وغير بعيد أن تكون صفة العزوف قد ساعدته في حياة الفكر كما ساعدته في أسباب المعيشة ومعاملة الناس؛ لأنها يسرت له أن يقف موقف الحيدة بين أبطاله وشخوص رواياته، فاستطاع أن يعطي كل شخص من أولئك الشخوص وجهة النظر التي تناسبه في الرواية وأن يلقي على لسانه كلامه الذي يطابق تلك الوجهة دون أن يتخلله بكلام المؤلف على حسب تفكيره وشعوره.
والعزوف - كما أسفلنا - صفة لا يظن لأول وهلة أنها تساعد صاحبها على النجاح وكسب رضا الناس، لولا أن العزوف في نفس متعددة الجوانب غير العزوف في النفوس الضيقة التي يستوعبها جانبها المحدودة فلا تتسع لغيره، إن العزوف في نفس قادرة على الاشتغال بمختلف الشواغل يلهمها أن تدع الناس وما يعنيهم وتتفرغ لما يعنيها من أعمالها، ومن عزف عن الناس فمن اليسير عليه أن يقول «لا يعنيني» وأن يجعل هذه القولة شعاره في علاقاته بغيره وسياسته لنفسه، وليس أيسر من كسب رضا الناس بهذا العزوف، ولا أقرب إلى النجاح ممن يعكف على شأنه ويصدف عن الفضول في مطالبه وأحواله.
ومهما يكن من أثر هذه الصفة في نجاحه بين زملائه فلا ريب أنها أكسبته ذلك السمت الرصين الذي كان يضمن له الكرامة في كل بيئة يتصل بها ويعيش بين ظهرانيها على قدر ورفق، فلا تمله ولا تنظر إليه نظرتها إلى المقتحم المتطفل عليها.
وكرامة الطبع هي التي خولته كرامة اللقب؛ لأنهم رأوه في بيئة الألقاب أهلا لحلة التشريف التي توجب لصاحبها أن يلقب بلقب السيد أو الجنتلمان، فكان سيدا بأدبه قبل أن يكون سيدا بلقبه، وتيسر له أن يدرك اللقب الذي لا يدركه كل من سعى إليه، وقد كان المتأدبون من نبلاء عصره يقربونه ويستقبلونه في مجالسهم بين خاصتهم وعشرائهم، وارتفعت منزلته في بلاط الملكة اليصابات فشملته برعاية أكبر من رعاية الفنان المستحسن على المسرح، واقترحت عليه تأليف الأدوار التي تحب أن تراها ممثلة على مسرح القصر، ومنها دور فلستاف في موقف غرام.
ولم يعرف في تاريخ ملوك الإنجليز أن أحدا منهم كتب بيده خطاب إعجاب إلى ممثل مؤلف غير شكسبير، فقد كتب له جيمس الأول خطابا خاصا لم يعهد إلى أمناء حاشيته أن ينوبوا عنه في تسطيره، بل سطره بيده، وظل الخطاب محفوظا إلى سنة 1870 ثم ضاع ولم يظهر له أثر بعد ذلك، ولكن الأستاذ هسكث بيرسون
Hesketh
يروي عن اللورد بمبروك
أن جده رآه واطلع عليه، وأن عمة من عماته عاشت إلى سنة 1920 رأت الخطاب في صباها.
وجدير بالملاحظة أن شكسبير لم يحفظ هذا الخطاب ، وإنما حفظه سير دافنانت
D’Avenant (الذي قيل إنه ابن غير شرعي لشكسبير)، ووردت أول إشارة إليه في تقديم قصائد الشاعر في طبعة لنتوت
Page inconnue