Sharh Musnad al-Darimi
شرح مسند الدارمي
Maison d'édition
بدون
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٤٢ هـ - ٢٠٢١ م
Genres
مقدمة الشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين
نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين وبعد:
فقد بدأت هذا العمل المبارك في المدينة النبوية اليوم الجمعة ١٦/ ١٢/ ١٤٣٨ هـ لأن من أنفس ما تُشغل به الأوقات وتستنفد فيه الأعمار بعد القيام بما فرض الله ﷿ من العبادات طلب العلم، وإذا أطلق لفظ العلم فالمراد به علم الكتاب والسنة، فهو أشرف العلوم، لما فيه من بيان ما فرض الله ﷿ على عباده من الطاعات، وصحة الاعتقاد، والمنهج الصحيح لعمارة الدنيا والآخرة، وهو علم الأنبياء والرسل ﵈، ودعوتهم إلى الخير، حتى خُتموا بنبينا محمد ﷺ، وقد بعثه إلى الثقلين كافة: الإنس، والجن، فما ترك خيرا إلا أرشد أمته إليه إنسهم وجنهم، فآمن به فئام من الثقلين، وهو ﷺ أكثر الأنبياء أتباعا، وأكثر أهل الجنة من أمته ﷺ، دينه الإسلام خاتمة الأديان، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (^١)، ومصدر العلم بالإسلام كتاب الله ﷿ المنزل على نبينا محمد ﷺ؛ كتابٌ تكفل الله ﷿ بحفظه فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كلام الله ﷿ منزل على نبينا محمد ﷺ غير مخلوق، والسنة كلام رسول الله ﷺ أو فعله أوتقريره، منهما استلهم العلماء الهداية والتوفيق، وتباروا في خدمة الكتاب العزيز حفظا وتلاوة وتفسيرا، والسنة النبوية تصحيحا وتحسينا وتضعيفا، وبناء على هذا المصدر الموحَّد من كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ أقيمت الأحكام الفقهية إما على النص من الوحيين: الكتاب والسنة، أو من الكتاب وحده، أو من السنة وحدها، أو مما أجمع عليه السلف من الصحابة أو التابعين بعدهم، أو من قياس صحيح، فيسر الله حفظ الكتاب في الصدور،
_________
(^١) الآية (٨٥) من سورة آل عمران.
1 / 2
وهدى إلى جمعه كتابة في السطور، وهذا من الحفظ الذي وعد به سبحانه، وقد يسر الله ﷿ حفظ سنة نبيه محمد ﷺ بأن خص هذه الأمة بالنَّقَلَة العدول فأخذ الصحابة من فم رسول الله ﷺ، وعنهم أخذ التابعون، وعنهم أتباع التابعين، وهلم جرا حتى نهاية عصر الرواية، وسمي هذا المنهج الرصين بالسند، رجلا عن رجل منتهاه رسول الله ﷺ، ولم تقف بركة هذا المنهج عند هذا الحد بل لا زالت مستمرة يتبرك نَقَلَة العلم بالرواية المسندة إلى رسول الله ﷺ، غير أن ما بعد عصر الرواية لا يقوم عليه تصحيح ولا تضعيف، إنما هو ربط سلسلة السند تبركا، والعمدة في أحكام الجرح والتعديل يقف عند نهاية عصر الرواية، وقد حصل لي الاتصال برسول الله ﷺ في رواية مسند الدارمي هذا بالمكاتبة فبيني وبين رسول الله ﷺ (٢٥) خمسة وعشرون راويا، وهذا ما سعيت له، فأرويه بالإجازة من الشيخ العالم علم الدين محمد بن ياسين بن عيسى الفاداني المكي، أجازني في سنة (١٤٠٤ هـ) كتابة بما في ثبته " الدر النثير في الاتصال بثبت الأمير" عن الشيخ عبد الرحمن كريم بخش الهندي قراءة وإجازة، عن الشيخ العالم حضرت نور الفنجابي الهندي إجازة، عن مؤسس المدرسة الصولتية الشيخ العالم رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي المتوفي بمكة في سنة (١٢٨٠ هـ) عن الشيخ العالم الفاضل علي أحمد الهندي، عن محدث الهند الشاه عبد العزيز الدهلوي (^١)، عن أبيه الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي (^٢)، عن العلامة عثمان بن حسن الدمياطي، عن العلامة الشيخ محمد بن أحمد الأمير الكبير، عن الأستاذ الحفني، عن شيخه البديري، عن الملا إبراهيم الصَّفي القشاشي، عن الشمس الرملي، عن شيخ الإسلام زكريا، عن مسند الدنيا محمد بن مقبل الحلبي، عن جويرية بنت أحمد الكردي الهكاري، أنا (^٣) علي بن عمر الكردي، أنا أبو المنجا عبد الله بن عمر اللتي، أنا الداودي، أنا السرخسي، أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي، أنا الدارمي قال: أنا يزيد بن هارون، أنا حميد، عن أنس ﵁، عن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة لسوقا -
_________
(^١) مؤلف بستان المحدثين، والمراد بالشاه الملك.
(^٢) مؤلف القول الجميل، والانتماء إلى أولياء الله، والإرشاد إلى علوم الإسناد.
(^٣) اختصار لصيغة الأداء (حدثنا).
1 / 3
قالوا: وما هو؟ - قال: كثبان (^١)، من مسك، يخرجون إليها فيجتمعون، فيها، فيبعث الله عليهم ريحا فتدخلهم بيوتهم، فيقول لهم أهلوهم: لقد ازددتم بعدنا حسنا، ويقولون لأهليهم: مثل ذلك» هذا لفظ الدارمي، ورجاله ثقات، ومن الرواة من وقفه على أنس، ولفظه عند الإمام مسلم ﵀ من رواية ثابت عن أنس مرفوعا «إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» والمراد بالسوق: مكان يجتمع فيه أهل الجنة، لمزيد من إكرام الله لهم، وزيادة في المتعة والأنس، وليس المراد أنه مكان تزاول فيه أعمال كأسواق الدنيا، فالجنة لا عمل فيها ولا عبادة فيها، ولا حزن ولا غِل ولا حسد ولا تنافس، لأن هذا كله من لوازم الحياة الدنيا، وليس في الجنة إلا المتعة والأنس (^٢)، وكل ما تشهيه الأنفس من هذا القبيل. يأتونها كل جمعة: الجنة دار خلود لا عَدد فيها بقليل ولا كثير، ولا شمس بها ولا قمر، فليس فيها شيء مما كان في الدنيا إلا مجرد الاسم فقط، مع اختلاف الماهية، إذن المراد بالجمعة هنا المعاودة لزيادة المتعة والحسن والجمال، ولذلك تراهم إذا عادوا إلى أهليهم ازداد الحسن والجمال في الطرفين، فكل يرى الآخر أكثر حسنا وجمالا، وهذا من كمال المتعة والأنس، فلا يرد شيء من الكدر، ولا سبيل لشيء مما كان في الدنيا إلى نفوسهم، بل هم من حسن إلى أحسن، ومن جمال إلى أجمل، ولا يطأون مكانا إلا وهو أكمل وأجمل من سابقه، حتى لو عادوا إلى الموقع الأول لكان أجمل وأحسن مما كان.
ريح الشمال: ليس في الجنة جهات الدنيا الأربع، لعدم وجود الليل والنهار،
وذُكرت ريح الشمال، لأنها الأحب عند العرب، فهي ريح السحاب والمطر، وقد يقال: قيل لها الشمال: لأنها تأتي من قبل شمائلهم، كائنة بذلك الوصف الجميل، فكونها تلامس وجوههم وثيابهم بما يزيدهم حسنا وجمالا.
_________
(^١) مفرده كثيب، وهو الرمل المجتمع.
(^٢) مؤلف القول الجميل، والانتماء إلى أولياء الله، والإرشاد إلى علوم الإسناد.
1 / 4
وقد أورد الترمذي ﵀ رواية ضعيفة عن علي ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إن في الجنة لسوقا ما فيها شراء ولا بيع، وإلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها» (^١)، وقال: هذا حديث غريب، قلت: وهو كذلك ففي سنده أبو شيبة: عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف، ولو فرضنا صحة هذه الرواية، لنفيها البيع والشراء، فنقول في الصور: إنما جعلت متعة وزينة لمن أحب أن تكون صورته مثلها، ويحلّى بحليتها، ويكون على جمالها وحسنها، فتتشكل صورهم من حسن إلى أحسن، وليس المراد تغيير ذات المنعّم، وهذا لم يكن لهم في الدنيا وأعطوه في الآخرة، كما أعطى الملائكة التشكل في الصور الحسنة، والله أعلم.
وهذا الحديث هو أحد ثلاثيات الدارمي، وقد ذكر العلماء أن عدتها خمسة عشر حديثا، وقفت عليها وهي: ج ١ رقم ٦٩ حديث " يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ " عن أبي سلمة ﵁، ورقم ١٢٠ حديث " ينظر فيه العابدون" عن أبي سلمة ﵁، ج ٢ رقم ٧٥٦، حديث (ثم دعا بدلو من ماء) عن أنس ﵁، ورقم ١٤٢٩، حديث (يناجي ربه .....) أيضا عن أنس ﵁، ج ٣ رقم ٢٠٩٣، " يَأْكُلُ تَمْرًا مُقْعِيًا مِنَ الْجُوعِ " رقم ١٧٩٣، حديث (بعث يوم عاشوراء …) عن سلمة بن الاكوع ﵁، ورقم ١٩٦١، حديث (سعى رسول الله ﷺ بين الصفا والمروة) عن ابن أبي اوفى ﵁، ورقم ٢٠٩٧، حديث (وظرا من صفرة …) عن أنس ﵁، ورقم ١٩٦٣، حديث (لبيك بعمرة وحج
_________
(^١) رجاله ثقات، إلا أن من الرواة من وقفه على أنس ﵁، وأخرجه ابن أبي شيبة (المصنف ١٣/ ١٠٢) والبيهقي (البعث والنشور رقم ٣٧٥) وعبد الرزاق (المصنف رقم ٢٠٨٨١) وهذا أعلى ما عنده.
1 / 5
) عن أنس ﵁، ورقم ٢٠٩٧، حديث (أولم ولو بشاة …) عن أنس ﵁، ج ٤ رقم ٢٠٩٧، حديث (قصعة فيها ثريد ....) عن أنس ﵁، ورقم ٢٦٥٨، حديث (حجمه أبو طيبه …) عن أنس ﵁، ورقم ٢٧١٨، حديث (كان إذا نزل منزلا …) أيضا عن انس ﵁، ورقم ٢٧٣٩، حديث (يا أنجشة رويد .....) أيضا ﵁، ورقم ٢٨٧٧، حديث (إن في الجنة لسوقا ....) أيضا عن انس ﵁، ووقفت على ثلاثيات مراسيل، وهي في الحقيقة رباعيات إذا ما عرف رواتها من الصحابة ﵃.
أما الدارمي ﵀ صاحب المسند الذي نحن بصدد شرحه نسأل الله أن ييسر لنا ذلك ويعيننا عليه، فهو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الله، أوردت ترجمته كاملة في أول كتابه المسند، المشهور بسنن الدارمي، فأغنى ذلك عن الإعادة هنا.
شرح وتوثيق الروايات
الواردة في مسند الإمام الدارمي
شرطي في هذا الشرح ما يلي:
دراسة رجال السند، والنظر في أقوال النقاد واستخدام ما أراه أعدل الأقوال. أحكم على السند، بنتيجة الدراسة.
تخريج الحديث، فما كان في الصحيحين: البخاري ومسلم، أو في أحدهما لا أزيد عليه، لإجماع الأمة على تلقي ما روياه، أو رواه أحدهما بالقبول. أحكم على الرواية بنتيجة التخريج.
1 / 6
أشرح الألفاظ الغريبة، واستدرك ما وقع في النسخة التي حققتها من أخطاء أو تعديل.
أذكر المعنى الإجمالي للنص، مالم يكون النص جليا، ويعد شرحه حشوا لا يحسن ذكره.
أذكر ما يستفاد من الأحكام كذلك من غير تكلف.
وكل حديث أذكره في الشرح مستشهدا به فهو صحيح أو حسن، وأبين ما كان فيه ضعف.
وقد رمزت لما انفرد به الدارمي عن الكتب الثمانية التي هو تاسعها، رمزت في الهامش بالحرف " ت " وهو ما تضمنه كتاب القطوف الدانية في ما نفرد به الدارمي عن الثمانية.
قال الدارمي رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
بدأ الدارمي ﵀ بالبسملة اتّباعا للسنة، وهذا عمل المسلمين، تأسيا بنبينا محمد ﷺ، فطريق التأسي به ﷺ الافتتاح بالبسملة، والاقتصار عليها، ويؤيده وقوع كتبه ﷺ إلى الملوك، وكتبه في القضايا، مفتتحة بالتسمية (^١)، وما روي من آثار في التأنيب من عدم الحمد والشهادة فهي آثار منها المرسل، ومنها الموصول الضعيف، وقد أخرجها أهل العلم ومن ذلك: «كل أمر ذي
_________
(^١) الموطأ: رواية محمد بن الحسن (١/ ٤٢، والفتح ١/ ١).
1 / 7
بال لا يبدأ فيه بذكر الله أقطع» (^١)، فالبسملة من ذكر الله ﷿، وهي من أعظم الذكر، والاقتصار عليها يكفي، ولذلك اقتصر عليها أكثر المتقدمين، ومنهم البخاري، والدارمي؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة: البسملة، والحمد، والشهادة، هو ذكر البسملة، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (^٢) لذا فلا نرى ضرورة الإنكار على من لم يُصدّر كتابته بعد البسملة بالحمد، والشهادة، ومن فعل ذلك فلابأس، كذلك لا يتعين النطق بهما بعد البسملة في المواعظ والخطب، عدا خطبة الجمعة فلابد من ذلك كله.
بيان قول الدارمي ﵀:
" بابٌ (^٣) ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي ﷺ " لم يهتم الرعيل الأول من الأئمة المؤلفين كثيرا بذكر تصنيف الكتب وما يندرج تحتها من أبواب، ولا الأبواب وما يندرج تحتها من فصول، وكذلك الفصول وما يندرج تحتها من مباحث، وعلى ذلك شوش الدارمي ﵀، فتارة يذكر الباب ويسميه كما هنا، وتارة يذكره منكّرا فيقول: بابٌ، ولا يسميه، وتارة يقول: كتاب، وأخرى: ومن كتاب، ولا أستبعد أن يكون هذا من عمل الرواة عنه، وما بدأ
_________
(^١) أخرجه الدار قطني حديث (٨٨٤) أرسله الزهري، أخرجه النسائي حديث (١٠٣٣١) ووصله الأئمة أحمد حديث (٨٧١٢) وأبو داود قال: لا يبدأ فيه بالحمد لله حديث (٤٨٤٠) وقال: عن الزهري مرسلا، وكذلك ابن ماجه حديث (١٨٩٤) وابن حبان حديث (١).
(^٢) سورة القلم.
(^٣) يجوز فيه التنوين والإضافة، وسأتبع التنوين في كل الأبواب.
1 / 8
به هنا منه ما يندرج تحت كتاب علامات النبوة، ومنه ما يكون تحت كتاب الفضائل، ومن الملاحظ أن الدارمي ﵀ أكثر من التكرار طلبا للمزيد من الشيوخ، ولطلب علو الأسناد، وللتقوية أحيانا، ولم يكن له في ذلك منهج مرتب، وقد يكون هذا من فعل النساخ، ولا سيما إذا كان الدارمي حدثهم من حفظه. وقد أحسن الدارمي ﵀ إذ بدأ كتابه بذكر بعض أحوال الجاهلية، وأشدّ ما كان في حياتهم ضررا الجهل المتمثل في الأفعال القبيحة، والضلال المتمثل في عبادة الأصنام.
السند إلى الدارمي ﵀
قال أبو يحيى زكريا بن أبي الحسين العلبي:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (^١).
أخبرنا (^٢) الشيخ الأجل الصالح، زكريا بن أبي الحسن بن حسان العلبي، قراءة عليه وأنا أسمع، وذلك بمدرسة السَّلم، في شهر الله المحرم، سنة تسع وعشرين وستمائة (^٣)، قال: أخبرنا الشيخ الإمام العالم أبو الوقت عبد الأول
_________
(^١) هذا قد يكون من قول الدارمي ﵀، وقد يكون من قول الكاتب عنه.
(^٢) وفي (ك) رواية عن قرينه محمد بن محمد بن سرايا، قال الراوي عنه: أخبرنا الشيخ العالم الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن سرايا بن علي البلدي عفا الله عنه، قراءة عليه وهو يسمع، فأقرّ به وقال: نعم، أخبرنا الشيخ الثقة نقيب المشايخ، أبو الوقت عبد الأول بن عيسى.
(^٣) في (ع/ أ) لم يذكر العلبي، وبدأ بقوله: (أخبرنا الشيخ أبو الوقت عبد الأول).
1 / 9
ابن عيسى بن شعيب بن إبراهيم ابن إسحاق السجزي الماليني (^١)، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي (^٢)، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حموية السرخسي، قراءة عليه في صفر، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمران عيسى بن عمر بن العباس السمرقندي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي قال:
١ - باب مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِ (^٣) النبي ﷺ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ
١ - (١) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِى وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ﵁ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُؤَاخَذُ الرَّجُلُ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟، قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ في الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ عَمِلَ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» (^٤).
_________
(^١) في (ك) الصوفي، سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وفي (ر/ أ، ر/ ب) قال: " أخبرنا الشيخ الصالح الثقة شمس الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد ابن عبد الرزاق السلمي البغدادي بقراءتي عليه، في ذي الحجة سنة ست وستمائة (-٦٠٦ ر/ أ) وسنة ست وستين وستمائة (٦٦٦ ر/ ب) بدمشق كلأها الله، قيل له: أخبركم الشيخ الثقة الأوحد المعمر أبو الوقت …) وساق السند إلى الدارمي، وفي (ف، و، ع/ ب، م) لم يذكر السند، مبتدئا بعنوان الباب، وسياق الحديث الأول.
(^٢) في (ع/ أ) قراءة عليه في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وأربعمائة".
(^٣) في (ف) بياض من بداية العنوان لكونه مكتوبا بالحمرة، وكذلك كلمة باب في كامل المخطوط، تبعه خطأ حين كتب الناسخ: " قيل منعنا رسول الله ﷺ من الجهل والضلال".
(^٤) رجاله ثقات، وأخرجه البخاري، حديث (٦٩٢١) ومسلم (١٢٠) متفق عليه.
1 / 10
رجال السند:
محمد بن يوسف الفريابي، وسفيان بن سعيد الثوري، هو ابن مسروق، إمام ثقة، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، هم أئمة ثقات، والصحابي عبد الله بن مسعود ﵁.
الشرح:
قوله: " قال رجل" جاء في رواية الإمام مسلم: قال أُناس، وفي رواية: قلنا (^١)،
وهي عند ابن ماجه (^٢).
قوله: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا كَانَ عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ». بدأ الدارمي ﵀ كتابه بهذا الباب للربط بين ماضي الناس في الجاهلية، وبين حاضرهم بعد أن بُعث إليهم نبي الهدى والرحمة ﷺ، مراعيا التسلسل التاريخي لمبعثه ﷺ، مشيرا إلى نهاية الجهل والشرك والظلم، وبداية العلم والتوحيد والعدالة والمساواة، وبيان أن مبعثه ﷺ كان رحمة للعالمين، فمن آمن به ﷺ وأسلم فإن الله ﷿ وعدهم الخير فقال: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (^٣)، وكان أخوف ما يخاف المسلم من قريش ماضيه في الجاهلية، لعلمهم يقينا بالحق الذي جاء به نبينا محمد ﷺ، وبما كانوا عليه من عظائم الأمور وأشدها الشرك بالله ﷿، ولذلك لما جاء عمرو بن
_________
(^١) حديث (١٧١، ١٧٢).
(^٢) حديث (٤٢٣٢).
(^٣) الآية (٥٣) من سورة الزمر.
1 / 11
العاص ﵁ مسلما إلى رسول الله ﷺ، وأراد أن يبايعه على ذلك قال: «أبسط يمينك فلأبايعنك يا رسول الله، فبسط الرسول ﷺ يمينه، فقبض عمرو يده، فقال رسول الله ﷺ: مالك يا عمرو؟! قال عمرو ﵁: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يُغفر لي، فقال ﷺ: «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» (^١) وقد وعد الله ﷿ من تاب وآمن وعمل صالحا أن يبدل سيئاتهم حسنات، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (^٢).
قوله: «وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ».
ليس في هذا مخالفة لما أجمع عليه العلماء من أن الإسلام يجب ما قبله، عملا بما تقدم بيانه؛ لأن المراد من أساء في توبته من المآثم بالعودة إليها مرة أو مرات، لم تكن توبته نصوحا، فهذا لم يحقق شروط التوبة، فإن أي توبة كانت من كفر أو مما دونه يشترط لها ثلاثة شروط:
الأول: الإقلاع عن الذنب، إن كان كفرا فبالإسلام، وإن كان مما دونه فبتركه مطلقا.
والثاني: العزم على عدم العودة إلى ذلك أبدا.
والثالث: الندم المستمر على الوقوع فيه فيما مضى، فمن أخلّ وعاد إلى ذنب تاب منه، فإنه إن مات على ذلك، كان مؤاخذا بما عمل قبل التوبة،
_________
(^١) مسلم حديث (١٩٢).
(^٢) الآية (٧٠) من سورة الفرقان.
1 / 12
وبالعودة إلى الذنب بعد التوبة، وليس هذا معارضا لما في الحديث القدسي «أذنب عبدي ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال ﵎: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال ﵎: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال ﵎: أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك» (^١)، فليس المراد أن يعمل ما شاء على الإطلاق، بل هذا مقيد بأحاديث عدم قبول التوبة، كأن تكون عند النزع الأخير، إذا بلغت النفس الحلقوم، أو فجأة الموت وهو على معصية، أو عنده معاص لم يتب منها، ومعلوم أن التوبة لا تقبل عند فوات الأوان، وفوات الأوان إذا حضره الموت، قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (^٢)، فإن توبة من هذا حاله لا تقبل، ولذلك لم تقبل توبة فرعون فإنه قال لما أدركه الغرق: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (^٣)، فقال الله ﷿: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
_________
(^١) مسلم حديث (٢٧٥٨).
(^٢) الآية (١٨) من سورة النساء.
(^٣) الآية (٩٠) من سورة يونس.
1 / 13
وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (^١)، وكذلك إذا طلعت الشمس من مغربها؛ لأن الناس في هذا الوقت كلهم يؤمنون حتى الكفار مهما تنوعت اعتقاداتهم، فإنهم عند طلوع الشمس من مغربها يسلمون ولكن بعد فوات الأوان، وقد قال نبينا محمد ﷺ: «لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (^٢) وقال الله ﷿: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ (^٣)؛ لأنه إيمان قهري، بأمر لا مفر منه، وقد فات أوان الإيمان الطوعي، وما يترتب عليه من الأعمال الصالحة.
وقد فسرت الإساءة بالكفر، أي: إن أسلم ثم ارتد، فهذا يؤاخذ بالسابق واللاحق (^٤)، والأولى في نظري العموم.
قوله: «يؤاخذ» المؤاخذة لها صورتان:
الأولى: مؤاخذة المسيء على إساءته في الدنيا تكون من قبل الحاكم الشرعي، كمعاقبة من يثبت عليه الزنا مثلا، أو السرقة أو غير ذلك من السيئات، فهذا تتم فيه المؤاخذة على ما يثبت عليه من إساءة وإن تعددت بشرط الثبوت الشرعي، ولولي الأمر أن يتجاوز عن بعض الإساءة، ولكن بشرط أن لا تكون مما يوجب الحد.
_________
(^١) الآية (٩١) من سورة يونس.
(^٢) أبوداود حديث (٢٤٣٩).
(^٣) الآية (٢٩) من سورة السجدة.
(^٤) الفتح ١٢/ ٢٦٦.
1 / 14
الثانية: تكون في الآخرة وهي ما تقدم الكلام عليها، وقد يعجِّل الله ﷿ العقوبة للعبد في الدنيا، رحمة به كما قال ﷺ: «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه، حتى يوافي به يوم القيامة» (^١)، ومن ابتلي فليحاسب نفسه مع الصبر والاحتساب، قال ﷺ: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (^٢)، على أنه قد يُجمع للعاصي بين العقوبتين: عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة قال ﷺ: «ما من ذنب أجدر أن يعجّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي، وقطيعة الرحم» (^٣).
ما يستفاد:
* أن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، إذا حقق شروط التوبة، وتفريعا على هذا يحرم تعييره بذب تاب منه.
* أنه يجب على التائب عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه.
* أن من تاب وأحسن العمل لا يؤاخذ على ذنوبه الماضية، بل تنقلب إلى حسنات، أخذا من قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (^٤).
_________
(^١) الترمذي حديث ٨/ ٤١٢، رقم ٢٣١٩، وقال: حسن غريب.
(^٢) الترمذي حديث ٨/ ٤١٣، رقم ٢٣٢٠، وقال: حسن غريب.
(^٣) أبو داود حديث ٤٢٥٦، والترمذي ٩/ ٥١، رقم ٢٤٣٥، وقال: حسن صحيح.
(^٤) الآية (٧٠) من سورة الفرقان.
1 / 15
* أن من تاب من ذنب ثم عاد إليه لم تنفعه توبته السابقة، وكأنه لم يتب.
* جواز السؤال عما مضى من الذنوب وغيرها للعلم بحكمها.
* بيان عفو الله ﷿ وكرمه ورحمته بعباده فإنه لو يؤاخذ الناس بذنوبهم ما ترك على وجه الأرض أحدا، قال ﷿: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا
تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ (^١).
واعلم أن الدارمي ﵀ روى في مسنده هذا آثارا كثيرة وأحاديث مرفوعة بلفظ أخبرنا، وفي بعض النسخ بلفظ حدثنا، فسرت على نهجه ولم أفرق بين الأثر والحديث المرفوع في التسمية أخذا بعموم تسمية الأثر حديثا.
قال الدارمي رحمه الله تعالى:
٢ - (٢) أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ النَّضْرِ الرَّمْلِيُّ، عَنْ مَسَرَّةَ بْنِ مَعْبَدٍ - مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ أَبِى الْحَرَامِ، مِنْ لَخْمٍ - عَنِ الْوَضِينِ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِىَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَوْثَانٍ، فَكُنَّا نَقْتُلُ الأَوْلَادَ، وَكَانَتْ عِنْدِي بِنْتٌ لِي، فَلَمَّا أَجَابَتْ عِبَادَةَ الأَوْثَانِ، وَكَانَتْ مَسْرُورَةً بِدُعَائِي إِذَا دَعَوْتُهَا، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَاتَّبَعَتْنِي، فَمَرَرْتُ حَتَّى أَتَيْتُ بِئْرًا مِنْ أَهْلِي غَيْرَ بَعِيدٍ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا فَرَدَّيْتُ (^٢)، بِهَا فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدِي بِهَا أَنْ تَقُولَ: يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى وَكَفَ دَمْعُ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَحْزَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ: «كُفَّ،
_________
(^١) الآية (٤٥) من سورة فاطر.
(^٢) معناه: أسقطها، يقال: ردّى وتردّى لغتان: كأنه تفعل من الردى: الهلاك (النهاية ٢/ ٢١٦).
1 / 16
فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا أَهَمَّهُ»، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «أَعِدْ عَلَىَّ حَدِيثَكَ» فَأَعَادَهُ، فَبَكَى حَتَّى وَكَفَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَضَعَ عَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا عَمِلُوا، فَاسْتَأْنِفْ عَمَلَكَ» (^١).
رجال السند:
الوليد بن النضر أبو العباس الرملي، صدوق لابأس به، ومسرّة بن معبد اللخمي الفلسطيني، شيخ لابأس به، أخطأ من قال: ميسرة (^٢)، له عند الدارمي هذا الحديث، وله عند أبي داود حديث واحد هو حديث أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه ﷺ قال: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين قبلته أحد فليفعل» الوضين بن عطاء الخزاعي، صدوق سيء الحفظ، ورمي بالقدر، وله عند الدارمي هذا الحديث، وقد أعضله (^٣)، ولم يذكر واسطته التي تلقى منها الخبر، وقد تكون الواسطة أكثر من راو.
هذا حديث تفرد به الدارمي، ولم أقف عليه في مصدر آخر، وهو مؤيد بالكتاب والسنة، خرجناه في القطوف برقم (١/ ٢).
الشرح:
قوله: «أن رجلا» هذا لا علاقة له بضبط السند، والإشكال فيما بين الوضين وهذا الرجل من الرواة.
_________
(^١) خرجناه في القطوف برقم (١/ ٢) وأد البنات من عادات الجاهلية، حرمها الإسلام.
(^٢) تذكرة الحفاظ ٣/ ٨١٥.
(^٣) المعضل: ما رواه تابع التابعي عن النبي ﷺ، وقد يسقط من سنده أكثر من اثنين، وهو نوع خاص من المنقطع، فكل معضل منقطع، وليس كل منقطع معضلا، والفقهاء يسمونه مرسلا.
1 / 17
قوله: «إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد».
هكذا ترد الأسئلة عما كان يفعله الناس في الجاهلية، باحثين عن التصحيح، والتحلل من عادات الجاهلية وتبعاتها، روى هذا الصحابي ﵁ أنهم كانوا يقتلون الأولاد، وقد علم أن الإسلام حرّم ذلك، لكن أهمه ما أقدم عليه في الجاهلية، وأراد أن يعلم أمره بعد أن أسلم، ولم يكن القتل في الجاهلية خاصا بالبنات، بل كان منهم من يقتل ولده خشية الفقر، أو من شدة الفقر، وكان ذلك في الإسلام من الكبائر، سئل رسول الله ﷺ أي الذنب عند الله أكبر؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك» (^١)، ونزل القرآن تصديقا لقول رسول الله ﷺ فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ﴾ (^٢)، وأد البنات من عادات الجاهلية، حرمها الإسلام، وكان هذا الذنب عظيما في الإسلام؛ لأن هذا المخلوق تكفّل الله ﷿ برزقه وهو في بطن أمه، وتكفل برزقه بعد ذلك ما دام حيا، وهو داخل في عموم قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (^٣)، فالاعتداء عليه ظلم له، فنهى الله ﷿ عن ذلك
_________
(^١) البخاري حديث (٤٣٧٩).
(^٢) الآية (٦٨) من سورة الفرقان.
(^٣) الآية (٦) من سورة هود.
1 / 18
فقال: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ (^١)، أما قتل البنات فقد يكون ذلك من الأسباب، ولكن السبب الأقوى أن أهل الجاهلية، كانوا في مواجهات قبلية، وحروب دائمة ولأتفه الأسباب، وكثيرا ما تنتهك الحرمات، ومن ذلك وقوع النساء في السبي، وذلك يُلحق العار الكبير بالآباء والأقربين، بل بالقبيلة كلها، ومن هنا كان واد البنات أكثر فيهم، وقد حرّم الإسلام هذه العادة الظالمة، ونوّه بإنصاف الموؤدة يوم القيامة ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (^٢).
قوله: «وكانت عندي بنت لي، فلما أجابت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، دعوتها يوما، فاتّبعتني فمررت حتى أتيت بئرا من من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرديت بها (^٣)، في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه، يا أبتاه».
في هذا بيان لما كان عليه الجاهليون من قسوة عظيمة، لم تكن مع الأبعدين فحسب، بل مع أقرب الأقربين، وهذا المشهد المحزن الأليم، لم يكن له أثر على الإطلاق في قلب ذلك الأب الجاهلي، المنزوع الرحمة، وتلك النفس البريئة المنادية بألطف الألفاظ وأعذبها لحنا، لكن قسوة الجهل لم تدع لتلك الكلمات الرنانة سبيلا إلى قلب أبيها، فلما أسلم ﵁ انقلب الأمر رأسا
_________
(^١) الآية (١٥١) من سورة الأنعام، وانظر الآية (٣١) من سورة الإسراء.
(^٢) الآيتان (٨، ٩) من سورة التكوير.
(^٣) معناه: أسقطها، يقال: ردّى وتردّى لغتان: كأنه تفعل من الردى: الهلاك (النهاية ٢/ ٢١٦).
1 / 19
على عقب، حتى أنه لم يهدأ حتى أتى رسول الله ﷺ قاصّا عليه جريمته، نادما أشد الندم، عاد إلى سمعه ما كان من قول ابنته: يا أبتاه، يا أبتاه، وكأن الحدث اللحظة وقع، غشيته رقة الإسلام، وشفقة المؤمنين. قوله: «فبكى رسول الله ﷺ حتى وكف دمع عينيه فقال: له رجل من جلساء رسول الله ﷺ: أحزنت رسول الله ﷺ».
فيه بيان ما كان عليه نبينا محمد ﷺ من اللطف والرقة والرحمة، تصوّر رسول الله ﷺ وهو يبكي بحرقة ولوعة عند سماع القصة، ولم يشاهد الحدث رأي العين، والعجب أن الأب لم يتأثر وقد باشر الحدث، وذكر من صفات ابنته ما يدعوا إلى الشفقة عليها ورحمتها، ولم يكن منه ما كان من رسول الله ﷺ، هنا يتأكد لكل عاقل أنه ﷺ حقا الرحمة المهداة إلى هذه الأمة برّها وفاجرها، ويتوب الله على من تاب، إنه أرحم الرحماء، وقد قال ﷺ لما أنكر عليه سعد بن عبادة، وقد فاضت عيناه بالدمع لما رفع ولدا لفاطمة ونفسه تقعقع: قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» (^١) وصح أنه قال ﷺ: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء" (^٢).
لم يملك أحد جلساء النبي ﷺ نفسه لما رأى رسول الله ﷺ يبكي فبادر إلى الرجل قائلا: أحزنت رسول الله ﷺ، والحزن معلوم أنه أشد الألم.
_________
(^١) البخاري حديث (١٢٢٤).
(^٢) أبو داود حديث (٤٢٩٠).
1 / 20
قوله: «فقال له: كفّ، فإنه يسأل عما أهمه، ثم قال له: أعد عليّ حديثك، فأعاده فبكى حتى وكف (^١) الدمع من عينيه على لحيته».
نهى عن لومه؛ لأنه الرحمة المهداة لم يُحرم منها ذلك الرجل، إذ بادر رسول الله ﷺ بالدفاع عنه قائلا لمن لامه: «كفّ» وهذه كلمة فيها شيء من الحزم والصرامة، وعلل عدم لومه بقوله ﷺ: «فإنه يسأل عما أهمه» نعم لم يهمه ذلك إذ كان جاهليا، فالشر لا يولد إلا الشر، فلما أسلم صار له شأن آخر، أقلقه ما حدث منه قلقا شديدا، حتى أصبح هما كبيرا يأمل في الخلاص منه بأي ثمن، طلب منه نبينا محمد ﷺ وإعادة القصة لا لعدم استيعاب، فلم يكن بكاؤه ﷺ إلا لشدة وعيه القصة بكل أبعادها، لكن له في ذلك حكمة ﷺ، لعلها ليدرك الجلساء البعد الجاهلي وما فيه من قسوة وظلم وجبروت، والبعد الإسلامي وما فيه من رحمة وشفقة، وزادته الإعادة ألما وتأثرا، حتى تحدّر دمعه على لحيته، وما ذاك إلا من شدة رحمته وعدله ورقة إحساسه ﷺ.
ما يستفاد:
*بيان ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل والضلال.
* بيان ما كانوا عليه من القسوة وعدم الرحمة حتى بأقرب الأقربين.
* بيان شدة تعلق تلك الفتاة بأبيها ومع ذلك لم ينفعها ذلك التعلق.
* أن الإنسان قد يسعى في هلكته أقرب الناس إليه.
_________
(^١) نزل، وسال.
1 / 21