Sharh Fath al-Majid par al-Ghunayman
شرح فتح المجيد للغنيمان
Genres
الهدي في ابتداء الكلام
قال الشارح رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم).
ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملًا بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) أخرجه ابن حبان من طريقين، قال ابن الصلاح: والحديث حسن.
ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع)، ولـ أحمد: (كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع)، وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعًا: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة؛ لأنها من أبلغ الثناء والذكر، وللحديث المتقدم، وكان النبي ﵌ يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لـ هرقل عظيم الروم، ووقع لي نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي ﷺ وآله.
وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي: بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءًا به].
إن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فإذا امتثلوا أمره واتبعوا شرعه فإن الله يكرمهم ويثيبهم، ويعطيهم من العطاء الذي لا يتوقعونه، وفوق ما يتصورون، أما إذا عصوا وتمردوا على الله جل وعلا، فلن يفلتوا من الله ولن يعجزوه، فهم في قبضته، وكل شيء ملك له، وهو رب كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل أحد.
فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله جل وعلا، وقد أرسل الله جل وعلا الرسل تبين أمره وشرعه للناس، ومن ذلك ما ذكر هنا من حديث رسول الله ﷺ: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، ومعنى (أقطع): ناقص غير تام؛ لأنه لم يمتثل فيه أمر الله جل وعلا، فيكون منزوع البركة، ممحوقًا فيما يراد به، فالله أمر العباد أن يستعينوا باسمه تعبدًا له في كل شيء، والأمر ذي البال: الأمر الذي يكون له قيمة: (كل أمر ذي بال) يعني: له وقع وقيمة عند الإنسان، ومن هذا القبيل أمر الأكل وأمر النوم ودخول المنزل وغير ذلك، وكلها شرع لنا أن نذكر الله جل وعلا في ابتداء ذلك، وهذا وإن لم يكن واجبًا متعينًا على الإنسان فهو مستحب ومندوب إليه، وفيه الفضل والخير، وإذا لم يبارك للإنسان في سعيه وعمله وأكله وشربه، لم يزل في خصاب -نسأل الله العافية-، ومن ذلك ما كان الرسول ﷺ يأمر به ويفعله، تعليمًا لأمته، وهداية لهم إلى الحق، فكان في فعله الذي هو أسوة للأمة يذكر اسم الله عند كل أمر مستحق مرغوب فيه، وإذا كان الأمر غير مرغوب فيه تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا معناه داخل في قول الله جل وعلا: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:١٨٠]، فهو يدخل في هذا المعنى؛ لأن الإنسان إذا قال عند أكله: (باسم الله)، فقد دعا ربه جل وعلا بهذا الاسم الكريم، وطلب نزول البركة وحصول المقصود والمأمول له ببركة هذا الاسم، فهو عبادة يتعبد الله جل وعلا بها، وكذلك إذا أراد دخول المنزل أو دخول المسجد أو النوم أو غير ذلك، وكذلك إذا أراد الذبح مع أن التسمية عليها واجب، فلو تركها الذابح عمدًا لصارت ذبيحته ميتة، فهي محرمة لا يجوز الأكل منها؛ فإن الله جل وعلا يقول: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام:١٢١]، وعلى هذا يدخل في ذلك من باب أولى كتابة كتب العلم والتأليف، فهو يقول: أفعل ذلك مستعينًا باسم الله وبالله، ذاكرًا اسمه الذي به تحصل البركة، وهذا يصدق عليه كل ذكر لله جل وعلا، كقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو (الحمد لله) وما أشبه ذلك، وإذا جمع بينهما فهو أفضل وأتم، وإذا اقتصر على أحدهما كفى، وقد اقتصر البخاري رحمه الله تعالى كتابه الصحيح على البسملة فقط، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الوحي، باب بدء الوحي، وهذا اقتداء برسول الله ﷺ، حيث كان يبدأ كتبه التي يرسلها إلى الملوك وغيرهم بالبسملة فقط، كما ذكر هنا أن هذا في كتابه إلى هرقل، وهرقل هو رئيس دولة الروم في ذلك الوقت، فكل رئيس للروم يسمى هرقل من الكفار، وكل رئيس للفرس من الكفار يسمى قيصر، وكل ملك للحبشة من الكفار يسمى النجاشي، وكل ملك للقبط من الكفار يسمى فرعون، فالمقصود أنه كتب ﷺ: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:٦٤]، فهذا نص كتاب رسول الله ﷺ الذي أرسله إليه، ولهذا يقول العلماء: ينبغي أن يقتدى برسول الله فيبدأ المرسل باسمه كما بدأ رسول الله ﷺ باسمه العلم؛ وذلك لأنه في الدعوة إلى الله وكونه رسول الله، ولهذا وجب على المتشهد الذي يشهد أن لا إله إلا الله، أن يذكر اسمه العلم، "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" وكذلك في الصلاة عندما يصلي عليه.
فالمقصود أنه اقتصر على البسملة، وهنا المعلق اقتدى بذلك فاقتصر على البسملة، وإذا جاء في بعض النسخ ذكر الحمد، فيكون الابتداء الحقيقي بـ (باسم الله)؛ لأنه يبدأ بها قبل كل شيء، وأما الحمد فهو إضافي، أي: للإضافة إلى الكلام الذي يأتي بعده، وإذا جمع بينهما فهو أولى وأفضل.
1 / 4