ناقص العقل([4]).
فمنها: أصول لا بد من حصولها لمن أراد الحكيم، سبحانه، تكليفه.
ومنها: زيادات يختص بها من يشاء من عباده كما قال سبحانه:
{يختص برحمته من يشاء}[البقرة:105]، فلولا ذلك لم يكن للآية معنى، ولا بد من ذكرها بمشيئة الله، سبحانه وتعالى، أولا، ثم نعقبه بالدليل على صحة ما نذهب إليه فيها.
[بيان علوم العقل الموصلة إلى معرفة الله -تعالى-]
إعلم: أن أول علوم العقل التي يصح بها الوصول إلى معرفة الله -تعالى- علم الإنسان بنفسه وأحوالها؛ من كونه مشتهيا ونافرا، ومتألما وظانا، وعالما بالشيء أو جاهلا له، أو قاطعا أو مجوزا، إلى غير ذلك مما يعلمه كل عاقل من أحوال نفسه، فهذا أول ما يحصل، ثم يترتب عليه ما نذكره.
ثم بعد ذلك العلم بالمشاهدات، لأن العلم بالغير فرع على العلم بالنفس.
ثم بعد ذلك العلم بأن النفع حسن إذا تجرد عن المضار في الحال والمآل، وأن الضرر قبيح إذا تجرد عن المنافع في الحال والمآل، ويتصل بذلك العلم بأن لفعله به إختصاصا لوقوفه على دواعيه حتى يمكنه الإعتذار من قبيحه، والإزدياد من حسنه، دون فعل غيره.
Page 49
ثم يتبع ذلك العلم بأحكام الأفعال: وهو أن الحسن يستحق عليه المدح، والقبيح يستحق عليه الذم.
ثم يتبع ذلك علم البدايه([5]): وهو أن العشرة أكثر من الخمسة، وأن المعلوم لا يخلو من كونه موجودا أو معدوما، وأن الموجود لايخلو من كونه قديما أو محدثا، وما شابه ذلك.
ثم يتبع ذلك العلم بمقاصد العقلاء في الأمور التي تنبيء عن التعظيم وعن الاستخفاف بشرط المشاهدة، والعلم بالمواضعة، فهذا مما تختلف أحوال العقلاء فيه، في البطء في معرفته والسرعة، ولا بد من حصوله لكل عاقل، ومن لم يحصل له فهو ناقص.
ويتبع ذلك العلم بمخبر الأخبار المتواترة؛ لأن من أخبرنا عن نفسه، أنه لا يعلم صحة قول الناس إن في الدنيا مكة وخراسان، وغيرهما من البلدان، وإن محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يعلم صحة دعواه للنبوءة ومجيئه بالقرآن، ودعواه أنه معجزة له، وحجة على من خالفه، يعلم نقصان عقله ، أو كذبه في قوله، ومن ذلك الذكر للأمور القريبة العهد العظيمة، وما تقدم من أفعاله الجلية نحو تنقله في البلدان، وحفظه لما يكثر درسه من العلوم، وهذا تختلف أحوال العقلاء في بعضه في البطء والسرعة، وبه يمتاز([6]) العقل الموجب للتكليف، عن كل من كمل فيه ما تقدم ذكره، ولهذا إحتج بعض علماء أهل العدل على أهل التناسخ([7]) بأنا لو كنا في هياكل غير هذه الهياكل، وتصرفنا في الدنيا بأنواع التصرف؛ قبل هذه البنية التي نحن فيها، لذكرنا ذلك؛ إذ ذكر مثل ذلك من تمام العقول، فلما لم نذكره والحال هذه قطعنا على بطلان ما قالوه، وبمثل هذا نقطع على أن مالنا وأهلنا هم([8]) الذين نشاهدهم، وإن جاز أن يخلق الله [تعالى] مثلهم ويسترهم عنا ومن شك في ذلك استنقصنا عقله، ومن أهل العلم من جعل هذا من علم العادات، ورأينا ما ذكرنا؛ فهذه علوم إلاهية؛ لايمكن العاقل دفعها مع بقاء عقله.
Page 50
ثم يتبع ذلك علم التجارب: وهو الزيادات المشروطات، وأحوال
الناس فيه تختلف، فمنهم من يبلغ فيه الغاية القصوى، ومنهم من يقف دون ذلك.
[الرد على من يقول إن المدبر جوهر بسيط]
[وأما من زعم من الأوائل أن المدبر جوهر بسيط يعلم ذاته، ويعلم ما دونه، ولإحاطته بالأشياء سمي عقلا،([9])] ففساده من اللغة والشرع:
أما اللغة: فلأنه مأخوذ من العقل وهو المنع كما قدمنا، ولا دليل على خلافه، ولا مانع له تعالى؛ لأن علمه لذاته حاصل في الأصل لا عن مؤثر، لولا ذلك لم يكن عالما لذاته، وقد قامت الأدلة بصحته، وغناه واجب له، لعلمه واستحالة الحاجة عليه، فلا داعي له سبحانه إلى القبيح، يمنعه سبحانه علمه بقبحه وغناه عنه - عن فعله - فيكون فيه معنى العاقل فيسمى عقلا للمبالغة كما سميناه تعالى عدلا فبطل أن يسمى عاقلا لمثل ذلك أيضا.
وأما الشرع: فقاعدته الكتاب والسنة، ولا دليل فيهماعلى شيء من ذلك، فهذا ما احتمل هذا المكان من الكلام في معنى العقل وحقيقته، ولم سمي؟ وتسميته.
Page 51
[الخلاف في محل العقل]
وأما الخلاف في محله: فهو واقع بيننا وبين الفلاسفة، وأصحاب الطبائع، فإنهم يقولون إن محله الدماغ.
وعمدتهم في ذلك: أنه إذا فسد الدماغ ذهب العقل، وهذا باطل؛ لأنا قد أجمعنا نحن وإياهم، بل الكافة، أن الكبد والطحال لا يتوهم حلول العقل فيهما، وإن كان بفسادهما يفسد العقل.
فإن قيل: إنا نريد الفساد مع بقاء الحياة.
قلنا: ونحن لا نسلم بقاء الحياة مع فساد الدماغ في مجرى العادة، ومذهبنا أن محله القلب، كما تقدم ذكره عن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عليه السلام- من قوله: (وعلق في صدره قلبا، وركب فيه لبا)، وهو مذهب الكافة من الأئمة الأعلام، وعلماء الإسلام، وقد احتج لذلك بعض علماء أهل العدل بأن الإنسان يجد العلم، والظن، والإعتقاد، والإرادة، والكراهة، والفكر، كأنها تتولد من ناحية صدره، وقد وقع الإجماع من العقلاء على نفيه عن جميع الأعضاء الباطنة مثل الطحال والكبد والرية، فلم يبق لحلوله جهة يتوجه الكلام فيها إلا القلب، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه، فلذلك قضينا بحلوله في القلب، وهذا القول يمكن أن يعارض بأن البخار إذا صعد إلى الدماغ فغطى عليه زال العقل، ومن قولهم: إن أهل العلة يعلمون ذلك عند البروء.
Page 52
ويمكن أن يتخلص منه بأنه لا مانع من أن يكون الحكيم -سبحانه- جعل للقلب موادا من الدماغ، فإذا صعد البخار بقدرة الحكيم -تعالى- إنقطعت المادة فأزال العقل سبحانه بمجرى العادة، كما يعلم أنه تعالى أجرى العادة بأن من قطعت أنثياه لم يخلق له لحية بمجرى العادة، بل يزيلها وإن كان ذلك لمواد جعلها فيهما للحية لا نعلمها، ولا يعلم وجه الحكمة في جعلها كذلك مفصلا إلا هو، وكما يمكن ذلك يمكن أن يعارض قولهم بأن المزاز([10]) إذا غطى على القلب زال العقل بمجرى العادة من الحكيم -سبحانه- وأهل العلة يعلمون ذلك كما قالوا فيما ذهبوا إليه، ولا يمكنهم معارضتنا في ذلك بأن الفؤاد باق في النائم والعقل زائل بالإجماع، لأنا لا نقول: إن العقل هو القلب، وإنما قلنا: هو محله، ولا يمتنع زوال الحال مع بقاء المحل، وإنما يمتنع عدم الشيء مع بقاء ذاته عند كل عاقل متأمل، وإنما يلزم قولهم فرقة تنسب إلى الزيدية [- نقل من نسخة أخرى بخطه أيضا: (وهم كفار على الحقيقة يرجعون إلى مقالة المجوس والثنوية والطبيعية، ولهم من كل ضلالة أرداها)، إنتهى ([11])] يقال لها المطرفية، فإنهم يقولون إن العقل هو القلب نفسه، ولا أعلم لهم في ذلك عمدة من دلالة العقل، ولا من كلام آبائنا -عليهم السلام-، ولا أتباعهم من علماء الإسلام، وما ذكروه لازم لهم ومن قال بقولهم، وأما على قولنا فلا يلزم.
Page 53
[الأدلة من القرآن على أن القلب محل العقل]
يؤيد ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون
بها}[الأعراف:179] والفقه: هو العلم.بدليل أنك لا تقول: فقهت هذا الأمر وما علمته، ولا علمته وما فقهته، بل يعد من قال ذلك مناقضا وذلك بدلالة([12]) تطابق اللفظين على معنى واحد كالجلوس والقعود، وقوله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(46)}[الحج]، وقوله سبحانه: {وقلوبهم وجلة([13])}[المؤمنون:60]، وقال سبحانه: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب(28)} [الرعد] وقوله تعالى: {فتخبت له قلوبهم}[الحج:54]، وقوله تعالى: {ثم تلين جلودهم وقلوبهم [إلى ذكر الله]}[الزمر:23] إلى غير ذلك من آيات القرآن الكريم التي تدل كل آية بلفظها ومعناها؛ على أن القلب محل العقل وآلته، كما جعل الله -سبحانه- اللسان آلة الكلام، والعين آلة النظر، فلا يوجد شيء من تلك المنافع إلا في آلته بمجرى العادة منه سبحانه، وإن كان في المقدور أن يجعل تعالى خاصة كل آلة في أختها، فإنما جعل العادة منه تعالى جارية بذلك لما لا يعلمه مفصلا إلا هو.
[الأدلة من السنة على أن القلب محل العقل]
ومما يؤيد ذلك من السنة ما روي عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إن في الجسد بضعة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، قالها ثلاثا))([14]).
وماروي عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((القلوب أوعية وخيرها أوعاها)).
Page 54
وشفع ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صلوات الله عليه-: (المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه)، وقد أكثر الأنبياء -صلوات الله عليهم- والأئمة -عليهم السلام-، وسائر العلماء والحكماء، وصف القلوب بالعقل، واللب، والحجا، والنهى، والبصيرة، والحجر، فعلم بذلك أن محله - أعني العقل - القلب، وأنه ما قدمنا من العلوم بما قدمنا من الدلالة، وأنها علوم أولية، من فعل القديم -سبحانه- تلزم الحجة بحصولها، وتزول بزوالها، ويقف حصولها وزوالها على اختيار الحكيم -سبحانه- وإرادته خلافا لما ذهبت إليه الفلاسفة([15]) وأهل الطبائع والنجوم، لأن الفلاسفة أثبتوا علة ونفوا الفاعل المختار، ولا يلزمنا - مع إثبات الفاعل المختار -سبحانه- الذي قام الدليل بصحة دعوانا فيه - ما يلزم الفلاسفة وأصحاب النجوم والطبع.
لأنا نقول: إنه تعالى إذا أراد زوال العقل زال مع بقاء الحياة
والقلب والدماغ، وإذا أراد وجوده وجد، ويزيله عنه حدوث النوم في مجرى العادة، ويعيده كما أبداه عند اليقظة لمن شاء، وهو ما قدمنا ذكره من العلوم، لأنه لا يمكن دعوى حصول العقل لمن عدمها وإن وجد قلبه ودماغه بالإضطرار عقلا، ولا كمال العقل لمن عدم بعضها، ويعلم باضطرار العقلاء حصول العقل لمن وجدت فيه وإن لم يحضر سواها بالبال، وذلك معلوم لكل منصف.
[الكلام على الفلاسفة وأهل النجوم]
وكلامنا على الفلاسفة ظاهر لأن معولهم على العلل الموجبة، وقد علمنا أن اختصاص العلل بالإنسان في حال يقظته ومنامه على حد واحد، والعلل لا تفتقر في إثباتها إلى سوى الإختصاص، وذلك معلوم لهم ولنا بالدليل، ومعلوم زوال العقل عن النائم فبطل أن يكون عقله لعلة موجبة.
Page 55
ولا يصح التعويل على اعتدال المزاج أيضا لمثل ذلك، لأن اعتدال
المزاج ثابت للنائم ثبوته لليقظان، وعقل النائم زائل لولاه لاحتاج عند كل يقظة إلى العلاج، ومعلوم خلافه، وبمثل ذلك أيضا يبطل قول أصحاب النجوم لأن الطالع واحد، والأسباب والمقابلة واحدة، وجميع ما يتوهم تأثيره في حال اليقظة والمنام على سواء، لم يختلف الحال فيزول في حال النوم ويعود في حال اليقظة، فلا بد من مزيل ومعيد، وليس ذلك إلا الله -تعالى- لخروج العقل عن مقدور كل قادر سواه.
[ذكر ثمرة العقل]
وهو مما يجب أن يشكر تعالى عليه، بل هو من أجل نعمه على عباده، لأن به تنال الأغراض الشريفة، ويرقى إلى الدرج العالية، وتفتح الأمور المستصعبة، وتسد الثغور، ويساس الجمهور، ويستظهر به على الفيل مع عظمه، وعلى الأسد مع شجاعته وقوته، وعلى المغير مع جلده، وبه يعبد الرحمن، ويشكر المنان، وتورث الجنان، ولا تنقضي ذكر ثمرته وإن كثر الكلام وطال الشرح، والحمد لله تعالى عليه خاصة، وعلى نعمه عامة، ولا سبيل بحمد الله لأحد إلى رد ما ذكرنا.
Page 56
[الكلام على من نفى الصانع من الفلاسفة]
وإنما حمل من قدمنا ذكر خلافه على الخلاف فيه كلامهم في نفي الصانع المختار، فطلبوا لذلك العلل؛ لأن الأوائل زعموا أن الباريء -تعالى- بلسان الشريعة علة موجبة للعقل الأول، وأن العقل الأول أوجب النفس، وأن النفس أوجبت الهيولى والصورة، والهيولى والصورة أوجبت الأجسام كلها الفلك بما فيه وما تحته، فلما اختلفت الأجسام والموجب غير مختلف الإختلاف اللغوي، وهم لا يرجعون إلى فاعل مختار، فنظروا النبات ينمو ولا فاعل عندهم يختار نموه على الوجه الذي يريد من المصلحة، أثبتوا قوة وطبيعة، ونفسا وإحالة؛ على حسب إختلافهم في العبارة التي ترجع عند التحقيق والمطالبة إلى معنى واحد، فلما اختلف عليهم النامي إلى حيوان وجماد، وكان في الحيوان حس ودركة([16]) أثبتوا في الحي معنى حساسا سموه القوة الحساسة، وسموه النفس الحسية، وطلبوا لاختصاصه من بين الأجسام بهذه الحالة ونفي الحكيم المختار -سبحانه- على الحد الذي أثبتناه عليه، من أن الفرع والأصل في ثبوت الحاجة إليه على سواء، فقالوا: لا بد من اعتدال المزاج وهو المؤثر في ذلك.
Page 57