إن العلة التي كان «شرل دي لينس» مصابا بها كانت في ابتداء إقامته في فينة قد تمكنت منه أيما تمكن حتى غادرته هزيلا نهيكا، بل اتصلت به الحال إلى درجة لم يكن ليقبل معها تناول الطعام إلا من يد الراهبة القائمة بخدمته في مرضه، وكانت نوب السويداء تتعاقب عليه بكثرة فتثور فيه ثائرة الغضب، وإذ ذاك عندما كان يعجز الرجال الأقوياء عن إخماد ثورة حنقه كانت تقبل عليه تلك الراهبة الفاضلة فتتمكن بكلمة واحدة لطيفة من تسكين جأشه المضطرب وتخميد نبضه النابض، وعليه فإنها كانت تقضي شطرا كبيرا من الليل لدى فراشه، بل إنها لم تكن لتلتمس لنفسها الراحة إلا زهاء ساعتين أو ثلاث ساعات، بل كثيرا ما تستيقظ أثناء تلك المدة على صراخ واستدعاء البارون الذي لم يكن ليرضى بأن تفارقه دقيقة.
ولما كان الهواء نقيا والجو صافيا كان يذهب البارون «دي لينس» المنكود الحظ إلى التماس النزهة في حديقة «شنبرون» الجميلة التي كانت مكارم الإمبراطور سمحت لأهالي فينة أن يروحوا النفس فيها، وكان يذهب إلى تلك الحديقة راكبا عربة تحف به كل من «سوسنة» والراهبة اللتين كانتا متناظرتين في إخلاص الخدمة له والعناية به كأنهما له ملاكان حارسان، وكان وجه البارون الممتقع الكاسف يوجب الخيفة من أن يصبح داؤه عضالا عقاما لا دواء له، وكان يتبادر للذهن لدى مشاهدة عناية الصبية «سوسنة» والراهبة «أغنس» به أن نفسيهما الكريمتين متحدتان بعاطفة واحدة من النزاهة والإخلاص.
وقد حدث أن البارون ورفيقيه الراهبة و«سوسنة» ذهبوا مساء يوما ما في التماس النزهة المحكي عنها، فبقيت السيدة «ب» وحدها في البيت فتمكنت بانفراد عن «سوسنة» من إطلاق العنان لعاطفة أحزانها فجلست في غرفة البارون وشرعت تبكي سرا.
وهناك مرت بخاطرها ذكر حوادث السنتين المنقضيتين، فذكرت وصول البارون مصيفها في لبنان ثم تبادر لذهنها كيف أنها شهدت ذلك الانعطاف القوي الذي اجتذب قلب البارون إلى نفس ابنتها «وردة» بقوة غالبة، وكيف أنها هي ذاتها حسبت نفسها سعيدة بتعزيز الانعطاف في فؤاد ذلك الشاب الشريف اللامع كالشهاب.
ثم أخذت تهذ في تلك الأماني الحلوة العذبة الشهية التي كانت هي وزوجها يعقدان الآمال على تحقيقها في مستقبل الحين، تلك الآمال التي كانا يعلقان عليها سعادة بنتهما العزيزة باتحادها برباط الزيجة مع أكرم رجل، تلك الآمال التي كانت تريهما أنهما لدى بلوغهما في الشيخوخة سيلاقيان «شرل دي لينس» سندا قويا لضعفهما ودعيمة معززة لوهنهما ...
ولدى مرور هذه التذكرات ببال زوجة القنصل كانت تبتسم ابتساما يمر بين دموعها كالسهم اللامع ينشب في الظلام الحالك.
ولكن على أثر تلك الصور البهجة التي كانت ترسمها المخيلة قامت التذكرات المحزنة السوداء، أجل، إنها ذكرت حفلة الخطبة الراقصة ثم الحادثة الفاجعة التي جرت أثناء رجوعهم من أثينة، وهكذا كانت التصورات الأولى لديها كالحلم الجميل والتذكرات السوداء التي عقبتها كالحقيقة المحزنة تنجلي للنائم لدى استيقاظه من الرقاد.
فقضت تلك الوالدة المسكينة حينا في هذه الهواجس وهي تشعر بآلام مبرحة بانفرادها في تلك الغرفة، ثم قامت بعزم وخرت ساجدة على المصلى الذي كانت الراهبة «أغنس» تقضي عليه نصف لياليها، وقد شعرت من نفسها بحاجة ماسة إلى الصلاة.
ولما كانت حالتها تضطرها أن تخفي في قلبها الهموم والأحزان التي كانت تتآكلها فأصبح من اللوازم الضرورية لها أن تبيح بأمرها لله تعالى إله الرحمة ومهبط التعزية الحقيقية.
وكان على المركع الذي سجدت عليه كتاب صلوات وهو نفس الكتاب الذي كانت الراهبة تستعمله مصلية، ففتحته بلا انتباه رجاء أن تجد فيه صلاة تناسب حالتها، ولكن حالما وقع بصرها على الصفحة الأولى استثبتت أن اسما كان مكتوبا عليها وأن ذلك الاسم كانت محيت كتابته باعتناء فلم يبق منه إلا الحرف الأول وهو «الواو» مرسومة بالخط الثلث، فوقع الكتاب بغتة من يديها المرتجفتين، ولم يبق لها من استطاعة إلى الصلاة، بل ثار ثائرها، ونبض نابضها، واضطرب بالها، وشرعت تقلب أوراقه أشكالا وألوانا طمعا بأن تبدو لها دلائل جديدة. على أن مسعاها كان باطلا، فإن فحصها المدقق لم يجد تلك الوالدة التعيسة نفعا، فأضحى ذلك الحرف حرف «و» سببا لانشغال بالها وبابا للحذر والتخمين.
Page inconnue