المهند: السيف. وهو عندي من قولهم:) هَنَّدَتْهُ النساء (: أي تَّمته والميتم. . . نحيل، فكذلك السيف، ولم ينف تأثير المهند في وجهه نفيًا كليًا. وكيف ذلك وقد أثبت الضربة، وهي التاثير. وإنما أراد أن المهند لم يُؤثر في وجهه أثرًا قبيحًا، لأن وقوع الضربة على الوجه تَزين ولا تَشِين، لدلالتها على الشجاعة والإقدام، كما أن التاثير في الظهر دليل على الجيبن والفرار، كقوله:
فلسْنا على الأعقاب تَدْمَى كُلُومنا ... ولكن عَلَى أعقابنا تقطُر الدَّما
ويُروى) تقطر الدِّما (. جعل) الدِّما (اسمًا مقصورًا كغِنَى.
أنشد الفارسي:
كمَهاة فقدت بَرْغزها ... أعقبها الغُبْسُ منه ندما
غفلت ثم أَتت تطلبه ... فاذا هي بعظام ودِمَا
فهذا شيءُ عَرَض، ثم نعاود الغرض.
فكان المهند لما وقع على وجهه، فكان ذلك إشعار بلإقدام، ثم لم يؤثر فيه البتة، فلذلك نفى التاثير نفيًا عامًا. ونحوه ما حكاه سيبويه من قوله:) تكلم ولم يتكلم (أي أنك إذا لم تُجد ولا أصَبْتَ، كنت بمنزلة من لم يتكلم وإن كنت قد تكلمت.
) تَنْقدِحُ النَّارُ مِنْ مَضَارِبها ... وصَبُّ ماءٍ الرِّقابِ يُخْمِدُها (
قدحه فانقدح: أوقد فاتقد، أي أن السيوف تقطع ما تحتها وتهوى في التراب، فلا يردها إلا حَجَر يقدح النار بملاقاته جرْم السيف، كقوله:
تَقُدُّ السَّلُوقىَّ المضاعَف نسجُهُ ... وتوقد بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
) وصبٌّ ماء الرقاب يُخمدُها (أي أن الدم الذي يطفئ تلك النار يجرى على السيف والجمر، وسَمَّى الدم ماء استعارة ومجازًا، وإنما ذلك لأن ماهَتَه سيلانه، وعلى هذا قالوا ماء العناقد. وسَمُّوا الدمع ماء، كل ذلك اتساع وتجوز، لا حقيقة.
) إذ أَضلَّ الهُمامُ مُهجَتَهُ ... يَوماَ فأَطرافهنَّ تَنْشُدُها (
نَشَدْت الضالَّة: طلبتُها، وأنشدتها: عَرَّفتهان ونَشَدْتها في التعريف لغة أيضًا. وقوله: ويصيخُ أحيانا كما استمع المضلُّ لصوت ناشد قيل: يعنى بالناشد هنا المعرِّف وهو الصحيح، لأن المضِلَّ يضغى إلى كلام المعرف ليدُّلّه على ضالته. هذا قول الأصمعي.
وقيل: الناشد هنا: الطالب، لأن المُضشل يحب أن بجد مُضِلًاّ مثله ليتعزى به. وهذا القول الآخر مستقل عن تغالي الأول. ويصحح القول الأول:
يُصيخ للّنبأةِ أسماعَهُ ... إصاخة المُنْشِدِ للناشِدِ
أي إصاخة الطالب للمعرِّف. أي أن الهُمام إذا فقد مهجته فإنه يسأل عنها أطراف هذه السيوف، لأنها عارفة بمسالك الأرواح، بها تُقْبض وعليها تَرِد، لا مظنةَّ لها إلا هي. فأطرافهن على هذا مفعول ثان أي تَنْشُدُها أطرافهن.
) أَقَرَّ جِلْدِى بها علىَّ فَلاَ ... أقْدِرُ حنى المماتِ أجْحدُها (
أي نضرة العيش بادية على بَشَرتي، كقول العرب: بَشَرٌ ما أخاك مشفر. فإذا جحدتُ نعمتك، شهد بها جلدى فلم يمكنه إنكارها، إذا أثرها عليه بادٍ جحدتها وأقرَّ جلدى بها افتضحت. ونظيره قوله تعالى:) تَعرِفُ في وُجُوههم نَضْرَةَ النعيم (قوله:) فلا أقدِر حتى الممات أجحدُها (أراد: على أن أحجدَها فحذف على وأن، ورفع الفعل لعدم العامل الذي كان ينصبه وهو) أن (. ونظيرة قوله تعالى:) قُلْ أفغيرَ اللهِ تأْمُرُونِّى أعبُدُ (أي تأمروني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل. ولو كانت القطعة مفتوحة الروى لقال:) أجحدها (فأعمل أن مضمرة إعمالها مظهرة. وقد رُوى هذا البيت بالوجهين جميعًا.
وقال المتنبي:
) أحْيا وأيْسَرُ ما قاسَيْتُ ماقَتَلاَ ... والبيْن جاَرَ عَلَى ضَعْفِي وما عَدَلا (
يجوز أن يكون أراد: أحْيَا وأيسرُ ما قتلني، أوما من شأنه أن يقتل، وإذا كان أيسر ما قاسيته قاتلا، فما بأكثره وأشدّه. وهذا على وجهين: إما أن يكون تعجب من ذلك فقال: أنا في حال حياة، وأقل مالاقيته قاتلٌ، وإما أن يكون طمع بالحياة فأنكر ذلك، فقال: كيف أحيا مع هذه) الحال (. فهذان وَجْها إرادةِ الاستفهام. وقد يكون أحيا خبرًا، أي أنا أحيا. وهذه حالي، أي تجلدى. يتعجب من صبره. وقد يكون) أحيا (اسمًا يدل على المفاضلة، أي: أثبتُ ما قاسيته لحياتي ما قتل، وهذا غُلوٌّ ولإفراط، لأنه إذا كان ما قلته أثبت شيء لحياته، لم يبق له ما يوجب الموت.
1 / 3