تقديم:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد سعدت كثيرًا حين شرفني "مركز البحث العلمي، وتحقيق التراث" بجامعة أم القرى في مكة المكرمة بتحقيق كتاب "شرح الكافية الشافية" للإمام جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك، ذلك أن صحبتي لابن مالك ولمؤلفاته قديمة، ووثيقة.
فمؤلفات ابن مالك تعرفت عليها في سن مبكرة، وبالتحديد منذ بدأت حياتي العلمية حين كان حفظ الألفية، وغيرها من المتون -بجواز القرآن الكريم- عدة لا غنى عنها لطالب العلم.
وتعرفت على الشيخ حين بدأت دراساتي العليا، واتخذت من حياته وآثاره مجالًا لبحث حصلت به على درجة الماجستير.
وكان من بين الفصول التي تضمنها هذا البحث: الأصول التي بنى عليها ابن مالك آراءه النحوية، والموازنة بين آرائه في مختلف مؤلفاته.
1 / 5
واقتضى هذا -بطبيعة الحال- أن تكون تحت بصري، وبين يدي نسخ من مؤلفات الشيخ -وقد كانت في الغالب حينذاك مخطوطات- فسعيت إليها في مواقعها أنسخ منها بقلمي صورًا أحتفظ بها، وأقلب النظر بين صفحاتها من وقت لآخر.
وكلما مرت الليالي زادتني من ابن مالك قربًا، ولمصنفاته حبًا، فعقدت العزم على الإسهام في إحياء تراثه بالقدر الذي أستطيع.
فبدأت بمقدمته "عمدة الحافظ وعدة اللافظ" وشرحها فنشرتهما محققين (١).
وهأنذا أواصل المسيرة بتحقيق أرجوزته "الكافية الشافية" وشرحها.
والحق أن "الكافية الشافية" أرجوزة سهلة ميسرة، قل أن تسمح بمثلها القرائح، أو تطمح إلى النسخ على منوالها المطامح، فقد جمع فيها ناظمها مسائل النحو والصرف، وبسطها، ورتب الأبواب، وضبطها فغدت كما قال:
. . . . . . . . . . . مستوفية ... عن أكثر المصنفات مغنية
تكون للمبتدئين تبصرة ... وتظفر الذي انتهى بالتذكرة
أما شرحها، فقد التزم فيه المصنف ﵀ منهجًا ارتضاه لنفسه، وأعلنه في المقدمة حين قال:
"سألني بعض الألباء، المعتنين بحقائق الأنباء أن أتلو "الكافية الشافية" بشرح تخف معه المئونة، وتحف به المعونة، ويكون به الغناء مضمونًا، والعناء مأمونًا. فأجبت دعوته".
_________
(١) دار الفكر العربي بالقاهرة.
1 / 6
لذلك أقتصر في هذا الشرح على جلاء الغامض، وتيسير العسير، وضم المشتت وتقريب البعيد.
وهو إذا تحدث في موضوع ما تحدث حديثًا شاملًا، واستقصاه استقصاء كاملًا في تنسيق رائع، وأسلوب بديع مع دعم كلامه بما يحتاج إليه المقام من دليل وشاهد.
وبهذا صارت "الكافية الشافية" مع شرحها عنوانًا على عظمة ابن مالك، واقتداره وسعة إطلاعه.
وهناك أمر آخر يزيد من مكانه هذا الشرح، ذلك أن ما جاء في الألفية:
أحصي من الكافية الخلاصة .... . . . . . . . . . .
كما قال الناظم في الألفية.
وإذا كان ذلك كذلك كانت "الكافية الشافية" قد تضمنت ما في الألفين وزيادة.
وإذا كانت "الكافية الشافية" متضمنة ما في الألفية وزيادة، كان "شرح الكافية الشافية" شرحًا وافيًا للألفية بقلم ناظمها.
وبهذا ندرك السر في إهمال ابن مالك تأليف كتاب في شرح الألفية مخالفًا بذلك منهجه المعهود في التأليف، حيث كان يبدأ بالمصنفات الموجزة ثم يبسطها، وبالأراجيز ثم يشرحها.
كما يتضح السر في اعتماد كل شراح الألفية -بلا استثناء- على ما جاء في "شرح الكافية الشافية" لابن مالك.
ولقد حرصت في تحقيقي لهذا الكتاب أن أضع بين يدي القارئ الأصل الكامل لهذا الكتاب مضبوطًا، مقتصدًا في التعليق،
1 / 7
مقتصرًا على ما يحتاج إليه المقام دون إسراف أو حشو.
وسرت في التحقيق على النحو التالي:
١ - مقابلة النسخ المختلفة، والتنبيه في الحاشية على اختلاف النصوص.
٢ - ضبط الآيات القرآنية الواردة في الكتاب، وبيان مواضعها في الكتاب العزيز.
٣ - تتبع القراءات التي أشار إليها المصنف بالرجوع إلى كتب القراءات للتأكد منها، ومن صحة نسبتها إلى قائلها.
ومن الحق التنويه بدقة المصنف في استدلاله بالقراءات، ودقة نسبة القراءة -إذا نسبها- لصاحبها.
كما تجدر الإشارة إلى أن المصنف في استشهاده بآيات القرآن الكريم، كان يعتد بالقراءات المختلفة من غير تفريق بين قارئ وآخر.
٤ - ضبط الأحاديث النبوية، وبيان مواقعها في الكتب الصحاح.
٥ - ضبط الشواهد الشعرية ونسبتها إلى قائليها، وكشف الستار عن معاني الكلمات التي يكتنفها غموض، وبيان البحور الشعرية للأبيات.
واستكمالًا للفائدة ذيلت حديثي عن كل بيت بيان بعض المراجع، التي اعتمدت عليها. وكثيرًا ما كان يغفل المصنف ذكر قائل الشاهد، وكان اهتمامه بنسبة الشواهد لقائليها يزداد إذا استشهد بها لتأكيد رأيه في مسألة خلافية.
٦ - تحقيق النصوص التي اقتبسها المصنف، وذلك بالرجوع إلى مصادرها.
1 / 8
٧ - تحقيق الآراء التي نسبها المصنف لبعض العلماء، وذلك بالرجوع إلى ما حفظه الزمان من مؤلفاتهم، أو بالرجوع إلى ما كتبه السابقون الأولون عنهم.
٨ - ضبط الكلمات التي أوردها المصنف في معرض التمثيل للقواعد أو الضيغ، وتفسير معناها، إذا كان لفظها يحتاج إلى ضبط، ومعناها يفتقر إلى تفسير.
٩ - التعريف بالعلماء الذين ورد ذكرهم في ثنايا الكتاب.
هذا وقد قدمت للكتاب بمقدمة موجزة تحدثت فيها عن المؤلف، وعصره ثم عرفت بأرجوزة "الكافية الشافية" ووازنت بينها وبين "الدرة الألفية" لابن معط. وتلوت ذلك بالحديث عن "شرح الكافية الشافية"، وزمن تأليفه، وبينت بعض السمات البارزة فيه، وتحدثت بعد ذلك عن شخصية المؤلف في الكتاب، وعن بعض الأصول التي بنى عليها لامؤلف آراءه فيه.
ولقد رأيت في الكتاب أمورًا تثير الانتباه، فنبهت عليها.
وختمت المقدمة بالحديث عن النسخ التي اعتمدت عليها في التحقيق.
أما عن المصادر التي اعتمدت عليها فهي كثيرة ومتعددة. وإذا كان منها ما تيسرت لي سبل الحصول عليه، فإن منها ما هو عزيز ونادر، وطريق الوصول إليه صعب عسير، كما هو الحال في المخطوطات والمصورات، والمراجع التي نفدت طبعاتها.
وبعد:
فإنه لا يسعني إلا أن أتقدم بالشكر الوفر الجزيل إلى جميع
1 / 9
العاملين في مركز البحث العلمي، وإحياء التراث بمكة المكرمة وعلى رأسهم سعادة الدكتور ناصر الرشيد.
فجزى الله الجميع خير الجزاء، وجعل عملي هذا مفتتحًا بخلوص النية مختتمًا بحصول الأمنية، التي نسعى إليها وهي خدمة اللغة العربية وأبنائها.
والله المستعان.
وكتبه:
د/ عبد المنعم أحمد هريدي
الأستاذ المشارك في معهد اللغة العربية
جامعة أم القرى
1 / 10
المقدمة:
تعريف بالمؤلف:
لم تعن أسرة ابن مالك بتسجيل اليوم الذي ولد فيه طفلها، فظل هذا اليوم مجهولًا إلى الآن لدى مؤرخيه، وسوف يظل كذلك إلى الأبد.
ويبدو أن الأسرة التي انحدر منها المصنف لم تكن تطمع في جاه، ولم يكن لها أساس من مجد.
فلم يعرف التاريخ عن آبائه شيئًا، ولم يرد من النصوص ما يشير إلى ذلك من قريب أو بعيد، فالصمت مطبق حول أسرته.
ويظهر أن الشيخ كان يعرف ذلك. يعرف أنه نشأ في أسرة رقيقة الحال، فلم يشر إليها، أو يتحدث عنها.
ومن يدري. لعله لم يكن يجد من الحوادث المتعلقة بها ما يستحق الذكر، أو كان يجده، ولكن يؤلمه الحدث فيها.
وسكوت ابن مالك عن الحديث عن نفسه، وإمساكه عن الإشارة إلى ماضيه، وصمته عن كل ما يتصل بأهله، وعشيرته أعطى الفرصة السانحة للمؤرخين، فأهملوا الحديث عما يتعلق بذلك.
فقد درج المؤرخون في العصور القديمة والوسطى، وشطر من
1 / 11
العصور الحديثة على التأريخ للملوك، وأصحاب الجاه والسلطان، حتى كاد التاريخ في تلك الأيام يقتصر على الحكام والأعيان.
فإذا ما ولد طفل في قصر اهتم به المؤرخون منذ مولده -بل ربما قبل مولده- وأفاضوا في نسبه وحسبه، وعظيم مواهبه.
أما إذا كان مغمورًا، فإن إنسانًا واحدًا لا يكاد يشعر بقدومه، ولم يتعرض له كاتب أو مؤرخ.
فإذا أصاب من الدنيا نصيبًا حاول المؤرخون عندئذ سد الثغرة التي أحاطت بنشأته، فإذا أعوزتهم الحقائق لجئوا إلى نسج الخيال والأساطير.
وإن الناظر في كتب التاريخ في تلك العصور ليأخذه العجب حتى يرى معظمها ينصب على "وفيات الأعيان" و"تاريخ الملوك" أما الشعوب، أما عامة الناس فليس لهم فيها نصيب، وليس فيهم من يهم المؤرخ، أو يعني الكاتب، وإن وجد من المؤرخين في تلك الحقبة من يتعرض لواحد من المواطنين، فإنما يكون ذلك تلميحًا بقدر ما يحتاج إليه الموضوع الذي يتحدث فيه.
ولم يتورع بعض المؤرخين عن الجهر بذلك.
وها هوذا أبو المحاسن يقول في معرض حديثه عن أحد الأفراد (١):
"وقد أضربنا عن شرح ما حدث له؛ لأنه لم يكن من أعيان الناس لتشكر أفعاله أو تذم".
وأغلب الظن أن ابن مالك حرم في طفولته من كل عطف
_________
(١) بدائع الزهور ٢/ ٢٤٤.
1 / 12
وحنان بل ربما كانت طفولته طفولة معذبة، منعه الحياء من الخوض فيها باللسان، أو بالقلم، فاكتفى بالصمت الذي هو أبلغ من كل بيان.
ورب ضارة نافعة، فالراجح أن هذا الحرمان كان السبب في التجاء الشيخ إلى الدرس، والتحصيل عله يجد في ذلك عوضًا عن بعض ما فاته.
ومهما يك من شيء فلا تكاد توجد وثيقة واحدة، أو مصدر مؤكد أو خبر عمن يوثق به يكشف شيئًا للباحث في طفولة هذا الرجل، أو علاقته بأسرته، أو صلاته بأخواته وإخواته -إن كان له إخوة أو أخوات- فجهل الناس كل ما يتصل بهؤلاء.
وليس من الحق الزعم بأن المصنف أمسك عن الحديث عن سيرة أحداده، وآبائه وإخوته وإخوانه، وأصداقاء طفولته وصباه، وعيشته في موطنه؛ لأنه ضرب من العبث واللغو لا يتفق مع ما شغل به من تحصيل للعلم، وخدمة لأهله.
فالرابطة الإنسانية رابطة عميقة الجذور، تجري في الدماء، وتتغلغل في النفوس، وهو أقرب الروابط إلى الإنسان، وأحبها إليه، وأعلقها بفؤاده.
وإذا كان ذلك كذلك فلا يمنع الإنسان عن الخوض فيها إلا أمر قاهر، ولن يكون العلم؛ لأن العلم أسمى من ذلك. فهو الذي يهذب النفوس، ويرهف العواطف فأولى به أن يقوي في الإنسان الشعور بالإنسانية، لا أن يجرده منها.
والذي يرجحه الباحث أن يكون ابن مالك نشأ وحيدًا لوالديه، وأن يكون افتقد أمه صغيرًا، وربما كان شأن أبيه شأن غيره من العرب
1 / 13
الأندلسيين في ذلك الوقت جنديًا في الجيش، الذي أعده الأمير أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف في مدينة جيان -مسقط رأس المصنف- لقتال الإدفنس سنة (٦٠٩) هـ في موقعة العقاب.
فقد روى صاحب المعجب أن "أمير المؤمنين خرج من أشبيلية سنة (٦٠٩) هـ، فسار حتى نزل "جيان" فأقام بها ينظر في أمره، ويعبئ عساكره، وخرج أمير المؤمنين من مدينة "جيان"، فالتقى هو والأدفنس بموضع يعرف بالعقاب بالقرب من حصن يدعى حصن سالم.
فعبأ الأدفنس جيوشه، ورتب أصحابه، ودهم المسلمين وهم على غير أهبة فانهزموا، وقتل خلق كثير.
وثبت أبو عبد الله -يقصد الأمير- في ذلك اليوم ثباتًا لم ير لملك قبله، ولولا ثباته لاستؤصلت تلك الجموع كلها قتلًا وأسرًا.
وكانت هذه الهزيمة الكبرى على المسلمين يوم الاثنين منتصف صفر سنة (٦٠٩) هـ (١).
من هنا يعلم أن الأمر كان شديدًا على أهل الأندلس عامة، وعلى أهل جيان خاصة في بدء حياة الشيخ.
ولا يستبعد أن يكون والده -وهو ذلك الرجل العربي المسلم، الذي يتمتع بما يتصف به العرب والمسلمون من شجاعة، وشهامة انخرط في سلك الجندية. جنديًا مرتزقًا أو متطوعًا، ثم ذهب ولم يعد، فقد كانت موقعة العقاب -كما بينا من المواقع الفاصلة في التاريخ، وكانت الهزيمة فيها منكرة.
_________
(١) المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار أهل المغرب ص ٢١٥، وما بعدها.
1 / 14
ولو صح هذا يكون المصنف فقد والده في فجر حياته، واستقبل الحياة وحيدًا في بلاد الأندلس، مما دعاه إلى هجرها إلى المشرق بعد أن أودع ثراها أعز ما يملك الإنسان وهو الذكرى.
مولده:
بالرجوع إلى أقوال الذين تحدثوا عن مولد المصنف -وهي أقوال كثيرة- يتضح أن ابن مالك توفي في سن عادية تتراوح بين الرابعة والستين، والخامسة والسبعين.
وبالموازنة بين هذه الأقوال يظهر أن أقربها إلى الواقع ذلك القول الذي ينادي بأنه ولد سنة (٥٩٨) هـ.
ومن هؤلاء القائلين بذلك: المقري فقد حكى عن بعضهم أن المصنف ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة (١).
وكأنما أراد أن يقوي هذا الرأي -وهو ثالث قول يورده في كتابه- عندما قال (٢):
"وعليه عول شيخ شيوخنا ابن غازي" (٣) في قوله:
قد خبع ابن مالك في خبعا ... وهو ابن عه كذا وعي من قد وعى
والبيت قصد به بيان تاريخ وفاة ابن مالك، وعمره.
فتاريخ وفاته يدل عليه قوله "خبعا" إذ الخاء: ستمائة، والدين سبعون والباء: ثنتان.
_________
(١) المقرى: نفح الطيب ٧/ ٢٨٠.
(٢) نفس المرجع ٧/ ٢٨١.
(٣) هو أبو عبد الله المكناسي، الفارسي المتوفى سنة ٩١٩ هـ.
1 / 15
أما عمره فيؤخذ من قوله: "عه"؛ لأن العين: سبعون، والهاء: خمسة.
وأيد هذا الرأي: الخضري في حاشيته على ابن عقيل (١)، والأشموني شارح الألفية (٢).
والذي يرجع كفه هذا القول احتمال هجر المصنف أرض الأندلس عقب موقعه العقاب مباشرة، أو بعدها بزمن يسير.
وموقعه العقاب كانت سنة (٦٠٩) هـ، ويتحتم أن يكون المصنف في ذلك الوقت في سن تسمح له بتحمل عناء السفر الطويل، ومشقات الاغتراب وحيدًا.
ولن تكون هذه السن أقل من اثنتي عشرة سنة، وهي سن تسمح لمثله في العبقرية، والذكاء أن يكون ملمًا بدروس في النحو واللغة، والشريعة، وغيرها في بيئة تموج بالعلم والعلماء.
نسبه:
تضاربت الأقوال والآراء في سلسلة نسب المصنف.
وإذا صح القول بأن بعضها يحتمل أن يكون مختصرًا من البعض الآخر يصبح في الإمكان حصر الخلاف في روايتين:
أولاهما: رواية الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن طولون الصالحي، وهي التي تقول إنه: محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن مالك.
وهذا صورة ما قاله ابن طولون في تعريفه بالشيخ (٣).
_________
(١) ص ٦.
(٢) جـ ١ ص ٧، ٨.
(٣) ابن طولون الصالحي: هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك ص ١.
1 / 16
"هو محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله -ثلاثًا- ابن مالك".
ولم يسبق ابن طولون إلى التثليث في اسم والد ابن مالك "عبد الله"، ولا تابعه في ذلك أحد من العلماء أو المؤرخين.
وقد خشي ابن طولون أن يتوهم قارئ أن تكرار "عبد الله" للمرة الثالثة من قبيل الخطأ أو النسيان، فأبعد ذلك الوهم بقوله: "ثلاثًا" ليعلم أن تكرار "عبد الله مقصود؛ لأنه اسم أبيه، واسم جده، واسم جد أبيه.
الثانية: إن أسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن مالك. وهي التي اعتمدتها دائرة المعارف الإسلامية (١)، وذكرها بروكلمان (٢)، وسار عليها الدماميني (٣).
كنيته ولقبه:
أجمعت مصادر سيرة ابن مالك على أنه كان يكنى بأبي عبد الله، كما أجمعت على أن لقبه "جمال الدين".
وقد يتصرف في هذا اللقب كقول القسطلاني (٤) "كان الجمال بن مالك".
وهنا لقب آخر له ذكره ابن طولون، وانفرد به وهو "جلا الأعلى"، فقد قال فيحديثه عنه (٥):
_________
(١) المجلد الأول ص ٢٧٢.
(٢) جـ ١ ص ٢٩٨.
(٣) تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، وتكميل المقاصد ص ٥.
(٤) القسطلاني على البخاري ١/ ١٤١.
(٥) هداية السالك إلى ترجمة ابن مالك ص ١.
1 / 17
"الشيخ جمال الدين، أبو عبد الله المشهور بـ "جلا الأعلى".
وهذا اللقب لم يذكره أحد ممن ترجموا ابن مالك -وهم كثير- ومع ذلك يزعم ابن طولون أنه مشهور بهذا اللقب، الذي لم يرد في غير كتابه.
موطن ولادته:
ليس غريبًا أن يختلف المؤرخون في تاريخ مولد المصنف، وإنما الغريب أن يختلفوا في موطن ولادته، وربما كان مرجع هذا الاختلاف إلى ما يلي:
أولًا: هجرة الشيخ وهو صغير، وتركه موطنه الأصلي في سن مبكرة.
ثانيًا: ذلك الغموض التام الذي أسدل ستارًا كثيفًا حول حياته في الأندلس، فأخفاها عن العين. وأدخلها في مجاهل الظن والتخمين.
ثالثًا: اقتران نبوغ الشيخ بدمشق مما غر بعض العلماء، فتوهموا أنه مولد فيها (١). وأكثر الذين ترجموا المصنف رأوا أنه ولد في "جيان الحرير"، وهي بلدة من مشاهير بلاد الأندلس، وأكثرهم زرعًا، وأصرمها أبطالًا، وأمنعها منعة (٢)، وضواحيها جميلة (٣).
ويضبطها ياقوت (٤) بفتح الجيم، وتشديد الياء مع النون في
_________
(١) منهم سركيس في معجم المطبوعات ٢٣٤.
(٢) الإصطخري: المسالك والممالك ٣٥.
(٣) الثعالبي: يتيمة الدهر، البستاني: دائرة المعارف مجلد ٦ ص ٦٣٢.
(٤) ياقوت: معجم البلدان ص ١٨٥.
1 / 18
آخرها "جيان"، ويوافقه على هذا صاحب القاموس (١)، والمقري (٢).
والراجح أن المصنف ولد في "جيان"، ويؤكد هذا ما كتبه بقلمه، إذ أنه كتب إجازتين علميتين لتلميذه ابن جعوان (٣) في نهاية كتابه "إكمال الإعلام في تثليث الكلام".
وجاء في نهاية الإجازة الأولى: "وكتبه محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني".
وجاء في نهاية الثانية: "وكتبه الفقير إلى عفو الله، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني".
وتاريخ الإجازة الأولى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة من سنة أربع وستين وستمائة.
وتاريخ الثانية: يوم الخميس التاسع والعشرين من ربيع الأول من سنة سبع وستين وستمائة.
وإذا كان ابن مالك ولد في "جيان" وعاش في "دمشق"، فالثابت تاريخيًا أنه لم ينتقل من الأولى إلى الثانية دفعة واحدة، وإنما عرج في طريقه على القاهرة فقضى فيها وقتًا، قال المقري يتحدث عنه (٤):
"وقدم ﵀ القاهرة، ثم رحل إلى دمشق، وبهامات".
وقال الشيخ الملوي في حاشيته على المكودي، شارح الألفية متحدثًا عنه (٥):
_________
(١) الفيروز بادي: القاموس المحيط ٤/ ٢١٢.
(٢) المقري: نفح الطيب ٧/ ٢٨٢.
(٣) الشيخ شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي بكر بن جعوان.
(٤) المقري: نفخ الطيب ٧/ ٢٧٤.
(٥) حاشية الملوي على شرح المكودي لألفية بن مالك ١/ ٥.
1 / 19
"وقد تولى القضاء بالقاهرة، وتشفع بها، ثم رحل إلى الشام".
وليس من شك في قدوم ابن مالك إلى القاهرة، وإنما الشك كل الشك في توليه القضاء بها.
ذلك أن منصب القضاء من المناصب الخطيرة في الدول الإسلامية، والمصنف حين مروره بمصر كان صغير السن، ولم يكن حصل من العلم القدر الذي يؤهله -وهو غريب من الديار- لهذا المننصب الخطير.
هذا إلى أنه كان بمصر في ذلك الوقت من العلماء من يملأ منصب القضاء، إن أصبح الناس يومًا، ورأوا منصب القاضي شاغرًا.
منهم على سبيل المثال لا الحصر: عبد العظيم المنذري، وشهاب الدين القرافي، وابن الحاجب، وابن معط.
يضاف إلى هذا أن صاحب كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة" تعرض لمن تولوا القضاء في مصر (١)، ولم يذكر فيهم ابن مالك.
ومهما يك من شيء فإن ابن مالك مر في طريقه إلى الشام على "مصر"، وأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم ارتحل إلى الأراضي المقدسة رغبة في الحج، ثم سافر إلى "دمشق"، وحضر فيها دروسًا على بعض علمائها، ثم انتقل إلى "حلب"، فأقام فيها أزمانًا يشتغل بالتدريس، ثم رحل إلى "حماة"، ومنها عاد غلى "دمشق"، فتصدر للتدريس فيها بجانب مهمة القراءة على التربة العادلية، وظل كذلك
_________
(١) السيوطي: حسن المحاضرة ٢/ ٨٥ - ١٠٩.
1 / 20
صابرًا محتسبًا حتى وافاه الأجل، فذهب وترك الناس من بعده يجهلون كل شيء عنه ويتساءلون:
متى ولد؟ أين ذهبت أسرته؟ متى هجر جيان؟ لم كان ذلك؟ كيف قضى عهد طفولته وصباه؟ متى قدم مصر؟ على من حضر فيها؟ لماذا غادرها، وهي قلب العروبة النابض منذ القدم؟ لماذا خص دمشق بالهجرة؟ لماذا فارقها؟ متى كان ذلك؟ لماذا ترك حلب بعد أن اختارها بديلًا لدمشق؟ كم أقام في حماة؟ ما الداعي لانتقاله إليها؟ ماذا قدر لأمره في تلك البلاد؟ ثم عاد إلى دمشق؟
لقد مضى في رحمة الله، وترك الناس من بعده يجهلون ذلك وغيره، ويقربون ذلك تقريبًا.
ثقافة ابن مالك:
نشأ ﵀ ولوعًا بالعلم، محبًا للثقافة، مقبلًا على مؤلفات القدماء يلتهمها التهامًا، ويهضم ما فيها، متريثًا أمام نصوصها شأنه في ذلك شأن الطالب المعتمد على نفسه الذي يقرأ بفكر واع.
وقد جمع له الله -تعالى- الأسباب التي تؤهله، لأن يكون رجلًا عظيمًا "واحد عصره" (١) كما يقولون.
فهيأ له البيئة التي تموج بالعلم. وتدفع إليه دفعًا، ومنحه العقل المفكر، والذهن الألمعي، والحافظة الذاكرة، والرغبة الدافعة،
_________
(١) نفح الطيب ٧/ ٢٥٧، مرآة الجنان ٤/ ١٧٤، دائرة معارف القرن العشرين مجلد ٩/ ٤٣١.
1 / 21
حتى يقال: "إنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدها بعضهم بثمانية، لقنها إياه ابنه" (١)، وهو على فراش الموت.
ثم إن رحلته من المغرب إلى المشرق، وتنقله بين البلدان، ومن مكان إلى مكان، أتاح له الاتصال بكبار العلماء، فأفاد منهم ما استطاع، وما امتد وقته.
وما لم تمتد إليه يد الفناء من آثار ابن مالك ينبئ عن اتصال بنواح كثيرة من العلوم كاللغة والنحو، والصرف، والعروض، والحديث، والقراءات. فتنوعت دراساته حتى كادت تشمل أكثر علوم العربية في عصره.
وامتزاج الثقافات عنده ظاهر جلي، وقد ساعدته درايته باللغة، وإحاطته بالنحو والصرف، وإلمامه بالأدب على حل المشكلات التي تنشأ من الاختلاف في فهم النصوص.
وكان المشرف اليونيني يقرأ الحديث بين يدي شيخه ابن مالك، فإذا مر بهم لفظ يوهم ظاهره مخالفة قوانين العربية. سأله الشيخ: "هل الرواية فيه كذلك"؟
فإن أجاب بأنه منها شرع ابن مالك في توجيه الرواية، لتسير في ظلال القواعد العربية.
ومن ثم وضع كتابه المسمى "شواهد التوضيح، والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" (٢).
وقد حفظ التاريخ ما كتبه ابن مالك على الورقة الأولى من
_________
(١) نفح الطيب ٧/ ٢٧٩، ٢٨٣ فوات الوفيات ٢/ ٢٣٧، دائرة معارف البستاني مجلد ١/ ٦٧٥.
(٢) القسطلاني على البخاري ١/ ١٤١.
1 / 22
الجزء الأخير من نسخة الشرف اليونيتي من صحيح البخاري، وهذا صورته:
"سمعت ما تضمنه هذا المجلد من صحيح البخاري ﵁ بقراءة سيدنا الشيخ الإمام العالم، الحافظ المتفنن شرف الدين أبي الحسين علي بن محمد بن أحمد اليونيني ﵁ وعن سلفه- وكان السماع بحضرة جماعة من الفضلاء، ناظرين في نسخ معتمد عليها، فكلما مر بهم لفظ ذو إشكال بينت فيه وجه الصواب، وضبطته على ما اقتضاه علمي بالعربية.
وما افتقر إلى بسط عبارة، وإقامة دلالة أخرت أمره إلى جزء أستوفي فيه الكلام مما يحتاج إليه من نظير وشاهد، ليكون الانتفاع به عامًا، والبيان تامًا -إن شاء الله تعالى- وكتبه محمد بن عبد الله بن مالك -حامدًا الله تعالى".
كما كتب الحافظ اليونيني على ظهر آخر ورقة من المجلد المذكور ما صورته:
"بلغت مقابلة وتصحيحًا، وإسماعًا بين يدي شيخنا شيخ الإسلام، حجة العرب، مالك أزمة الأدب العلامة أبي عبد الله بن مالك، الطائي، الجياني -أمد الله في عمره- في المجلس الحادي والسبعين، وهو يراعي قراءتي، ويلاحظ نطقي، فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته، وصححت عليه.
وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان، أو ثلاثة أعملت ذلك على ما أمر ورجح.
1 / 23
وكتبه علي بن محمد الهاشمي اليونيني" (١).
وبهذا يثبت ما قاله المؤرخون "كان ابن مالك آية في الحديث" (٢)، فهو سمعه وأرهف السمع ليضبط مشكله، ويخرج ما ظاهره البعد عن قياس العربية ثم صنف فيه، وبذا يكون حصل منه ما لم يحصله كثير من أمثاله.
ومن هنا يعلم السر في كثرة استشهاد الشيخ بما ورد في الحديث الشريف بصورة أفزعت كثيرا من العلماء على رأسهم أبو حيان، الذي أكثر من الاعتراض على المصنف كقوله في "التذييل والتكميل شرح التسهيل" (٣).
"قد نهج هذا المصنف في تصانيفه كثيرا بالاستدلال بما وقع في إثبات القواعد الكلية في لسان العرب.
وما رأيت أحدًا من المتقدمين، ولا المتأخرين سلك هذه الطريقة غير هذا الرجل".
وكان المصنف ﵀ أكثر ما يستشهد بالقرآن الكريم، وله في استحضار الآيات للاستدلال بها قوة وقدرة، فقد كان إمامًا في القراءات، وعالمًا بها، نظم فيها قصيدته الرائعة التي يعتبرها العلماء في قدر "الشاطبية" (٤)، وإن كانت في نظر صاحبها أعظم وأجل، وأشمل وها هوذا يقول في مقدمتها (٥):
_________
(١) ابن مالك: شواهد التوضيح والتصحيح من ٢٢٠، ٢٢١.
(٢) دائرة معارف البستاني المجلد الأول ص ٦٧٤، فوات الوفيات ٢/ ٢٢٧، نفح الطيب ٧/ ٢٦٣ دائرة معارف القرن العشرين ٩/ ٤٣١.
(٣) جـ ٧ ص ٩٠.
(٤) نفح الطيب ٧/ ٢٦٩، ٢٦٠، الوافي بالوفيات للصلاح الصفدي ٣/ ٣٥٩.
(٥) القصيدة المالكية لابن مالك ص ١.
1 / 24