وهكذا أخذ جوني وكاتي يتحدثان طول الليل، وكان صوتهما وهو يرتفع وينخفض يبعث الاطمئنان والأمن في الظلام، وبلغت الساعة حينذاك الثالثة صباحا والشارع هادئ كل الهدوء، ورأت فرانسي الفتاة التي تسكن في الشقة الكائنة بالناحية الأخرى من الشارع تعود إلى البيت من إحدى الحفلات مع صديقها، ووقفا في مدخل بيتها يتعانقان، دون أن يتكلما حتى مالت الفتاة إلى الوراء وضغطت على الجرس دون أن تدري، فنزل أبوها بملابسه الداخلية الطويلة وأخبر الشاب بلهجة هادئة، ولكنها شديدة جارحة، بأنه يستطيع أن يذهب إلى حال سبيله، ولقنه ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، وجرت الفتاة صاعدة السلم وهي تقهقه قهقهة عصبية، على حين مضى صديقها الشاب هابطا في الشارع يصفر بلحن أغنية «عندما نتقابل الليلة».
وعاد إلى بيته السيد توموني الذي يملك محلات للرهون في عربة أنيقة بعد أن قضى ليلة في نيويورك، أنفق فيها الكثير، ولم يكن السيد توموني قد دخل محل الرهون الذي ورثه بمديره الكفء، ولا أحد يعلم لماذا يسكن السيد توموني في الشقة التي فوق المحل، وهو يمتلك مثل هذه الأموال، وكان يحيا حياة رجل أرستقراطي من نيويورك في حي ويليمسبرج، وأذاع عامل طلاء دخل شقته مرة، بأنها مزينة بالتماثيل ورسومات الزيت وقطع الفراء البيضاء، وكان السيد توموني عزبا، لا يراه أحد طول الأسبوع، أو وهو خارج لقضاء الأمسيات من أيام السبت، كانت فرانسي وحدها هي والشرطي صاحب النوبة يريانه حين يعود إلى بيته، وأخذت فرانسي تراقبه وهي تشعر كأنها متفرجة تجلس في مقصورة بمسرح من المسارح.
وكانت قبعته الحريرية العالية تميل على إحدى أذنيه، ونور الشارع يتلألأ على عصاه الفضية المحببة وهو يتأبطها تحت ذراعه، وقد أزاح إلى الخلف «حرملته» المصنوعة من حرير الساتان ليخرج من جيبه بعض النقود، وأخذ السائق أجره، ولمس بطرف السوط الغليظ حافة قبعته العالية، وهز أعنة الجواد، وراقبه السيد توموني وهو يقود العربة مبتعدا كأنما كانت العربة هي آخر صلة له بحياة اكتشف أنها طيبة ممتعة، ثم صعد إلى شقته الفاخرة.
وكان من المفروض أن يؤم الأماكن الفاخرة مثل فندقي ريزنويبرز ووالدروف، وصممت فرانسي على أن ترى هذه الأماكن يوما ما، أجل سوف تخترق في يوم من الأيام جسر ويليمسبرج الذي لا يبعده عنها إلا قليل من المناطق السكنية، وتشق طريقها في المدينة إلى نيويورك حيث توجد هذه الأماكن الجميلة، ثم تشبع عينيها من المناظر التي تبدو خارجها، وحينئذ تستطيع أن تقدر السيد توموني حق قدره.
وهبت ريح منعشة فوق بروكلين، آتية من البحر، ووصل إلى سمعيها صياح ديك من الشمال البعيد، حيث يسكن الإيطاليون ويربون الدجاج في أفنيتهم، ورد على الصياح نباح كلب من بعيد، وصهيل متسائل من الجواد بوب الذي يرقد هادئا في حظيرته.
وكانت فرانسي سعيدة بيوم السبت، تكره أن تقضيه في النوم، وقد جعلها خوفها من حلول الأسبوع تشعر بالقلق، فوعت ذكرى يوم السبت في مخيلتها، وكان يوما بريئا من الشوائب، اللهم إلا من الرجل المسن الذي ينتظر الخبز.
وفي ليالي الأسبوع الأخرى كانت فرانسي ترقد على فراشها، وتسمع من خلال بئر التهوية أصواتا مبهمة تصدر من العروس الشبيهة بالطفلة، التي تسكن في إحدى الشقق الأخرى مع زوجها سائق العربة الشبيه بالقرد، وانبعث صوت العروس عذبا مستعطفا وصوته خشنا آمرا، تعقب ذلك فترة صمت قصيرة، يبدأ بعدها غطيط الزوج، في حين تبكي الزوجة بكاء يستدر الشفقة، حتى يوشك الصباح أن ينبلج.
وكانت فرانسي إذا تذكرت نشيج العروس ارتعدت وارتفعت يداها بلا وعي تسدان أذنيها، ثم تذكرت أن ذلك حدث يوم السبت، وأنها كانت في الحجرة الأمامية حيث لا تستطيع أن تسمع الأصوات الصادرة من بئر التهوية، أجل كان لا يزال يوم السبت، وهو يوم ممتع، أما يوم الإثنين فلا يزال بعيدا يسبقه يوم الأحد الآمن، الذي تستطيع أن تفكر خلاله طويلا في زهر «أبو خنجر» ماثلا في الزهرية البنية اللون، وفي منظر الجواد بعد غسله، وهو يقف في أشعة الشمس والظل، وبدأ النعاس يغلب على فرانسي فأنصتت لحظة إلى كاتي وجوني، وهما يتحدثان في المطبخ، يستعيدان الذكرى.
وقالت كاتي: كنت في السابعة عشرة حينما رأيتك لأول مرة، كنت أعمل في مصنع كاسل بريد.
وقال جوني مستذكرا: وكنت في التاسعة عشرة حينئذ صديقا لصديقتك الحميمة هيلدي أودير .
Page inconnue