بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة١
إن الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، إن النفس لأمّارة بالسوء ِإلا ما رحم ربي، والصلاة والسلام على محمد أشرف الخلق وسيد المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين.
نشأة الشعر الجاهلي وتفاوته في القبائل:
لا ريب في أن المراحل التي قطعها الشعر العربي حتى استوى في صورته الجاهلية غامضة، فليس بين أيدينا أشعار تصور أطواره الأولى، وإنما بين أيدينا هذه الصورة التامة لقصائده بتقاليدها الفنية المعقدة في الوزن والقافية، وفي المعاني والموضوعات، وفي الأساليب والصياغات المحكمة، وهي تقاليد تلقي ستارًا صفيقًا بيننا وبين طفولة هذا الشعر ونشأته الأولى، فلا نكاد نعرف من ذلك شيئًا. وحاول ابن سلام أن يرفع جانبًا من هذا الستار فعقد فصلًا٢ تحدث فيه عن أوائل الشعراء الجاهليين، وتأثر به ابن قتيبة في مقدمة كتابه: "الشعر والشعراء"، فعرض هو الآخر لهؤلاء الأوائل، وهم عندهما جميعًا أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء في صياغة القصيدة العربية، وكأن الأوائل الذين أنشئوا هذه القصيدة في الزمن الأقدم، ونهجوا لها سننها طواهم الزمان، وفي ديوان امرئ القيس٣:
_________
١ انظر "تاريخ الأدب العربي" "خصائص الشعر الجاهلي"، "المفيد في الأدب العربي": "السنة الثانوية الأولى" "أثر البيئة الجاهلية في الأدب"، "في الأدب الجاهلي" طه حسين.
٢ طبقات فحول الشعراء لابن سلام "طبع دار المعارف" ص: ٢٣ وما بعدها.
٣ ديوان امرئ القيس "طبع دار المعارف".
1 / 5
عُوجا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خِذامِ
ولا نعرف من أمر ابن خِذام هذا شيئًا سوى تلك الإشارة التي قد تدل على أنه أول من بكى الديار ووقف في الأطلال.
وتتراءى لنا مطولات الشعر الجاهلي في نظام معين من المعاني والموضوعات، إذ نرى أصحابها يفتتحونها غالبًا بوصف الأطلال وبكاء آثار الديار، ثم يصفون رحلاتهم في الصحراء، وما يركبونه من إبل وخيل، وكثيرًا ما يشبهون الناقة في سرعتها ببعض الحيوانات الوحشية، ويمضون في تصويرها، ثم يخرجون إلى الغرض من قصيدتهم مديحًا أو هجاء أوفخرًا أو عتابًا أو رثاء. وللقصيدة مهما طالت تقليد ثابت في أوزانها وقوافيها، فهي تتألف من وحدات موسيقية يسمونها الأبيات، وتتحد جميع الأبيات في وزنها وقافيتها، وما تنتهي به من رَوِي.
وتلقانا هذه الصورة التامة الناضجة للقصيدة الجاهلية منذ أقدم نصوصها، وحقًّا توجد قصائد يضطرب فيها العروض ولكنها قليلة، من ذلك قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي١:
أقفَر من أهله ملحوبُ ... فالقُطَبِيَّات فالذَّنوبُ
فهي من مخلع البسيط. وقلما يخلو بيت منها من حذف في بعض تفاعيله أو زيادة على نحو ما ترى في الشطر الأول من هذا المطلع، وعلى غرارها قصيدة تنسب لامرئ القيس مطلعها٢:
عيناك دمعهما سجال ... كأن شأنيهما أوشال
ومثلهما في هذا الاضطراب قصيدة الْمُرَقِّش الأكبر٣:
هل بالديار أن تجيب صممْ ... لو كان رَمْمٌ ناطقًا كلَّم
_________
١ انظر القصيدة في المعلقات العشر وفي ديوان عبيد. وملحوب والقطبيات والذنوب: أسماء مواضع.
٢ الديوان ص: ١٨٩ سجال: جمع سجل أي: صب بعد صب. شأنيهما: مثنى شأن وهو مجرى الدمع. أوشال: جمع وشل وهو الماء القليل.
٣ المفضليات "طبع دار المعارف" ص: ١٣٧.
1 / 6
فهي من وزن السريع، وخرجت شطور بعض أبياتها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
ما ذنبنا في أن غزا ملك ... من آل جفنة حازم مرغم
فإنه من وزن الكامل، وعلى هذه الشاكلة قصيدة عدي بن زيد العبادي١:
تعرف أمس من لَمسَ الطَّلَلْ ... مثل الكتاب الدارس الأحوَلْ
فهي من وزن السريع، وخرجت بعض شطورها على هذا الوزن كالشطر الثاني من هذا البيت:
أنعِمْ صباحًا علقم بن عَدِي ... أثويت اليوم أم ترحل
فإنه من وزن المديد. ويماثل هذه القصيدة في اختلال الوزن قصيدته٢:
قد حان أن تصحوا أو تقصر ... وقد أتى لما عهدت عُصُر
ومن هذا الباب نونية سُليمى بن ربيعة التي أنشدها أبو تمام في الحماسة٣:
إن شِوَاءً ونَشَّوَةً ... وخببَ البازل الأَمونِ
فقد لاحظ التبريزي والمرزوقي أنها خارجة عن العروض التي وضعها الخليل. واضطراب هذه القصائد في أوزانها مما يدل على صحتها وأن أيدي الرواة لم تعبث بها، ومعروف أن الزحافات تكثر في الشعر الجاهلي، بل في الشعر العربي بعامته، ومما كان يشيع بينهم الإقواء، وهو اختلاف حركة الروي في القصيدة كقول امرئ القيس في معلقته يصف جبل أبان:
كأن أبانًا في أقانين وَدْقِه ... كبيرُ أناس في بجادٍ مزمَّلُ٤
فقد ضم اللام في نهاية البيت وهي مكسورة في المعلقة جميعها. وفي رأينا أن
_________
١ الأغاني: "طبعة دار الكتب" ٢/ ١٥٣. الأحول: الذي أتى عليه أحوال وسنوات كثيرة.
٢ الفصول والغايات لأبي العلاء ص: ١٣١.
٣ انظر التبريزي على الحماسة: ٣/ ٨٢، والمرزوقي رقم: ٤٠٨، والخبب: ضرب من السير، البازل: الناقة المسنة. الأمون: الموفقة الخلق.
٤ أفانين: ضروب وأنواع. الودق: المطر. البجاد: كساء مخطط. مزمل: مدثر.
1 / 7
احتفاظ الشعر الجاهلي بهذه العيوب العروضية مما يؤكد صحته في الجملة، وأن الرواة لم يصلحوه إصلاحًا واسعًا، كما يزعم بعض المحدثين كعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، والمستشرق مرغليوث وبعض النقاد العرب فإنهم يرون أن معظم الشعر الجاهلي مصنوع في الإسلام؛ لأنه تنوقل بطريق الرواية ولم يدون إلا في أواخر العصر الأموي، وقد كان أكثر رواته لا ينقلون المرويات بأمانة؛ لأسباب أهمها: التنافس في كثرة المروي، والتعصب القبلي والحزبي، والسعي إلى التكسب بالمرويات أو إلى دعم حجة دينية أو لغوية، وقد أثار التساؤلات والشكوك حول الشعر الجاهلي الدكتور طه حسين في كتابه: "في الأدب الجاهلي"، حيث يقول: "فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرًا من تباين اللهجات ... " ثم يقول بعد ذلك: "ولكننا لا نرى شيئًا من ذلك في الشعر العربي الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجًا للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم وقصيدة أخرى للحارث بن حلزة وكلهم من ربيعة، تستطيع أن تقرأ هذه القصائد السبع دون أن تشعر فيها بشيء يشبه أن يكون اختلافًا في اللهجة أو تباعدًا في اللغة أو تباينًا في مذهب الكلام، البحر العروضي هو هو، وقواعد القافية هي هي، والألفاظ مستعملة في معانيها كما نجدها عند شعراء المسلمين، والمذهب الشعري هو هو.
كل شيء من هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيرًا ما....".
والذي لا ريب فيه أننا نستطيع أن نثق بقسم غير قليل من الشعر الجاهلي لما نراه بوضوح من أثر البيئة وحياة أهلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والعقلية في أدب العرب وشعرهم.
ولما كان الأدب تعبيرًا عن البيئة والإنسان، فقد جاء الأدب الجاهلي ابن بيئة يمثلها في الفطرة والبداهة الشائعتين في أغراضه ومعانيه ولغته وتصاويره، وكان الشاعر في هذا العصر لا يحاول تأليف معانيه، وإنما يرسلها إرسالًا يخلو من الترتيب.
1 / 8
والمنطق العقلي، وفي عمق التحليل وتحليل الحركات النفسية، أما أسلوبه فقد كان خطابيًّا، كأن كل قصيدة من قصائده أعدت لتلقى على جماعة، التركيب فيها متين والألفاظ صلبة خشنة كثيرة الغريب تخلو من الغموض الفني لماديّتها وأخذها بالطبيعية وبعدها عن الرمز والتكلف.
والمعلقات هي أشهر ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، وأطولها نفسًا وأبعدها أثرًا، اختلف الدارسون في سبب تسميتها، قيل: إنها سميت معلقات لأنها كتبت بماء الذهب وعلقت على أستار الكعبة، فسميت بذلك المعلقات أو المذهبات، وأنكر بعضهم تعليقها على جدران البيت الحرام، وزعم أن حَمّادًا الراوية هو الذي جمع القصائد السبع الطوال وقال للناس: هذه هي المشهورات، فأخذها عنه من جاء بعده. وقال آخرون: إنها سميت بذلك لأنها من القصائد المستجادة التي كانت تعلق في خزائن الملوك، وقيل: بل لكونها جديرة بأن تعلق في الأذهان لجمالها، وقيل: لأنها كالأسماط التي تُعلَّق في الأعناق، والراجح اليوم أنها سميت بالمعلقات لتشبيهها بالسموط، أي العقود التي تُعلَّق بالأعناق، وقد سميت أيضًا بالمذهبات لأنها جديرة أن تكتب بماء الذهب لنفاستها.
واختلف أيضًا في عددها، فالبعض قال: إنها سبعة، والبعض قال: إنها عشرة.
ومهما يكن من أمر تسميتها فقد لقيت المعلقات عند الأدباء واللغويين القدامى والمعاصرين اهتمامًا بالغًا، فكثر شراحها وحفاظها لأهميتها وجودتها.
والمعلقات السبع هي سبع قصائد:
الأولى: لامرئ القيس، وأولها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
الثانية: لطرفة بن العبد، وأولها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد.
الثالثة: لزهير بن أبي سلمى، وأولها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم.
الرابعة: للبيد بن ربيعة، وأولها: عفت الديار محلها فمقامها.
الخامسة: لعمرو بن كلثوم، وأولها: ألا هبي بصحنك فاصبحينا.
السادسة: لعنترة بن شداد، وأولها: هل غادر الشعراء من متردم.
1 / 9
السابعة: للحارث بن حلزة اليشكري، وأولها: أذنتنا ببينها أسماء.
ومن الشروح المعروفة لهذه المعلقات: شرح ابن الأنباري "شرح القصائد السبع" وقد شرحها أيضًا أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس النحوي، وقد شرحها شرحًا مختصرًا، وشرحها أيضًا أبو إسماعيل ابن قاسم القالي، وشرح الشنقيطي "شرح المعلقات العشر" والخطيب التبريزي "شرح القصائد العشر" وأبو بكر عاصم بن أيوب البطليموسي، والشيخ أبو زكريا يحيى بن علي المعروف بابن الخطيب التبريزي، ومحمد بن محمود بن محمد المسكان، والإمام الدميري الشافعي، والقاضي الإمام المتحقق أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزَّوزَني صاحب كتابنا هذا.
وقد بخلت علينا كتب التراجم بترجمة مستفيضة لحياة هذا اللغوي والقاضي، فاقتضبوا في ترجمته، وتخبرنا كتب التراجم أنه من أهل زوزن "بلدة بين هراة ونيسابور"، عالم بالأدب، قاضٍ، توفي سنة ٤٨٦هـ- ١٠٩٣م. له عدة مصنفات منها:
- شرح المعلقات السبع.
- المصادر.
- ترجمان القرآن.
- كتاب اللغة الفارسية.
عملنا في هذا الكتاب:
إننا في دار إحياء التراث العربي إذ بذلنا جهدًا متواضعًا في إخراج هذا العمل على وجه يستفيد منه قراؤه، فقد تمثلت خطة العمل في هذا الكتاب بما يلي:
١- ترجمة حياة كل شاعر من أصحاب المعلقات وذلك في بداية معلقته، وقد ميّزنا ترجمتنا عن ترجمة الزَّوزَني بوضع ترجمتنا بين معقوفتين [] . وقد جاءت ترجمتنا بعد ترجمة "الزَّوزَني"، أما المصادر التي اعتمدناها في ترجمة الشعراء فهي على الشكل الآتي:
أ- امرؤ القيس: ديوان امرئ القيس، دار صادر- بيروت.
1 / 10
ب- طرفة بن العبد: شرح ديوان طرفة بن العبد، دار الكتاب العربي.
ج- زهير بن أبي سلمى: شرح ديوان زهير بن أبي سلمى لأبي العباس، دار الكتاب العربي.
د- لبيد بن ربيعة: شرح ديوان لبيد بن ربيعة، للطوسي، دار الكتاب العربي.
هـ- عمرو بن كلثوم: شرح ديوان عمرو بن كلثوم، دار الكتاب العربي.
وعنترة بن شداد: شرح ديوان عنترة، للخطيب التبريزي، دار الكتاب العربي.
٢- تخريج الآيات القرآنية الكريمة.
٣- شرح الكلمات المبهمة والصعبة.
٤- ذكر وزن الشعر الذي يستشهد به الشارح "الزوزني"، ووضعه بين معقوفتين [] .
٥- تخريج بعض الأحاديث الشريفة.
نسأل الله تعالى أن يكون في عملنا هذا ما يطمئن إليه قراؤه والمستفيدون من هذا الكتاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 11
مدخل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
قال القاضي الإمام أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني: هذا شرح القصائد السبع أمليته على حد الإيجاز والاقتصار على حسب ما اقتُرح عليّ، مستعينًا بالله على إتمامه.
ذكر رواة أيام العرب أن امرأ القيس بن حُجر بن عمرو الكِندي كان يعشق عنيزة ابنة عمّه شرحبيل، وكان لا يحظى بلقائها ووصالها، فانتظر ظعن١ الحي، وتخلّف عن الرجال حتى إذا ظعنت النساء سبقهن إلى الغدير المسمّى دارَةَ جُلجُل واستخفى ثَمَّ إذ علم أنهن إذا وردن هذا الماء اغتسلن. فلما وردت العذارى اللواتي كانت عنيزة فيهن ونضَون ثيابهن وشرعن في الانغماس في الماء ظهر امرؤ القيس وجمع ثيابهن وجلس عليها، ثم حلف على ألا يدفع إليهن ثيابهن إلا بعد أن يخرجن عاريات، فخاصمنه زمنًا طويلًا من النهار فأبى إلا إبرار قسمه، فخرجت إليه أوقحهن فرمى بثيابها إليها، ثُمّ تتابعن حتى بقيت عنيزة وأقسمت عليه فقال: يا ابنة الكرام لا بدّ لك من أن تفعلي مثل ما فعلن، فخرجت إليه فرآها مقبلة ومدبرة، فلمّا لبسن ثيابهن أخذن في عذله٢، وقلن: قد جوّعتنا وأخرتنا عن الحي.
فقال لهنّ: لو عقرت راحلتي أتأكلن؟
قلن: نعم.
فعقر راحلته ونحرها، وجمعت الإماء الحطب وجعلن يشوين اللحم إلى أن
_________
١ الظعن: الرحيل.
٢ العذلُ: اللوم.
1 / 13
شبعن، وكانت معه ركوة١ فيها خمر فسقاهنّ منها، فلمّا ارتحلن قسمن أمتعته فبقي هو دون راحلة، فقال لعنيزة: يا ابنة الكرام لابد لك من أن تحمليني، وألحت عليها صواحبها أن تحمله على مقدم هودجها فحملته، فجعل يدخل رأسه في الهودج يقبلها ويشمها، وذكر هذه القصة في أثناء القصيدة.
_________
١ الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
1 / 14
امرئ القيس
ترجمة امرئ القيس
نسبه
...
ترجمة امرئ القيس ٥٦٥م
نسبه:
هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، كنيته أبو وهب، أو أبو الحارث. قيل: إن اسمه جندح وإن امرأ القيس لقب غلب عليه، ومعناه رجل الشدة، لقب به لِمَا لقي من الشدائد.
ولد امرؤ القيس في أوائل القرن السادس للمسيح في نجد. وذكر مؤرخوه أن أمه هي فاطمة بنت ربيعة بنت الحارث أخت كليب والمهلهل. ولكن هذا القول مشكوك في صحته؛ لأن امرأَ القيس ذكر في شعره خالًا له يدعى ابن كبشة، فلو كان كليب والمهلهل خالية لما كان استنكف من ذكرهما، وهما من عُرف محلهما في الشرف والشجاعة. ثم إن الذين نقلوا أخباره يقولون: إن أباه طرده لأنه شبب بفاطمة، فمن غير المعقول أن يكون قد شبب بأمه، ولكن فاطمة هذه كانت ولا ريب زوج أبيه شبب بها لما كانت عليه من جمال فغار أبوه وطرده.
سبب ملك آبائه: أما سبب ملك آبائه على بني وائل رواه أبو عبيدة قال: لما تسافهت١ بكر بن وائل وقطع بعضها أرحام بعض اجتمع رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا علينا حتى أكل القويُّ الضعيفَ ولا نستطيع دفع ذلك فنرى أن نملِّك علينا ملكًا نعطيه الشاء والبعير فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من _________ ١ تسافهت، من السفه: وهو الجهل، ضد الحلم.
سبب ملك آبائه: أما سبب ملك آبائه على بني وائل رواه أبو عبيدة قال: لما تسافهت١ بكر بن وائل وقطع بعضها أرحام بعض اجتمع رؤساؤهم فقالوا: إن سفهاءنا قد غلبوا علينا حتى أكل القويُّ الضعيفَ ولا نستطيع دفع ذلك فنرى أن نملِّك علينا ملكًا نعطيه الشاء والبعير فيأخذ للضعيف من القوي ويرد على المظلوم من _________ ١ تسافهت، من السفه: وهو الجهل، ضد الحلم.
1 / 15
الظالم، ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخرون فيفسد ذات بيننا ولكنا نأتي تبعًا١ فنملكه علينا. فأتوه وذكروا له أمرهم فملك عليهم حُجرًا ملك كندة. فلما ملك سدَّد أمورهم وساسهم أحسن سياسة وانتزع من اللخميين٢ ما كان بأيديهم من أرض بكر بن وائل.
ولَمَّا مات ملك ابنه عمرو إلى سنة ٥٢٤م ثم الحارث بن عمرو وهو جدّ امرئ القيس وأمه بنت عوف بن محلِّم بن ذهل بن شيبان ونزل الحيرة وكانت فيها النصرانية وبقي عليها.
ثم تفاسدت٣ القبائل من نزار فأتاه أشرافهم فقالوا: إنّا في دينك، ونحن نخاف أن نتفانى فيما يحدث بيننا فوجِّه معنا بنيك ينزلون فينا فيكفون بعضنا عن بعض.
وكان للحارث خمسة بنين: حُجر ومعدي كرب الملقب بالغلفاء، لأنه كان يغلف رأسه بالطيب وشرحبيل، وسلمة، وعبد الله. فقرّقهم الحارث أبوهم في قبائل العرب: فملك ابنه حجرًا على بني أسد وغطفان، وملّك شرحبيل على بكر بن وائل وبني حنظلة؛ وملك معدي كرب على بني تغلب وطوائف بني دارم وبني رقية، وملَّك عبد الله على بني عبد القيس، وملَّك سلمة على قيس.
وبقي الحارث مدَّة في ملكه حتى طلبه أنوشروان وكان ينقم عليه لأمر صدر منه أيام والده قباذ. فبلغ ذلك الحارث وهو بالأنبار وكان بها منزله. فخرج هاربًا في هجائنه وماله وولده بالثويَّة. وتبعه المنذر بالخيل من تغلب وبهراء وإياد، فلحث بأرض كلب، فنجا، وانتهب ماله وهجائنه، وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسًا من بني آكل المرار٤ فقتلوهم بجفر الأملاك في ديار بني مرينا العِباديين بين دير هند والكوفة، وفيهم يقول امرؤ القيس أبياته التي مطلعها:
_________
١ تبع: ملك اليمن.
٢ اللخميون: ملوك الحيرة، ويقال لهم كذلك المناذرة.
٣ تفاسدت: تدابرت ووقع الخلاف والعداوة ما بينها.
٤ آكل المرار: لقب حجر بن معاوية بن ثور المعروف بكندة. وهو من أجداد حجر والد امرؤ القيس، قيل: إنه سمي بآكل المرار؛ لأنه لَمَّا بلغه أن الحارث بن جبلة ملك الغسانيين سبى امرأته هند بنت ظالم جعل يأكل من غيظه المرار ولا يدري، والمرار نبت شديد المرارة، فلقب بذلك.
1 / 16
ألا يا عين! بَكّي لي شنينا ... وبَكّي لي الملوك الذاهبينا
ومضى الحارث وأقام بأرض كلب، وكلبٌ يزعمون أنهم قتلوه، وعلماء كندة يزعمون أنه خرج إلى الصيد فألظَّ بتيس من الظباء، فأعجزه، فآلى بأليَّة١ ألا يأكل أولًا إلا من كبده فطلبته الخيل ثلاثًا، فأتى به بعد الثالثة وقد هلك جوعًا، فشوى له الكبد وتناول منه فلذة٢ فأكلها حارَّة فمات.
_________
١ ألظ به: لازمه. آلى: أقسم. الآلية: القسم.
٢ فلذة: قطعة.
مقتل والد امرئ القيس: أما حجر ابنه فكان على بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة٣، في كل سنة، موقَّتة، فعمر كذلك دهرًا ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم، فمنعوه ذلك، وحجر، يومئذٍ، بتهامة، وضربوا رسله وضرحوهم٤ ضرحًا شديدًا قبيحًا. فبلغ ذلك حجرًا فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سرواتهم٥، فجعل يقتلهم بالعصا، فسمّوا عبيد العصا. وأباح الأموال وصيَّرهم إلى تهامة وحبس أشرافهم ثم رقَّ لهم، فاستكانوا له حتى إذا وجدوا منه غفلة تمالئوا عليه فقتلوه. وخلَّفَ حجر أولادًا منهم نافع، وكان أكبر ولده، وامرؤ القيس، وهو أصغرهم. _________ ١ ألظ به: لازمه. آلى: أقسم. الآلية: القسم. ٢ فلذة: قطعة. ٣ إتاوة: خراج. ٤ ضرحوهم: دفنوهم. ٥ سرواتهم: ساداتهم وأشرافهم.
حياته: كان امرؤ القيس ذكيًّا متوقّد الفهم. فلما ترعرع أخذ يقول الشعر، فبرَّزَ فيه إلى أن تقدَّم على سائر شعراء وقته بالإجماع. وكان مع صغر سنه يحبّ اللهو، ويستتبع صعاليك العرب ويتنقَّل في أحيائها فيغير بهم، وكان يكثر من وصف الخيل ويبكي على الدمن ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك.
مقتل والد امرئ القيس: أما حجر ابنه فكان على بني أسد، وكانت له عليهم إتاوة٣، في كل سنة، موقَّتة، فعمر كذلك دهرًا ثم بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم، فمنعوه ذلك، وحجر، يومئذٍ، بتهامة، وضربوا رسله وضرحوهم٤ ضرحًا شديدًا قبيحًا. فبلغ ذلك حجرًا فسار إليهم بجند من ربيعة وجند من جند أخيه من قيس وكنانة، فأتاهم وأخذ سرواتهم٥، فجعل يقتلهم بالعصا، فسمّوا عبيد العصا. وأباح الأموال وصيَّرهم إلى تهامة وحبس أشرافهم ثم رقَّ لهم، فاستكانوا له حتى إذا وجدوا منه غفلة تمالئوا عليه فقتلوه. وخلَّفَ حجر أولادًا منهم نافع، وكان أكبر ولده، وامرؤ القيس، وهو أصغرهم. _________ ١ ألظ به: لازمه. آلى: أقسم. الآلية: القسم. ٢ فلذة: قطعة. ٣ إتاوة: خراج. ٤ ضرحوهم: دفنوهم. ٥ سرواتهم: ساداتهم وأشرافهم.
حياته: كان امرؤ القيس ذكيًّا متوقّد الفهم. فلما ترعرع أخذ يقول الشعر، فبرَّزَ فيه إلى أن تقدَّم على سائر شعراء وقته بالإجماع. وكان مع صغر سنه يحبّ اللهو، ويستتبع صعاليك العرب ويتنقَّل في أحيائها فيغير بهم، وكان يكثر من وصف الخيل ويبكي على الدمن ويذكر الرسوم والأطلال وغير ذلك.
1 / 17
أسطورة أمر أبيه بذبحه
...
أسطورة أمر أبيه يذبحه:
قيل: إنَّ أوَّل شعر نظمهُ قولهُ:
أذود القوافِيَ عني ذيادا ... ذياد غلام جريء جودا١
فلمّا كثرن وعنينه ... تَخَيَّر منهن سِتًّا جيادا٢
فأعزل مرجانها جانبًا ... وآخذ من درها المستجادا
فبلغ قوله إلى والده فغضب عليه لقوله الشعر، وكانت الملوك تأنف من ذلك. فأمر رجلًا يقال له ربيعة أن يذبحه، فحمله ربيعة حتى أتى به جبلًا فتركه فيه وأخذ عيني جؤذر٣، فجاء بهما إلى أبيه. فآسف حجر لذلك وحزن عليه، فلمَّا رأى ذلك ربيعة قال: ما قتلته. قال: فجئني به. فرجع إليه فوجده يقول:
ولا تُسْلِمَنِّي يا ربيع لهذه ... وكنت أراني قبلَها، بك واثقًا
مُخَالِفَةٌ نَوى أسيرٍ بقريَةٍ ... قُرى عَرَبيّاتٍ يَشِمنَ البوارقا٤
فإما ترَيني اليوم في رأس شاهق ... فقد أغتدي أقود أجرد تائقا٥
وقد أذعر الوحش الرِّتاع بِغِرَّةٍ ... وقد أجتلي بيض الخدور الروائقا٦
_________
١ أي ادفع القوافي عني لتكاثرها علي، كما يدفع الغلام الجريء فرسًا.
٢ عنينه: أتعبنه.
٣ الجؤذر: ولد البقرة الوحشية.
٤ يشمن، من شام البرق: نظر إليه. لعله يريد أن يقول إن وجوده في قرى العربيات اللواتي ينظرن إلى البوارق، أي بنات قومه هي خلاف وجوده أسيرًا في قرية، بعيدًا عن أهله.
٥ تائقًا: أي تائقًا إلى الحرب، مسرعًا إليها.
٦ أذعر: أخيف، الرتاع: الراتع، بغرة: بغفلة.
تشرده: فعاد امرؤ القيس إلى والده إلا أنه لم يكفّ عن قول الشعر، فطرده أبوه وأبى أن يقيم معه أنفة من قول الشعر، وقيل: بل طرده لَمَّا تغزل بفاطمة وكان لها عاشقًا، فكان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذَّاذهم من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى
تشرده: فعاد امرؤ القيس إلى والده إلا أنه لم يكفّ عن قول الشعر، فطرده أبوه وأبى أن يقيم معه أنفة من قول الشعر، وقيل: بل طرده لَمَّا تغزل بفاطمة وكان لها عاشقًا، فكان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذَّاذهم من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم وخرج إلى
1 / 18
الصيد، فتصيد ثم عاد، فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل عنه إلى غيره.
أسطورة زواجه: أخبر محمد بن القاسم أن امرأ القيس آلى بأليّة ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين. فجعل يخطب النساء، فإذا سألهنَّ عن هذا قلن: أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل، إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة فأعجبته. فقال لها يا جارية: ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما أربعة فأخلاف الناقة. واثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوَّجه إياها وشرطت هي عليه أن تسأله عن ثلاث خصال فجعل لها ذلك وعلى أن يسوق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدًا له إلى المرأة وأهدى إليها نِحيًا١ من سمن ونِحيًا من عسل وحلّة من عصب٢، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بشعره فانشقت، وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حيّ المرأة، وهم خلوف٣، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها فقالت له: أعلم مولاك: أنّ أبي ذهب يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعائيكم نَضَبا. فقدم الغلام على مولاه وأخبره. فقال: أمّا قولها إن أبي يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا. فإن أباها ذهب يحالف قومًا على قومه، وأمّا قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين. فإنّ أمها ذهبت تقبل٤ امرأة نفساء، وأما قولها إن أخي يراعي الشمس، فإن _________ ١ النحي: الظرف. ٢ حلة: ثوب. العصب: نوع من برود اليمن. ٣ خلوف: غائبون. ٤ تقبل: تكون قابلة، أي: تأخذ الولد عند الولادة.
أسطورة زواجه: أخبر محمد بن القاسم أن امرأ القيس آلى بأليّة ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين. فجعل يخطب النساء، فإذا سألهنَّ عن هذا قلن: أربعة عشر. فبينا هو يسير في جوف الليل، إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة فأعجبته. فقال لها يا جارية: ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة. وأما أربعة فأخلاف الناقة. واثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوَّجه إياها وشرطت هي عليه أن تسأله عن ثلاث خصال فجعل لها ذلك وعلى أن يسوق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدًا له إلى المرأة وأهدى إليها نِحيًا١ من سمن ونِحيًا من عسل وحلّة من عصب٢، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها فتعلقت بشعره فانشقت، وفتح النحيين فطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حيّ المرأة، وهم خلوف٣، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها ودفع إليها هديتها فقالت له: أعلم مولاك: أنّ أبي ذهب يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعائيكم نَضَبا. فقدم الغلام على مولاه وأخبره. فقال: أمّا قولها إن أبي يقرب بعيدًا ويبعد قريبًا. فإن أباها ذهب يحالف قومًا على قومه، وأمّا قولها ذهبت أمي تشق النفس نفسين. فإنّ أمها ذهبت تقبل٤ امرأة نفساء، وأما قولها إن أخي يراعي الشمس، فإن _________ ١ النحي: الظرف. ٢ حلة: ثوب. العصب: نوع من برود اليمن. ٣ خلوف: غائبون. ٤ تقبل: تكون قابلة، أي: تأخذ الولد عند الولادة.
1 / 19
أخاها في سرح١ له يرعاه فهو ينتظر وجوب الشمس ليروح٢ به، وأما قولها إن سماءكم انشقت، فإن البرد الذي بعثت به انشق، وأما قولها إن وعائيكم نَضَبا، فإن النحيين اللذين بعثت بهما نقصا. فاصدقني.
فقال: يا مولاي: إني نزلت بماء من مياه العرب، فسألوني عن نفسي وأخبرتهم أني ابن عمك، ونشرت الحلة فانشقت وفتحت النحيين، فأطعمت منهما أهل الماء.
فقال: أولى لك٣.
ثم ساق مائة من الإبل وخرج نحوها ومعه الغلام فنزلا منزلًا، فخرج الغلام يسقي الإبل فعجز، فأعانه امرؤ القيس، ورمى به الغلام في البئر وخرج حتى جاء قوم المرأة بالإبل وأخبرهم أنه زوجها. فقيل لها: قد جاء زوجك.
فقالت: والله ما أدري أزوجي هو أم لا. وكن انحروا له جزورًا وأطعموه من كرشها وذنبها.
ففعلوا. فقالت: اسقوه لبنًا حازرًا، وهو الحامض.
فسقوه فشرب.
فقالت: افرشوا له عند الفرث٤ والدم.
ففرشوا له فنام. فلما أصبحت أرسلت إليه: إني أريد أن أسألك. فسألته عن أشياء لم يحسن جوابها. قالت: عليكم بالعبد فشدّوا أيديكم به ففعلوا.
قال: ومرّ قوم فاستخرجوا امرؤ القيس من البئر فرجع إلى حيّه فاستاق مائة من الإبل وأقبل على امرأته. فقيل لها. قد جاء زوجك.
_________
١ السرح: الماشية.
٢ وجوب الشمس: غيابها. ليروح: ليرجع.
٣ أولى لك: كلمة تهدد ووعيد معناها: ويلك، أي قاربك الشر فاحذر، وقيل: معناها الويل لك وهو مقلوب من الويل، وقيل معناها: أولى لك العقاب والهلاك، وقيل: هي من أولاك الله ما تكرهه، واللام في لك زائدة.
٤ الفرث: ما في الكرش من قذر.
1 / 20
فقالت: والله ما أدري أهو زوجي أم لا. ولكن انحروا له جزورًا فأطعموه من كرشها وذنبها.
ففعلوا: فلما أتوه بذلك قال: وأين الكبد والسنام والملحاء١؟
فأبى أن يأكل فقالت: اسقوه لبنًا حازرًا.
فأبى أن يشربه وقال: فأين الصريف والرثيئة٢؟
فقالت: افرشوا له عند الفرث والدم. فأبى أن ينام وقال: افرشوا لي فوق التلعة٣ الحمراء واضربوا لي عليها خباء.
ثم أرسلت إليه: هلمَّ شريطتي عليك في المسائل الثلاث.
فقال لها: سلي عما شئت. فقالت: مم يختلج كشحاك٤؟
قال: للبسي الحبرات٥.
قالت: فمم تختلج فخذاك؟
قال: لركضي المطيات٦.
قالت: هذا زوجي لعمري فعليكم به واقتلوا العبد.
فقتلوه وتزوج بالجارية.
_________
١ السنام حدبة في ظهر البعير. الملحاء: لحم في صلب البعير، أي ظهره، من الكاهل إلى العجز.
٢ الصريف: اللبن الصرف غير المخلوط، الرثيئة: اللبن الحامض يخلط بالحلو.
٣ التلعة: ما علا من الأرض.
٤ يختلج: يضطرب. كشحاك: خصراك، الواحد كشح.
٥ الحبرات: الواحدة حبرة: نوع من برود اليمن.
٦ ركضي: ضربي برجلي. المطيات: ما يتمطى، يركب الواحدة مطية.
تصعلكه: ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمُّون من أرض اليمن وقيل: من الشام. وأخبر ابن السكيت: أن حجرًا أباه لَمَّا طعنه بعض
تصعلكه: ثم لم يزل امرؤ القيس مع صعاليك العرب حتى أتاه خبر مقتل أبيه وهو بدمُّون من أرض اليمن وقيل: من الشام. وأخبر ابن السكيت: أن حجرًا أباه لَمَّا طعنه بعض
1 / 21
بني أسد ولم يجهز عليه أوصى ودفع كتابه إلى رجل من بني عجل، يقال له عامر الأعور، وقال له: انطلق إلى ابني نافع، فإن بكى وجزع، فالهُ عنه واستقرِ أولادي، واحدًا واحدًا حتى تأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فإن لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي. وقد كان بيَّن في وصيته من قتله وكيف كان خبره.
فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب، فوضعه على رأسه، ثم استقراهم واحدًا واحدًا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس، فوجده في دمُّون مع نديم له يشرب ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر.
فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: اضرب فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دَستك.
ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كلِّه فأخبره فقال:
تطاول الليل علينا، دَمُّون ... دَمُّون! إنا معشرٌ يَمَانُون
وإننا لأهلنا مُحِبُّون
وقال أيضًا:
خليليَّ ما في الدار مصحىً لشاربٍ ... ولا في غَد إذ ذاك ما كان مشربُ
ثم قال: ضيَّعني أبي صغيرًا وحَمَّلني دمه كبيرًا. لا صحوَ اليوم ولا سكر غدًا اليوم خمر وغدًا أمر١. اليوم قحاف، وغدًا نِقاف٢.
فذهب القولان مثلًا:
ثم شرب سبعًا. فلما صحا آلى أن لا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بدهن، ولا يلهو بلهو، ولا يغسل رأسه من جنابة، حتى يدرك بثأر أبيه فيقتل من بني آله مائة ويجزّ نواصي مائة، وفي ذلك يقول:
_________
١ قال الميداني: أي يشغلنا اليوم خمر وغدًا يشغلنا أمر الحرب. ومعناه اليوم خفض ودعة. وغدًا جد واجتهاد وهو يضرب للدّوَل الجالبة للمحبوب والمكروه. وقد روي المثل على لسان المهلهل.
٢ القحاف، الواحد قحف: وهو إناء يشرب فيه. النقاف: المناقفة: أي اليوم شرب بالقحاف، وغدًا نضرب هامة العدو.
1 / 22
أَرِقْتُ وَلَمْ يأرَق لِمَا بِيَ نَافعُ ... وهاجَ لي الشوقَ الهموم الرَّوادع١
ولَمَّا جنه الليل رأى برقًا فقال:
أرقت لبرق بليل أهَلْ ... يضيء سناه بأعلى الجبل٢
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل٣
بقتل بني أسد رَبَّهم ... ألا كل شيء سواه جلل٤
فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم، وأين الخول٥
ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون، إذا ما استهل٦
_________
١ الروادع، الواحدة رادعة، من ردعه عن الشيء: زجره ورده عنه.
٢ أهل: تلألأ.
٣ القلل: الواحدة قلة: قمة الجبل.
٤ جلل: أي صغير حقير.
٥ أي: أين ربيعة تدافع عن سيدها، وأين تميم، وأين العبيد والإماء.
٦ استهل: تلألأ وجهه فرحًا.
تأهبه للأخذ بالثأر: ثم أخذ يُعِدُّ العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد. فبلغ بني أسد ما يعدُّه فأوفدوا عليه رجالًا من قبائلهم كهولًا وشبانًا، فيهم المهاجر بن خداش ابن عم عبيد بن الأبرص وقبيصة بن نعيم، وكان في بني أسد مقيمًا، وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور وِردًا وإصدارًا، يعرف ذلك له من كان محيطًا بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم واحتجب عنهم ثلاثًا. فسألوا من حضرهم من رجال كندة. فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن أبيه حجر من السلاح والعدة. فقالوا: اللهم غفرًا. إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف، ونستدرك به ما فرط فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء٧، وخفّ وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم بالسواد _________ ٧ القباء: ثوب يلبس فوق الثياب، وهو ما نسميه القنباز.
تأهبه للأخذ بالثأر: ثم أخذ يُعِدُّ العدد ويجهز الأسلحة لمحاربة بني أسد. فبلغ بني أسد ما يعدُّه فأوفدوا عليه رجالًا من قبائلهم كهولًا وشبانًا، فيهم المهاجر بن خداش ابن عم عبيد بن الأبرص وقبيصة بن نعيم، وكان في بني أسد مقيمًا، وكان ذا بصيرة بمواقع الأمور وِردًا وإصدارًا، يعرف ذلك له من كان محيطًا بأكناف بلده من العرب. فلما علم امرؤ القيس بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم واحتجب عنهم ثلاثًا. فسألوا من حضرهم من رجال كندة. فقال: هو في شغل بإخراج ما في خزائن أبيه حجر من السلاح والعدة. فقالوا: اللهم غفرًا. إنما قدمنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف، ونستدرك به ما فرط فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم في قباء٧، وخفّ وعمامة سوداء، وكانت العرب لا تعتم بالسواد _________ ٧ القباء: ثوب يلبس فوق الثياب، وهو ما نسميه القنباز.
1 / 23
إلا في الترات١. فلما نظروا إليه قاموا له وبدر إليه قبيصة: إنك في المحل والقدر والمعرفة بتصرُّف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتتنقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصير واعظ، ولا تذكرة مجرّب، ولك من سؤدد منصبك وشرف أعراقك، وكرم أصلك في العرب محتمل يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة ورجوع عن هفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك. فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم وكرم الصفح في الذي كان من الخطب الجليل، الذي عمَّت رَزيَّته نزارًا واليمن، ولم تخصص كندة بذلك دوننا، للشرف البارع.
كان لحجر التاج والعمَّة فوق الجبين الكريم، وإخاء الحمد وطيب الشيم، ولو كان يُفدى هالك بالأنفس بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك ولفديناه منه. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أولاه على أخراه، ولا يلحق أقصاه أدناه، إمَّا أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتًا وأعلاها في بناء المكرمات صوتًا، فَقُدناه إليك بنسعِهِ٢ يذهب مع شفرات حسامك فيقال: رجل امتُحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته٣ إلا بتمكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح من بني أسد من نَعَمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها٤، لم يردده تسليط الإحَن على البُراء٥، وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الأزرَ، ونعقد الخمُر فوق الرايات.
فبكى امرؤ القيس ساعة ثم رفع رأسه فقال: لقد علمت العرب أن لا كفءَ لحجر في دم، وإني لن أعتاض به جملًا أو ناقة، فأكتسب بذلك سبَّة الأبد وفتَّ العضد. وأما النظرة، فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سبَبًا، وستعرفون طلائع كندة، من بعد ذلك، تحمل القلوب حنُقًا، وفوق الأسنة علقًا٦.
_________
١ التراث: الواحدة ترة: الانتقام.
٢ النسعة: سير يشد به الخف في الرجل.
٣ السخمة: الضغينة.
٤ القضب: السيوف. أجفانها: أغمادها.
٥ الإحن، الواحدة إحنة: الحقد. البراء: البريء.
٦ العلق: الدم.
1 / 24
إذا جالت الخيل في مأزق ... تُدافعُ فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ قالوا: بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار١، لمكروه وأذية وحرب وبلية، ثم نهضوا عنه وقبيصة يقول متمثلًا:
لعلك أن تستوخم الموت، إن غدت ... كتائبنا في مأزق الموت، تمطر٢
فقال امرؤ القيس: لا والله لا استوخمه، فرويدًا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير، ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي إذ كنت نازلًا بربعي، ولكنك قلت، فأجبت.
فقال قبيصة: ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب.
قال امرؤ القيس: فهو ذاك.
_________
١ الاجترار، من اجتر الشيء: جره.
٢ تستوخم الموت: تجده وخيمًا.
إيقاعه ببني أسد: ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرًا وتغلب، وعليهم إخوته شُرحبيل وسلَمة، فسألهم النصر على بني أسد. ثُمَّ بعث عليهم فنذروا بالعيون٣، ولجئوا إلى بني كنانة وكان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحارث. فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة ففعلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب، حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة فدونك ثأرك، فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم فقال في ذلك: _________ ٣ نذروا بالعيون: علموا بالجواسيس، فحذروهم واستعدوا.
إيقاعه ببني أسد: ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرًا وتغلب، وعليهم إخوته شُرحبيل وسلَمة، فسألهم النصر على بني أسد. ثُمَّ بعث عليهم فنذروا بالعيون٣، ولجئوا إلى بني كنانة وكان الذي أنذرهم بهم علباء بن الحارث. فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل ولا تعلموا بني كنانة ففعلوا. وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب، حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم وقال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة فدونك ثأرك، فاطلبهم فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم فقال في ذلك: _________ ٣ نذروا بالعيون: علموا بالجواسيس، فحذروهم واستعدوا.
1 / 25