والمثل السائر: عسى الغوير أبؤسا. ولا أدري لم اختار هذه الرواية؟ ألأن فيها ما هو مرفوضٌ في الاستعمال شاذٌ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل؟ وكلاهما لا يوجب الاختيار. على أني نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيرًا من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له. ويروى: ولم آل آيبًا والمعنى لم أدع جهدي آيبًا وفي الإياب. والأول أحسن. وكم مثلها، أي كم مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها، وهي مغلوبة تضغو وأنا الغالب. وصفير الطائر معروف، ومنه ما في الدار صافر، أي ذو صفير.
وقال أبو كبير الهذلي:
ولقد سريت على الظلام بمغشمٍ ... جلدٍ من الفتيان غير مثقل
يقال سرى يسري سرىً، وأسرى إسراءً بمعنى، وهو سير الليل. وفي القرآن: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ". وعلى الظلام، أي في الظلام موضعه نصبٌ على الظرف. ويقال فعلته ظلامًا وليلًا في مقابلة فعلته نهارًا. ويقولون: عم ظلامًا وعم صباحًا، وهذا كما جعلوا في مقابلة اليوم الليلة. ويجوز أن يكون على الظلام في موضع الحال، أي وأنا على الظلام، أي راكبٌ له. يقول: ولقد سريت ليلًا برجلٍ غشومٍ قوي من الرجال غير منسوبٍ إلى الثقل والكسل في الأمور. فإن قال قائلٌ: إذا كان السرى لا يكون إلا ليلًا فلم قال على الظلام، ولم جاء في القرآن: " أسرى بعبده ليلًا " و: " فأسر بعبادي ليلًا "؟ قلت: المراد توسط الليل والدخول في معظمه، تقول: جاء فلانٌ البارحة بليلٍ، أي في معظم ظلمته وتمكن ذلك الوقت من ليلته. والجلد: الصلب القوي؛ ومنه الجلد من الأرض. وإنما قال مغشمٍ لأنه جعله كالآلة في الغشم، ومفعل بناء لهذا المعنى، ويريد به تأبط شرًا. وكان لأبي كبيرٍ معه قصةٌ معروفة، والأبيات مقصورةٌ عليها، وناطقةٌ بها أو بأكثرها. والغشم والاعتساف يتقاربان. ويقال غشم الوالي
1 / 64