نص الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
قال ابو الحسن علي بن إسماعيل النحوي المعروف بابن سيده: قال ابو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي رحمه الله تعالى:
) أبْلَى الْهَوَى أَسفًا يومَ الْنَّوى بَدَنىِ ... وَفَرَّف الْهجْرُ بَيْنَ الْجَفْنِ والوَسن (
يذهب الناس إلى أن أسف البعد هي الذي أبلاه على عادة البِلَى وإنما قصد المبالغة، أرد أن البِلَ يعمل في الجسام فحالا على الأيام. وقد عمل فيه ليوم واحد، وهو يوم النَّوى، عمله لسنين.
وقال:
) ظَلْت بهاَ تَنطَوِي عَلَى كَبدٍ ... نَضِيجةٍ فَوق خِلْبِها يَدُها (
ظلت: أقمت، والخِلبُ: غشاوة الكبد والبيت مضمَّن بالأول وهو أبعد بان عنك خرَّدُها.
فالعامل في أَبْعدَ، ظلت كأنه قال: ظلت بها بَعْدَ ما بان خُرَّدُها، والمعنى: بعدما بان خردها، ظلت منطويا على كبد قد أنضجها التوجع وأذابها التفجيع، و) عليها يدها (: إنما توضع اليد على الكبد خشية من ضعفها.
يريد بذلك، وكذلك يُفْعَل بالفؤاد، كقول الآخر:
وضعتُ كفِّى عَلَى فُؤادي مِنْ ... نار الهوى وانْطَويت فَوق يَدِي
وأكثر الناس على أن) نَضِيجَة (، صفة للكبد في اللفظ والمعنى، لا حظَّ لليد في النُّضج، وإنما يريد أن اليد موضوعة على خِلب الكبد فقط، ويُقَويه البيت الذي أنشدناه، وهو) وضعت كفى على فؤادي من......ناؤ الهوى..... (.
وقد يجوز أن يكون) نضيجة (صفة للكبد في اللفظ، ولليد في المعنى، أي على كبد قد نضجت يدها على خلبها من حرارتها، وهذا أبلغ لأنه إذا أنضجت اليد وهي موضوعة على الخلب من حر الكبد، فما الظن بالكبد؟ فإذا كان المعنى على هذا، جاز في) نضيجة (الجر والرفع. فالجر على الصفة للكبد في اللفظ، والرفع على أن يكون خبر مبتدأ، وذلك المبتدأ هو اليد، كأنه قال: يدها نضيجة فوق خلبها. وهذا كما تقول: مررت بامراة ظريفة أمتها، فالظرف في اللفظ للمرأة، وفي الحقيفة للأمة. وإن شئت قلت: ظريفةٌ أمُّها، أي أمُّها ظريفةٌ.
وأما إذا كانت النضيجة صفة للكبد في اللفظ والمعنى، فإنه لا يكون فيها الا الجرُّ. وكن) نضيجة (صفة لليد، أبلغ في المعنى، لأنها حينئذ نضيجة بما ليس في ذاتها. وإذا كانت نعتًا للكبد، فهي نضيجة بما في ذاتها. واحتراق الشيء بما ليس في ذاته، أبلغ من احتراقه بما في ذاته وإنما يريد أنه إذا وضع يده على كبده متألِّمًا نضجيت اليد بحر الكبد، كقوله:
هل الوجد إلا أن قلبي لودنا ... من الجمر قِيد الرمْحِ لاحترق الجمرُ
وهذا عندي أبلغ من قول المتنبي، لأن اليد إذا كانت على خلب الكبد، فهي اقرب إلى الحرّ من الفؤاد من الجمر، إذا كان بينه وبين الجمر قِيدُ رُمح، مع أنه جعل الجمر الناريّ محترقًا من حر فؤاده. فحر الفؤاد إذن أشد من حر الجمر.
) شابَ من الهجر فرْقُ لِمَّتِهِ ... فصار مثل الدِّمَقْسِ أسْودُها (
وفي هذا البيت ثَرْمَلَة صنعة، قال:) فَرقْ لمِته (فخص جزءًا من اللمة ثم قال: أسودُها، فعَمَّ، لكن قد يجوز أن يعود الضمير إلى الفرق، وإن كان الفرق مذكرأ، لأن المذكر إذا كان جزءًا من ذات المؤنث جاز تأنيثه.
أنشد سيبويه:
وَتَشْرَقٌ بالقول الذي قَدْ أذعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ
وقد يجوز أن يريد بياض اللمة كلها، وخص الفَرْقَ، لأنه معظم الرأس، تم أعاد الضمير إلى اللِّمة. وإنما وجهُ استواء الصنعة لو اتزن له، وحسُن في القافية أن يقول:
شابتْ من الهَجْر لِمَّتُهُ ... فصارمثل الدمَقْسِ أسودُها
أو يقول:) أسودُه (بعد قوله) لِمتَّه (وأسودُها هنا: ليست مفاضلة، إذ لو كان ذلك، لكان أشد سوادًا.
وقد يجوز أن يكون أراد المفاضلة، فقد جاء ذلك شاذًا، فقوله أسودها بريد به مُسوَدها كما يقول: هو أسود القوم أي الأسود فيهم.
) كيف يحيك المَلامُ في هِمَمٍ ... أقربُها منك عَنْكَ أَبعْدُها
كيف يكون أقرُ شيء أبعدَ شيء! هذا خُلْفٌ إذا حُمل على ظاهره لكن لو قال: أقربها منك بعيد عنك، كان حسنًا، ولكن الذي أراده: أقربها عندك مثل أبعدُها. فالجملة في موضع الصفة لهمم. أي أقربها منك عندك أبعدُها منك على الحقيقة.
1 / 1