Sharh Bab Tawhid Al-Uloohiyah min Fatawa Ibn Taymiyyah
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية
Genres
معنى قوله تعالى: (ربيون)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: بعون الله وتوفيقه نستأنف دروسنا في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ﵀، قال رحمه الله تعالى: [ولما سلط الله العدو على الصحابة يوم أحد قال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾ [آل عمران:١٦٥] الآية، وقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آل عمران:١٤٦] الآيات، والأكثرون يقرءون: (قاتل)، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة، قال ابن مسعود وابن عباس ﵃ في رواية عنه والفراء: ألوف كثيرة.
وقال ابن عباس في أخرى ومجاهد وقتادة: جماعات كثيرة، وقرئ بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة فالربيون الذين قاتلوا معه الذين ما وهنوا وما ضعفوا، وأما على قراءة أبي عمرو وغيره ففيها وجهان: أحدهما: يوافق الأول، أي: الربيون يُقتلون، (فما وهنوا)، أي: ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم، أي: ما ضعفوا لذلك ولا دخلهم خور ولا ذلوا لعدوهم، بل قاموا بأمر الله في القتال حتى أدالهم الله عليهم وصارت كلمة الله هي العليا].
في هذه السطور لا يزال الشيخ يقرر مسألة التوكل على الله ﷿، وهي من أعظم مباني العبودية، فهو ﵀ من أول الكتاب يقرر مسألة العبودية والإلهية لله ﷿، ولا يزال يقرر مسألة التوكل حتى في هذا المقام، وهو هنا يقرر أن الذين ما ضعفوا ولا استكانوا، ونصرهم الله ﷿ أو وعدهم بالنصر لقوة توكلهم، هم الخلص الذين كانوا مع الأنبياء؛ لأنهم حققوا التوكل الذي هو من أعظم مباني العبودية، مع أن الشيخ بعد قليل سيقرر في هذه المسألة معنى الربّيون وأقوال الناس فيها، وهي استطراد منه ﵀ لاستكمال الموضوع.
قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن النبي ﷺ قُتل معه ربيون كثير، فما وهن من بقي منهم لقتل النبي ﷺ، وهذا يناسب صراخ الشيطان أن محمدًا ﷺ قد قُتل، لكن هذا لا يناسب لفظ الآية، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة ما وهنوا، ولو أريد أن النبي ﷺ قُتل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل تقليلهم هو المناسب لها، فإذا كُثّروا لم يكن في مدحهم بذلك عبرة.
وأيضًا لم يكن فيه حجة على الصحابة، فإنهم يوم أحد قليلون والعدو أضعافهم، فيقولون: ولم يهنوا؛ لأنهم ألوف ونحن قليلون.
وأيضًا فقوله: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ﴾ [آل عمران:١٤٦] يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرف أن أنبياء كثيرين قُتلوا في الجهاد.
وأيضًا فيقتضي أن المقتولين مع كل واحد منهم ربيون كثير، وهذا لم يوجد، فإن من قبل موسى من الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتلوا في الغزو، بل ولا يُعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا كثيرًا ويكون جيشه كثيرًا؟].
هذه فائدة نادرة من شيخ الإسلام، والتي كثيرًا ما يتكلم عنها عن علم واستقراء، فقوله: (ولا يُعرف نبي قُتل في جهاد) مبني على استقرائه ﵀، بمعنى: أنه لم يرد في النصوص الشرعية التي ذكرت قصص الأنبياء أن نبيًا قد قتل في جهاد، فهذه من الدرر التي كثيرًا ما يشير إليها شيخ الإسلام في كتاباته؛ لأن الله قد أعطاه علمًا وإحاطة بكثير من المراجع، فكان إذا قرأ الكتاب استوعبه، ومع كثرة قراءته كانت كثيرًا من استنتاجاته صائبة؛ لأنها مبنية على الاستقراء، ولذلك نجده في حواره مع الآخرين خاصة من أهل الفرق والمذاهب كان أعلم منهم بمذاهبهم، وقد اعترفوا له بذلك، وقد سُطّرت اعترافات كثير منهم ولا تزال موجودة في كتبهم، فاعترفوا له بأنه أعلم منهم بمذاهبهم؛ لأنه كان ﵀ يقرأ كثيرًا ويستوعب ما يقرأ.
ولذلك فمثل هذه الفائدة وغيرها كثير، ينبغي أن يحرص عليها طلاب العلم، وأتمنى لو أن أحد طلاب العلم انبرى لجمع مثل هذه الفوائد النادرة في مصنف واحد ليستفيد منها طلاب العلم، سواء في مفردات المسائل أو فيما يتعلق بالأصول والقواعد، أو ما يتعلق بالمناهج، أو ما يتعلق بالمواقف وغير ذلك مما هو لـ شيخ الإسلام من استنتاجات مبنية على استقرائه، فقد كان ﵀ أحيانًا يجزم بناء على استقرائه، وأحيانًا يغلّب الظن، لكن غالبًا كان يجزم بناء على ما توصل إليه من خلال اطلاعه الواسع.
قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه أنكر على من ينقلب، سواء كان النبي مقتولًا أو ميتًا، فلم يذمهم إذ مات أو قُتل على الخوف، بل على الانقلاب على الأعقاب].
لأن هذا ينافي التوكل، وهذا استطراد منه ﵀ -كما قلت- يستوفي فيه مسألة عارضة.
قال ﵀: [ولهذا تلاها الصدّيق ﵁ بعد موته ﷺ، فكأن لم يسمعوها قبل ذلك.
6 / 2