يظل بموماةٍ ويمسي بغيرها ... جحيشًا ويعروري ظهور المهالك
الموماة: المفازة، ووزنه فعللةٌ، وجمعها موام. وإنما قال يمسي بغيرها ولم يقل يبيت، لأن قصده إلى أن يصفه بأنه يقطع في بياض نهاره مفازةً، ولو قال يبيت لم يتبين منه ذلك. فيقول: بقطع المفاوز لاكتساب المكارم، فتراه يكون نهاره بمفازةٍ فإذا أتى عليه المساء تجده في أخرى فريدًا وحيدًا - ويقال: حل فلانٌ جحيشًا، أي منفردًا - ويركب ظهور المهالك والمعاطب غير مستصحبٍ رفيقًا، ولا مستجمعٍ سلاحًا. وهذا كما يقال: أعروريت الفرس، إذا ركبته عريًا. وكانت طباعهم أن من كد نفسه وابتذلها، وتوحش في المهالك ولزمها، وتعرض للمعاطب ولم يتوقها، كان ذلك أدعى إلى ما ينوه به ويميزه عن رجال جنسه. وانتصب جحيشًا على الحال، وقولها بغيرها لا يجوز أن يكون مستقرًا فاعلمه.
ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرقٍ من شدة المتدارك
قوله من حيث ينتحي يجوز أن يكون للممدوح، ويجوز أن يكون لوفد الريح، لأن المراد أنه يسبقه وإن أعطاه مهلةً. ومعنى ينتحي: يقصد. والشاعر إنما يصف خفته وتشمره وجده وتيقظه، فيقول: من حيث اعتمد في السير جاء سابقًا للريح بعدوٍ له واسعٍ من عدوه. المتدارك: المتتابع. وجعل العدو منخرقًا لاتساعه. والمتدارك: المتلاحق. ويقال: أدرك فلانٌ عدةً من أصحابه، أي لحقهم وشاهد أيامهم. وأخذ أبو تمامٍ هذا فزاد عليه وإن كان في لفظة ركاكة، فقال:
فمر ولو يجاري الريح خيلت ... لديه الريح ترسف في القيود
إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كالئٌ من قلب شيحان فاتك
الكرى: النوم الخفيف، وكأنه مأخوذٌ من كريت، إذا عدوت عدوًا شديدًا. فقوله: خاط عينيه يريد مر فيه، وليس يريد التمكن منه حتى يجعل أجفانه كالمخيطة. ومنه قوله:
حتى تخيط بالبياض قروني
1 / 72