أما بعد؛ فإن التمسك بهديه لا يستتب إلا بالاقتفاء لما صدر من مشكاته، والاعتصام بحبل الله لا يتم إلا ببيان كشفه، وكان (كتاب المصابيح) الذي صنفه الإمام محيي السنة، قامع البدعة، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، رفع الله درجته- أجمع كتاب صنف في بابه، وأضبط لشوارد الأحاديث وأوابدها ولما سلك ﵁ طريق الاختصار، وحذف الأسانيد، تكلم فيه بعض النقاد، وإن كان نقله -وإنه من الثقات- كالإسناد، لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال، فاستخرت الله تعالى، وناستوفقت منه، فأعلمت ما أغفله، فأودعت كل حديث منه في مقره كما رواه الأئمة المتقنون، والثقات الراسخون؛ مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، وأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وابي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، وأبي
ــ
قوله: (لا يستتب) أي لا يستقيم ولا يستمر، من التب والتباب، وهو الاستمرار في الخسران، و(الاقتفاء) الاتباع، و(المشكاة) الكوة في الجدار غير النافذة، يوضع فيها المصباح، وهي ههنا مستعارة لصدر الرسول ﷺ شبه صدره بها لأنه كالكوة ذو وجهين، فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير، ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق، وذلك لاستعداده بإشراحه مرتين، وشبه قلبه ﷺ بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري؛ لصفائه وإشراقه، وخلوصه من كدورة الهوى، ولوث النفس الأمارة، وهذا هو المعني في خطبة المصابيح بقوله: (خرجت من مشكوة التقوى) وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب.
قوله: (لشوارد الأحاديث) هو من شرد شرودا وشرادا إذا انفرد، فهو شارد، والأوابد: الوحوش، وهو من تأبَدت البهيمة تأبدًا، أى توحشت، وأعلام الشيء آثاره التي يستدل بها (عليه) والأغفال الأرض المجهولة، ليس فيها أثر تعرف به.
قوله: (المتقنون) هو من إتقان الأمر وإحكامه، ورجل تقن (بكسر التاء) حاذق، وتقن أيضًا (الراسخون) من رسوخ الشيء، وهو ثباته ثباتا متمكنا، والراسخ في العلم المتحقق به الذي لا
2 / 414